ما بعد خطاب أوباما.. نسخة جديدة للشرق الأوسط الكبير!
17 جمادى الثانية 1430
جمال عرفة
هل تتذكرون مشروع أو مبادرة (الشرق الأوسط الكبير) التي قدمها المحافظون الجدد المتطرفون في ادارة الرئيس الأمريكي بوش عام 2004 ، والذي كان هدفه – كما قالت واشنطن حينئذ - هو تحقيق "إصلاحات" سياسية وتعليمية واقتصادية واجتماعية في المنطقة العربية‏ ؟ هذا المشروع الذي كان يستهدف في الظاهر فرض إصلاحات علي العالم العربي واعتماد نموذج الاسلام العلماني الليبرالي التركي ، وفي الباطن تفتيت القوي الكبري في العالم الاسلامي وفق نظرية الفوضي الخلاقة ، كان تنفيذه وقتها معلقا بتحقق النصر الأمريكي في العراق وأفغانستان، ولكن الفشل في هذين الحربين ورفض الدول العربية "إصلاح مفروض من الخارج" عرقل تنفيذ هذا المشروع.
الآن لو دقق أحد في الثلث الأخير من خطاب أوباما للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة والذي ركز فيه علي التنمية الاقتصادية وبرامج التبادل العلمي للطلاب والدراسين ، سيجد أنه نسخة طبق الأصل لمشروع الشرق الأوسط الجديد الكبير الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول عام 2004 وتبنته أوروبا ورفضته الدول العربية وفشل تنفيذه تماما مع الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان وتوالي المشكلات علي ادارة الرئيس الأمريكي السابق بوش !!.
هذا المشروع القديم الذي يقوم على "دفع منطقة شاسعة تمتد من باكستان شرقاً إلى موريتانيا غرباً ومن تركيا شمالاً إلى الصومال جنوباً تجاه تطبيق حزمة من الإصلاحات المتعددة تبدأ بتشجيع الديمقراطية وتنتهي بالتعاون الاقتصادي، ويتخللها تطبيع عربي وإسلامي علي أوسع نطاق مع الدولة الصهيونية.. هو هو ما طرحه أوباما في خطابه الأخير للعالم الاسلامي .. وهي ليست مصادفة!.
أي أن خطاب اوباما يمثل نفس السياسة الأمريكية التي سبق أن طرحها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ولكن ما تغير هو الوجوه والإدارات وهو أكبر دليل علي أن السياسة الأمريكية لا تتغير وتديرها مؤسسات لها أهداف واضحة وارتباط بالمصالح الصهيونية ..وليس نوايا أوباما وحده؟
الفارق الوحيد هو أن بوش قدم هذه الخطة بعنجهية وصلافة وقلة أدب وكان خطيبا سيئا يتحدث عن حرب صليبية ضد العالم الاسلامي .. أما أوباما فقدم نفس الخطة وهو يبتسم ويقدم احتراماته للمسلمين وينحني لهم ويشيد بتاريخهم الانساني الكبير في إضاءة التاريخ للغرب في العلوم المختلفة !.
معالم هذا الشرق الأوسط الكبير - كي لا ننسي - هي أولا واخيرا التطبيع ثم التطبيع.. وخطته تتضمن ستة عشر بنداً فرعياً تتراوح بين: مساعدة الانتخابات الحرة، وتبادل الطلاب والدراسين ورعاية معاهد تدريب نسائية من أجل تأهيلهن على القيادة والمشاركة الانتخابية، ورعاية الأعمال التجارية، وتشجيع التعاون الاقتصادي، وغيرها!
تفاصيل المشروع
إذا ما نظرنا إلى المشروع الأمريكي القديم سنجد أنه يتحدث عن ضرورة أن تقوم مجموعة الدول الثماني في قمتها المقبلة في سي آيلاند – عام 2004 حينئذ - بصياغة شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وأن تتفق مجموعة الثماني على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
* تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
* بناء مجتمع معرفي.
* توسيع الفرص الاقتصادية.
ولكن المشروع الأمريكي – حينئذ – عالج هذه البنود الثلاثة الأساسية في ستة عشر بنداً فرعياً تتراوح ما بين مساعدة الانتخابات الحرة، ورعاية معاهد تدريب نسائية من أجل تأهيلهن على القيادة والمشاركة الانتخابية، إلى تمويل النمو، ورعاية الأعمال التجارية، وتشجيع التعاون الاقتصادي، وبناء مجتمع معرفي، وتدشين مبادرة للتعليم الأساسي، ومبادرة أخرى للتعليم عبر الإنترنت.
وكان لب هذه المبادرة هو العملية الديمقراطية وفرض هذا الاصلاح علي العالم العربي بطريقة فجة لم تتحقق ولكن بقي منها المشروع مكتوبا ومسجلا باسم المحافظين الجمهوريون الجدد ليتلقفه "المحافظون الديمقراطيون الجدد" في إدارة أوباما ويعيدوا تنقيحه وإخراجه في سبعة نقاط تحدث عنها أوباما في خطابه أبرزها الديمقراطية – الحرية الدينية – حقوق المرأة – التنمية الاقتصادية!
وعود بلا حلول
حضر أوباما .. ذهب أوباما .. خطب فينا أوباما بأسلوب خطابي بارع يخطف الألباب.. وعد أوباما وقال كلاما كثيرا دغدغ به مشاعر العرب والمسلمين .. قال "تمنيات" بحل مشاكل كل البشرية والعيش في سلام .. وزع أمانيه علي العرب والاسرائيليين والعراقيين والأفغان والأقليات الدينية وحتي الشباب والنساء واللييرالين المتطلعين لضغوطه من أجل الديموقراطية ، ولكن لم يقدم أي حلول وإنما وعود ، قد لا يأتي كما وعد سابقوه !.أوباما "البراجماتي" – أي الذي يبحث عن مصلحة ومنفعة بلاده – نجح في النصف ساعة الأولي من خطابه – المليء بالمواعظ والآيات القرآنية والعبارات العاطفية - في دغدغة مشاعر ملايين العرب والمسلمين وتغيير صورة بلاده في أذهان الكثير من العرب والمسلمين .. من كراهية أمريكا إلى حب رئيسها .
أولى استطلاعات الراي كشفت خداعه لكثير من البسطاء في العالم العربي والاسلامي بحديثه الخطابي البارع ولعبه بالكلمات برغم أن طائرات بلاده لا تزال تقتل يوميا إخوتنا في أفغانستان وباكستان والعراق وسلاحه في ايدي الصهاينة يحصد العشرات يوميا من أبناء فلسطين !
ولكن هذا الخداع البصري والكلامي الذي مارسه أوباما علي مسرح جامعة القاهرة على ملايين العرب والمسلمين – والذي لم يقدم حلولا وإنما استعرض موضوعات معروفة مسبقا - لن يدوم طويلا وسينهار وتتكشف حقائقه عندما تحين ساعة العمل وتحين ساعة الفعل وتظهر المواقف الأمريكية الحقيقية في التعامل مع قضايانا العربية والإسلامية.. في فلسطين وغيرها.. حينها فقط سنستفيق، وسيظهر الانحياز الأمريكي للصهاينة وتظهر حقيقة أوباما أو أمريكا.
علاقات غير قابلة للكسر !؟
ضمن هذه الخطة للإصلاح التي قدمها أوباما على أنها شراكة وتعاون وتبادل بين أمريكا والعالم الاسلامي، والتي هي بالأساس عملية غسيل مخ خصوصا للمبعوثين والدراسين العرب والصحفيين والإعلاميين في أمريكا ، وتستهدف تيسيير التطبيع بين الدولة الصهيونية وبين 22 دولة عربية كان حديث أوباما الصريح عن دمج "إسرائيل" في المنطقة والحفاظ علي أمنها .
هل لاحظتم ماذا قال أوباما عن الدولة الصهيونية في خطابه : ألم يقل أن العلاقات بين أمريكا و"إسرائيل" غير قابلة للكسر وأن الرابطة بين أميركا و"إسرائيل" لا يمكن قطعها أبدا أو تغييرها !؟ .. لماذا العلاقات مع "إسرائيل" غير قابلة للكسر أو التغيير في حين أن كل شئ قابل للتغيير في الوطن العربي والاسلامي (كما قال)؟
بل لقد انتقد الحكومات العربية لأنها "تلهي" شعوبها بقضية الصراع العربي "الإسرائيلي".. كأنه يقول للعرب أنسوا قضية فلسطين!!.
هل لاحظتم أيضا كيف سرب أوباما - ضمنا – في خطابه ، ملامح ما يعدنا به من مبادرة سلام قادمة بين العرب والصهاينة تقوم على التطبيع الكامل حينما قال إن مبادرة السلام العربية ليست نهاية مسؤوليات العرب ويجب عليهم أن يفعلوا المزيد ".. ودون أن يطالب الصهاينة سوي بوقف الاستيطان وكأن المستوطنات الحالية حلال!
هل كان يقصد بذلك طلب تطبيعاً عربيا مقابل هذا الكلام الذي قاله عن الاستيطان، وتعديلاً لهذه المبادرة العربية بما يُسقط حق العودة منها؟
وهل لاحظتم - بالمقابل - كيف كان حنينا وعطوفا وباكيا علي الصهاينة والمحرقة النازية، وتعاطف مع ما جري لهم علي يد قوي المقاومة الفلسطينية "الإرهابية" في حين تغافل تماما عن حصار غزة وما جري فيها من محارق صهيونية بالفسفور الأبيض وقنابل (الدايم) المفتتة لأعضاء الجسم والتي تفوق محارق النازي!
 
قلنا قبل أن يصل أوباما لمصر.. احترسوا من براجماتية ونفعية وخبث أوباما وإدارته.. فأوباما.. الحاوي الأمريكي الجديد.. الذي حضر لنا بعدما انهارت إمبراطورية بلاده طمعا في مواردنا، والذي يبحث عن استقرار الدولة الصهيونية بأي حل جزئي يسمح له بحشد الدعم العربي والإسلامي لاحقا لضرب إيران.. لا يبحث سوى عن مصالح بلاده ومصالح الصهاينة مقابل ثمن بخس يدفعه للعرب.
هذا الحاوي الأمريكي جاء لنا عارضا "نصف اعتذار"، عما فعلته بلاده من جرائم.. و"أنصاف حلول للمشكلات بين بلاده – ومعها الدولة الصهيونية - مع العالمين العربي والإسلامي، دون أن يقدم لنا اي حلول فعلية.. ظلت آلة أوباما الكلامية تجعجع طوال الخطاب ولكن دون أن نرى طحينا!
مشكلات للأنظمة !
خطاب أوباما مع هذا سوف يفجر مشكلات كثيرة للحكومات العربية والاسلامية :
-                   فهو عندما تحدث عن الأقليات تحدث بخبث واضح عن مشكلة الأقلية القبطية في مصر ما دعا وزارة الخارجية المصرية للاحتجاج علي هذا التصريح خصوصا أن منظمات قبطية مصرية طالبته بالتدخل في شئون مصر لهذا الغرض.. كما تحدث عن الموارنة في لبنان فيما يعد ثاني تدخل أمريكي فاضح في الانتخابات التي أجريت في (7 يونيو) في الشأن اللبناني الداخلي.
-                   المشكلة الأخرى التي قد يثيرها خطاب أوباما للحكومات العربية هي الديمقراطية.. فعندما تحدث عن الديمقراطية في العالم العربي تعمد إحراج الأنظمة بصورة ملفتة تارة بالتلميح أنها تربط بين تطبيق الديموقراطية الحقيقية بالمتاجرة بقضية فلسطين، وتارة بمطالبتها بسماع صوت الشعب واحترام حكم القانون وانتقاد ما أسماه "قمع حقوق الأخرين بوحشية وقسوة" ومطالبته الحكومات بـ"الامتناع عن نهب أموال الشعب"!
-                   أما المشكلة الثالثة والخطيرة التي طرحها خطاب أوباما وسببت قلقا شديدا علي ما يبدو للحكومات العربية والإسلامية فتتلخص في أن تركيزه – في الخطاب – على أحكام الاسلام والمرجعية الإسلامية - ومنها دفاعه عن لبس الحجاب - يحرج العديد من الحكومات العربية التي لا تستند في حكمها لهذه المرجعية الإسلامية، والتي يمنع بعضها – مثل تونس- لبس الحجاب أصلا! 
 
ما قدمه أوباما في خطاب القاهرة هو بلا شك إبداء لنوايا حسنة، وإظهار لرغبته في مصالحة تبدو لأول وهلة جدية، ولكن إبداء النوايا وحده لا يكفي، والرغبات لا بد أن يواكبها إعادة الحق المنهوب لأصحابه .. التعاطف الذي حصل عليه بعد خطاب القاهرة بسبب قدراته الخطابية الفذة قد يتبخر بأسرع مما يتصور وينهار كجبال الزبد المنصهر اذا لم يترجمه الى خطوات عملية واضحة أقلها وقف آلة القتل في باكستان وأفغانستان والعراق والانسحاب الكامل، ولجم الآلة الحربية الصهيونية ورفع الحصار عمن يتعرضون لمحارق صهيونية يومية في غزة وكل من فلسطين.