خطاب أوباما من القاهرة..لا عزاء لليبراليين العرب
16 جمادى الثانية 1430
د. محمد مورو




مع كل التقدير والاعتراف بقدرات أوباما الخطابية ، وخلفيته الثقافية الجيدة ، فإن خطابه الذي ألقاه من جامعة القاهرة ، جاء مخيباً لآمال الكثيرين على أكثر من مستوى .

ومن وجهة نظري ، فإن الخطاب ليس به أي جديد ، سوى تخليه الواضح والصريح عن الليبراليين المصريين خصوصاً ، والعرب عموماً وهو ما شكل صدمة كبيرة لهؤلاء ، فضلاً عن التأكيد من جديد على السمة الرئيسية لشخصية أوباما ، ومن ثم سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة ، وهي سمة البراجماتية حتى النخاع ، وليس شيئاً آخر .

الخطاب بالطبع اشتمل على قضايا أخرى ، ولكنها كانت كلها في نفس الإطار الذي تم – الذي تم الإعلان عنه من قبل . وقد ركز أوباما في خطابه على سبع قضايا هي العنف والتطرف ، والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب ، والمسئولية المشتركة حيال السلاح النووي ، والديمقراطية ، وحرية الأديان ، وحقوق المرأة ، والتطور والفرص الاقتصادية .

بخصوص مسألة الديمقراطية – وهي مسألة اعتمد فيها الليبراليون المصريون والعرب على دعم أمريكي قوي وواضح ، فإن آمال هؤلاء قد تبددت تماماً ، وقد استبان لهم الآن ، أن المراهنة على الخارج في تلك القضية هو رهان خاسر ، وأن من الممكن للقوى الكبرى أن تبيع هؤلاء أو غيرهم في أول منعطف ، وقد حدث هذا بالفعل بالنسبة للرئيس أوباما ، الذي جاء ليلقي خطاباً من مصر ، رغم وجود مزاعم حول الاستبداد والفساد ، بل أشاد بالرئيس المصري حسني مبارك قبل مجيئه مباشرة قائلاً " أن الرئيس مبارك قوة استقرار في المنطقة " ، وأشاد بأسلوبه في التعامل مع عملية السلام الفلسطينية "الإسرائيلية" برغم صعوبة هذا الأمر ، وأن مبارك لم يلجأ إلى الغوغائية وحافظ على السلام مع "إسرائيل" ، وفي خطابه الذي ألقاه أوباما من القاهرة أنهى الرجل أوهام الليبراليين المصريين والعرب تماماً ، حين اعتبر أنه لا يمكن فرض نظام حكم على شعب من الشعوب وأنه ليس بصندوق الانتخابات فقط تتحدد الحرية ، وأن لكل مكان خصوصياته الثقافية والسياسية ، وهو كلام كان يقول به أطراف معروفة بعدائها لليبراليين والليبرالية ، فمنهم من يرى أن الحصول على الحرية لا يتم إلا بجهد داخلي خالص ، وأن التدخل الأجنبي في هذا الصدد يفسد القضية ويضعف طلابها ، وهؤلاء كانوا يريدون الحرية ولكن عن طريق العمل الداخلي البحت والجهد الوطني الخالص ، ومنهم من كان يردد هذا الكلام تبريراً للاستبداد ودعماً له ، وطريقة لحشد الشعوب مع الحكومات المستبدة لمواجهة التدخل الأجنبي ، وفي كل الأحوال وأياً كانت النوايا ، فإن تبني أوباما لهذا المنطق ، عن حق أو باطل ، هو في المحصلة النهائية نوع من التخلي عن الليبراليين العرب والمصريين وهو أمر ربما يساهم في إنهاء هؤلاء الناس حيث أنهم لم يكونوا يتمتعون أصلاً بأي عمق جماهيري ، ولم تكن قوتهم إلا استناداً على الدعم الخارجي عموماً والأمريكي خصوصاً .

لماذا تخلى أوباما عن الليبراليين العرب وخذلهم ، ولماذا فضل التعاون مع حكومات موصوفة بالاستبداد على المراهنة على المبادئ والقيم الأمريكية المزعومة حول الحرية والديمقراطية وهو يعرف بالضرورة أن تلك الحكومات تقتل معارضيها وتعذب منتقديها وتفرض الطوارئ لعشرات السنين وتزور الانتخابات المسألة أن أوباما له مهمة أكبر من ذلك كلفته بها المؤسسة الأمريكية ، وهي تحقيق حل الدولتين في فلسطين على أساس أن ذلك ضروري لأمن الولايات المتحدة ، وضروري لمصلحة "إسرائيل" لأن سياسات اليمين "الإسرائيلي" سوف تقود إلى انهيار "دولة إسرائيل" وربما زوالها ، وهناك الكثير من الصهاينة في أمريكا و"إسرائيل" وأوروبا ، بل وحكماء وسياسيون من الولايات المتحدة وأوروبا يرون أن حل الدولتين هو الطريقة لإنقاذ "إسرائيل" من نفسها ، وقد قال رئيس الوزراء السابق توني بلير نفس الكلام باللفظ ، قال يجب إنقاذ "إسرائيل" من نفسها ، لأنه لو لم يكن هناك حل الدولتين ، فإن البديل هو حل الدولة الواحدة متعددة القوميات ، وهذا يشكل خطراً ديموجرافياً على "إسرائيل" ، وإن لم يكن هناك حل ، فهي دعوة لسيادة منطق المقاومة وهو بدوره خطر على "إسرائيل" أما حل الدولتين ، الذي دعا إليه الرئيس أوباما في خطابه بصراحة فهو يحقق تهدئة للأوضاع الفلسطينية ويسحب القضية من المنظور العربي والإسلامي ، ومن ثم يضعف حركات "التمرد" العربي والإسلامي عموماً ويعزلها عن القضية الفلسطينية ، وهذه الدولة أو الدويلة الفلسطينية ستكون مرتبطة اقتصادياً بـ"إسرائيل" ، ومرتبطة أمنياً ومحاصرة من البر والبحر والجو ، وعن طريق الطرق الالتفافية وغيرها بالقوة "الإسرائيلية" ، ومن ثم فهي مجرد كانتونات ومعازل للفلسطينيين – أكثر من هذا فإن دعوة أوباما إلى ذلك مع معارضة حكومة "إسرائيل" ، سيعطي الفرصة لغسل وجه أمريكا في المنطقة ، باعتبارها لا توافق "إسرائيل" على كل شيء ، بل تختلف معها لصالح العرب والفلسطينيين ، ومن ثم فإن على العرب والفلسطينيين دعم أوباما المسكين بتغيير المبادرة العربية في اتجاه المزيد من التنازلات وإلغاء حق العودة ، والضغط بكل الوسائل على حركات المقاومة الفلسطينية ، والغريب أن أوباما الذي دعا إلى حل الدولتين وتحدث عن معاناة اليهود التاريخية لعدة قرون وحدد الرايخ الثالث وهتلر والنازية كأحد مضطهدي اليهود وتبنى الرؤية اليهودية حول 6 مليون يهودي تم إحراقهم في أفران النازي ، تحدث فقط عن معاناة فلسطين ، دون أن يقول لنا كم عدد القتلى من الفلسطينيين الذين قتلتهم "إسرائيل" ، وكم عدد الجرحى والأسرى وكم عدد المشردين وما هي حقوق هؤلاء تجاه الجاني ، وهل من العدل ترك الجاني طليقاً ، بل عدم الإشارة إلى "الإسرائيليين" كجناة في هذا الصدد ، وكأن شياطين الجن وليس "الإسرائيليون" هم من قتل وجرح وشرد الفلسطينيين ، وهو ازدواج معايير مروع مارسه أوباما علناً في خطابه ، وكأنه يخاطب جهلاء ! ! .

على مستوى القضايا الأخرى ، فإنه لا جديد قاله أوباما ، فالحديث عن احترام الإسلام المتسامح ، وضرورة تعاون الحضارات والاستشهاد بآيات من القرآن فعله أوباما من قبل في خطابه الأول في واشنطن عقب تسلمه مقاليد الرئاسة في 20 يناير 2009 ثم في أنقرة من خلال البرلمان التركي ، ولكن من المفيد هنا أن نذكر أوباما وغير أوباما ، أن شعوب هذه المنطقة ، رغم تخلفها الظاهر – تمتلك حساً ثقافياً وحضارياً عميقاً جداً ، وأنها لا تكترث بالأقوال بل تريد أفعال ، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تم حل مؤسسة خيرية إسلامية " الأرض المقدسة " وتم إصدار أحكام على رؤسائها بمدد تزيد على خمسين عام لبعضهم أو قتل لبعضهم الآخر ، وقد ثبت أنها كانت توزع أموالاً على الأرامل والأيتام والعجزة ، وكذا ما يحدث مع الدكتور سامي العريان ، الذي لا يزال محتجزاً ومتهماً في عهد أوباما بعد عهد بوش ! ! . ولماذا لا ينشر أوباما صور التعذيب في سجن أبي غريب ، بل لماذا لم يدع أوباما مثلاً إلى إنهاء الحصار على غزة ، أو تعويض مئات الآلاف من ضحايا حربه في أفغانستان والعراق وباكستان ، بل لماذا دفع الحكومة الباكستانية إلى إشعال حرب أهلية ضحاياها من الباكستانيين في وادي سوات وهي الحرب التي توصف بأنها حرب أوباما الأولى ، وإذا كان أوباما يريد إطفاء نار الحرب في العراق ، فلماذا يزيدها اشتعالاً في أفغانستان .

والأكثر إثارة للاستفزاز هنا أن أوباما يريد دعم عربي وإسلامي في أفغانستان وباكستان مقابل تعهده بحل الدولتين ، بل ويريد تطبيعاً عربياً "إسرائيلياً" مقابل هذا التعهد .

وكما قلنا فإن أوباما لم يأت بجديد ، فما قاله بخصوص العراق وأفغانستان هو نفس كلامه في حملته الانتخابية ، الانسحاب من العراق ، وإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان ، وكأن أفغانستان وباكستان ليست جزءاً من العالم الإسلامي ، أما كلامه حول حقوق المرأة وقضايا التسلح النووي ، والتنمية الاقتصادية ، فهو كلام جميل مرسل لا يسمن ولا يغني من جوع ويدخل في إطار العبارات الإنشائية يتمتع بها السامع دون أن يكون لها أي مردود عملي .

جاء أوباما إلى القاهرة وألقى خطابه منها وأشاد بالأزهر كجامعة لها ألف عام من الوجود ، وأنه فضل إلقاء خطابه من جامعة القاهرة ذات المائة عام لأنه ينحاز إلى العلمانية ، ولا يريد أن يوصف بالانحياز إلى الأصولية الدينية لو ألقى خطابه من الأزهر ، وهذا أمر مفهوم وبديهي ولا يحتاج إلى تعليق أو نقد ، أما أخطر ما في الموضوع فهو أن البعض بشرنا بأن أوباما هو المهدي المنتظر ، وليس مجرد مسيخ دجال ، وأنه صادق وواضح ، وأنه يريد بالفعل نزع فتيل الحرب والعنف في العالم ، وكأننا نحن من نمارس العنف فقط ، وليس الجيش الأمريكي مثلاً في العراق وأفغانستان ، وكأننا فقط منا المتطرفون وليس في "إسرائيل" متطرفون بدرجة وزراء خارجية بل ورؤساء وزارات بل إن البعض تورط في القول أنه يثق في أوباما ويشكك في قدرته ، على أساس أنه غير قادر على تحقيق وعوده لأنه سيواجه من هم أقوى منه من لوبي صهيوني ، ومجمع صناعي عسكري وجماعات ضغط أمريكية ، وهو تبسيط مخل للموضوع ، لأن أوباما يمثل مؤسسة هي التي رسمت له هذه السياسة لغسيل وجه أمريكا القبيح ولإنقاذ إسرائيل من نفسها ، وخطورة المنطق السابق ، أنه يدفعنا إلى محاولة مساعدة أوباما بكل الطرق الممكنة ولا نتركه مسكيناً أمام تلك القوى الجبارة ، ومن هذه الطرق الممكنة المزيد من التنازلات حتى لا نحرج الرجل أمام القوى المتربصة به.