السياسة الأمريكية الجديدة.. قفاز مخملي في نفس اليد القاتلة!
12 جمادى الثانية 1430
ياسمينة صالح







كيف يمكن التعاطي مع الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" من القاهرة؟ هل يمكن تصديق أن السياسة الأمريكية تتغير في ظرف أربعة أشهر و أن أمريكا جورج دابليو بوش انتهت إلى غير رجعة؟ يمكن تصديق ذلك ـ عن حسن نية أو عن غباء ـ لو أن السياسة الأمريكية عبارة عن رجل واحد، وإن ذهب جورج بوش إلى الجحيم، فهذا لا يعني مطلقا ذهاب السياسة الأمريكية التي تبناها والمتمثلة ببساطة في مؤسسات قائمة بذاتها، وليست أبسط من مركز الاستعلامات الأمريكية الذي يعد المحرك الرئيسي للسياسة نفسها في الخارج، ناهيك على تراكمات تلك السياسة والمتمثلة في الحروب التي تسببت فيها إدارة بوش في العالم، ليس آخرها الكارثة الرهيبة التي حدثت للعراق، زد على ذلك أن وزيرة خارجيته ليست أكثر من متصهينة ومتطرفة تبدو يهودية أكثر من اليهود أنفسهم، ولها شطحات سياسية كثيرة من الصعب محوها والتي تتخلص ببساطة في عبارة: الموت للمسلمين، وقد قالتها بأكثر من طريقة في "إسرائيل" نفسها عندما وقفت أمام الجدار المبكي لتقول لليهود: "لن نقف موقف المتفرج وسوف نساعدكم على القضاء على الإرهابيين."  كان الإرهابيون في نظرها هم حركة حماس الفلسطينية وهم الفلسطينيون المطالبون بالأرض، متناسية أن حماس نفسها وصلت إلى السلطة عبر صندوق الانتخابات الديمقراطي، وأن الشعب نفسه من أوصلها إلى السلطة وليس الدبابة الأمريكية كما حدث في العراق أو في أفغانستان! المشكلة تبدو اليوم متشعبة، لأنها صارت متداخلة في مصطلحاتها المستعملة ولأن أمريكا تعيش أبشع مأزق في تاريخ وجودها و"باراك أوباما" يعرف أن مفتاح الحل يأتي من الشرق الأوسط، ومن دول نفطية قادرة على " مساعدة أمريكا ماليا" وإنعاش اقتصادها المحتضر لتجاوز الإفلاس المستمر الذي ما فتئت الشركات الكبرى تعلنه الواحدة تلو الأخرى مخلفة آلاف العمال الذين أصبحوا فجأة عاطلين عن العمل، و"باراك" يحتاج أيضا إلى مساعدة دول الشرق الأوسط سياسيا لأجل "خنق المقاومة العراقية"، للسماح للجنود الأمريكيين "بالتنفس" ومنح الحكومة العراقية فرصة العمل بإشراف مباشر من الإدارة الأمريكية، دون نسيان المقاومة الفلسطينية التي "لا بد" من السيطرة عليها ومن ثم القضاء عليها لمنح "إسرائيل" أسباب الاستيطان في القدس التي تحاول أن تصنع ديمجرافية جديدة بطرد السكان العرب نحو المدن والقرى المجاورة لتكون القدس ذات الأغلبية السكانية، ولأن "أوباما " لن يكون عربيا أكثر من العرب أنفسهم، ولأنه يدافع صراحة عن المصالح الأمريكية فهو مستعد أن يضع يده في يد الشيطان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سفينة تركها بوش مثقوبة وقاب قوسين أو أدنى من الغرق! إنه يريد إنقاذ إمبراطورية يؤمن بها ولن يهم بعدئذ على حساب من أو ماذا يقوم إيمانه هذا!

 

 

أمريكا في خطر!

قبل أشهر، نشرت مجلة "ليكونومي أنترناسيونال" الفرنسية ملفا عن الخسائر الأمريكية بسبب الأزمة المالية الحالية، حيث ذكرت المجلة أن جورج بوش الذي تسبب في تلك الخسائر وهرب من السفينة بانتهاء عهدته الرئاسية، لم يكن في النهاية أكثر من جوكر في رقعة شطرنج أدارها الجمهوريون ذو التوجه اليهودي المتطرف معتقدين أن بإمكانهم السيطرة على الدول الثرية، منها العراق (النفط) ومنها أفغانستان (الزمرد) عبر الحرب المباشرة، والسيطرة على دول أخرى عبر التخويف، فكل حرب قام بها الأمريكيون كانوا يريدون بها القضاء على نظام بعينه من جهة، وترهيب دول أخرى بنفس المصير، فالضربة القوية لها دائما صداها، وكان ذلك الصدى هو الرقعة التي ظلت تشتغل فيها الإدارة الأمريكية بعسكريها وسياسييها على حد سواء، وواصلت المجلة تقول أن الأزمة المالية التي كانت ردة فعل عن رقعة الحروب التي فتحتها الإدارة الأمريكية منذ 2001 في دول كثيرة من العالم كان من المنطقي أن تضخ الإدارة الأمريكية المال لاستمرارها، ناهيك عن الأموال التي كانت تدفع داخل رقعة الثورات الوردية هنا وهناك والتي استنزفت الاقتصاد الأمريكي كله، وصار من الصعب العودة إلى النقطة الصفر، وتوقعت المجلة أن الأزمة المالية ـ في حال عدم إيجاد حلول لها ـ سوف تستنزف الاقتصاد الأمريكي إلى حد الانهيار، ناهيك على أن الظروف الاقتصادية المتراجعة داخل أمريكا قد تتسبب في ثورات داخلية أسبابها قديمة وقد تنجح الأزمة المالية في تفجيرها بشكل مدوي، مضيفة أن العدد الكبير من المؤسسات التي أعلنت إفلاسها منذ السنة الجديدة يوحي بكارثة عظمى سوف تنعكس آليا حتى على الدول التي كانت تحظى بالدعم الأمريكي لها منها "إسرائيل" نفسها. فهل وصلنا إلى بداية النهاية؟ ما حدث أن أمريكا ظهرت على حقيقتها منذ أحداث سبتمبر 2001، وأن سياسة " سايكس- بيكو " التي حاول قصور البيت الأبيض استنساخها في طبعة جديدة عبر جملة من التقسيمات الدولية تصب آليا لصالح الصهاينة، ولكنها فشلت في هدفها، ولحسن الحظ أنها أنتجت بالمقابل فتحات في دول كثيرة استطاعت أن تجابه الغول الأمريكي، وأن تتحداه بكل جبروته، تلك هي الثورات الحقيقية التي لم تحسب لها أمريكا أي حساب، ففي أفغانستان، خسر بوش الحرب مرتين، وخسر كل الرهانات التي كان يضعها المحافظون الجدد نصب أعينهم للاستيلاء على جبال الزمرد ضمن خطة CA3 التي كان يراد بها فتح قاعة عسكرية دائمة في أفغانستان "الديمقراطية" ! لكن الذي حدث أن قتلى الأمريكيين هناك لم يعد محتملا، والمقاومة العراقية زادت الضربة إلى الغزاة عندما صنعت منهم أضحوكة، فأمريكا هوليود البطل الأحادي الذي لا يقهر انهزمت في العراق، وعلى أيدي عراقيين يؤمنون بالأرض ويرفضون الديمقراطية الآتية على ظهر الدبابات المتصهينة.

لقد خسرت أمريكا في خمس سنوات ما لم تخسره في سبعين سنة، ولم يعد ممكنا التفكير في الحل الذي بدا صعبا في ظل تفاقم الأزمة المالية التي صادفت تراجعا كبيرا في أسعار النفط، بمعنى أن الدول النفطية التي لن تكون بمنأى عن الأزمة المالية لن تستطيع أن تساهم في إعانة أحد طالما النفط الذي يشكل عنصرها الأهم منخفض سعره، وطالما أن الفورة الشعبية وصلت اليوم إلى ذروتها والتي لم يعد يختلف فيها اثنان بأن أمريكا هي الوجه القبيح من العالم، و"إسرائيل" وجهه الأقبح الآخر!

 لقد وصل المشكل إلى ذروته بإعلان أهم المؤسسات الأمريكية لصناعة السيارات عن إفلاسها فاتحة المجال لعالم البطالة لأكثر من 300 ألف شخص. إنها الكارثة!

 

أوباما و المسلمين !

هل يمكن القول أن الرئيس باراك أوباما سيكون مختلفا عن سابقه؟ وعلى أي أساس سيكون مختلفا إن صدقنا ذلك؟ نحن نعي جيدا أن السياسة التي صنعها المجرم جورج دابليو بوش كانت مرتبة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الدب الروسي، وتحوُّل أمريكا إلى قوة عظمى، كان واضحا أن بعد القضاء على الشيوعية أن ثمة هدفا آخر سيسعى المحافظون الجدد للقضاء عليه ألا وهو الإسلام، وعندما نقول "المحافظون الجدد"، لا نعني فقط الجمهوريون، بل نعنى ثقافة جاهزة أسسها المفكر الأمريكي الصهيوني" كيفن فيليبيس" الذي ظاهر كتاباته "عقلانية" وباطنها رغبة في اتساع رقعة السلام وفق الطموح "الإسرائيلي" الراغب في السيطرة على كل العالم، وإن بدا "كيفن فيليبيس" ضد سياسة أمريكا الخارجية فلأن تلك السياسة تسببت في تزايد حدة كراهية العالم للأمريكيين وتسبب في ظهور فكر ثوري جديد يقوده شباب في العديد من دول العالم بالخصوص في دول العالم الثالث، والعالم العربي والإسلامي، فأن تنشر مجلة ألمانية أن 65% من الألمان لم تعد نظرتهم إلى أمريكا جميلة مثلما كانت فهذا يعني شيء جديد وهو الذي لم يكن مسموح به بالنسبة لمنظري البيت الأبيض، وكان " كيفن فيليبيس" قد نادى في أكثر من مرة إلى ضرورة التحالف "الإسرائيلي" الأمريكي، لأجل تحقيق توازن كامل في العالم وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، فـ"إسرائيل" تستطيع مساعدة الأمريكيين عسكريا في الشرق الأوسط بشكل لا يمكن لدولة أخرى أن تفعله، وهي الرسالة نفسها التي حملها المحافظون الجدد منذ أحداث 2001 لأجل أن تكون ثمة دولة قوية في الشرق الأوسط تساعد أمريكا في مشروع الهيمنة الذي تبنته بإعلان حروبنا وهناك، حيث كانت الرسالة واضحة: "إسرائيل هي الحارس الوحيد والقوي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ولأجل تدعيم هذه القوة على الأمريكيين خلق أسباب جديدة لتفتيت المنطقة، وخلق مشاحنات بين الدول نفسها، وجعل السلام الوحيد الممكن ينطلق على أساس نبذ العنف ( !) أي تقليم أظافر المقاومة بشكل نهائي دون أدنى ضمانات سوى "السلام" الذي لا تتحدد جغرافيته ولا حدوده، باعتبار أن الشؤون الفلسطينية سوف تظل تحت إشراف إداري وسياسي "إسرائيلي"!

ما حدث أن المشروع الهمجي لبوش سقط في الحضيض بفضل كل المقاومين الرافضين الخضوع للظالمين، إذ إن المقاومة العراقية نفسها تشكلت من الداخل كمقاومة ضد المحتل، استطاعت أن تصنع لنفسها قوة حقيقية بإمكانيات متواضعة، ناهيك عن الخسائر الجسيمة التي تكبدها الأمريكيون على أيديها، وهي الضربة التي لم يتوقعها أحد، باعتبار أن المحافظين الجدد راهنوا على عامين فقط لجعل العراق "يمشي على العجين ولا يلخبطه"! لكن سقطت الحسابات في الماء! فالدول المحتلة لا يمكن أن تبقى محتلة إلى الأبد، والمقاومة هي الدفاع عن الأرض والعرض تبيحه كل الدساتير الدولية، بحيث أن المصطلحات نفسها تقول أن احتلال الدول بلغة السلاح، لا يمكن حله إلا بنفس اللغة.

لقد جاء أوباما إلى مصر لمخاطبة المسلمين وهو يحمل تراكمات سياسة همجية تسببت في ملايين الأرامل والمفجوعين في العالم، مثلما تسببت في دول ينهشها الخراب وتنهشها المجاعة، فكيف يمكن أن نصدق أن "باراك أوباما" الذي يدافع عن حقوق "إسرائيل" في الوجود، سيمنح الفلسطينيين نفس الحقوق، وهو الذي يقول أنه يرفض ترويع أطفال "إسرائيل" بصواريخ القسام، فماذا عن أطفال غزة التي روعتهم أفظع القنابل المصنعة في أمريكا؟

لقد جاء أوباما وهو يمد يده إلى المسلمين دون أن يحدد المخارج التي يراها فعلية للأزمة السياسية القائمة، فهل يمكن ردع المقاومة العراقية في ظل الاحتلال الأمريكي؟ وهل يمكن الحد من المقاومة الفلسطينية في ظل الذل والتجويع والاعتداءات المبرمجة التي يرتكبها الصهاينة ضدهم؟ وهل يمكن الحديث عن سلام ممكن دون أن يتم تهديم المستوطنات "الإسرائيلية" التي أكلت في ظرف سنة ثلث المناطق الفلسطينية في شتى المناطق؟ وكيف يمكن الحديث عن دولتين في ظل تهويد القدس وسحب حق العودة؟ أم أن الخيار المتبقي هو جعل "رام الله" دولة فلسطينية برئاسة محمود عباس الذي انتهت صلاحيته الدستورية منذ أشهر؟!

تلك هي الأسئلة المصيرية التي لا نظن أن ثمة سلام ممكن في غياب الرد عليها عمليا بعيدا عن الخطابات الرنانة التي لم تعد تطعم ولا تسمن من جوع!