قاعدة عسكرية فرنسية في قلب الخليج العربي
10 جمادى الثانية 1430
عماد خضر

افتتحت على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة وتحديدا في إمارة أبوظبي قاعدة عسكرية فرنسية دائمة هي الأولى من نوعها التي تفتتحها فرنسا منذ انتهاء عهد استقلال الدول الأفريقية وأيضا الوحيدة لها في منطقة الشرق الأوسط . تم الافتتاح بحضور ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد والرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي خلال زيارته إلى دولة الإمارات في 25 – 27 مايو 2009 وركزت الزيارة على التعاون في أربعة قطاعات استراتيجية رئيسية هي: الدفاع، والاقتصاد، والتعاون في مجال استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية، والثقافة، والتعليم، حيث تم التوقيع على اتفاقيتين رئيسيتين دفاعية وأمنية، فضلا عن مذكرتي تفاهم، الأولى تتناول التعاون في التمثيل الدبلوماسي، والأخرى خاصة بالتعاون بين الصندوقين السياديين الفرنسي والإماراتي للاستثمارات. وحتى نعرف الأهمية التي تشغلها دولة الإمارات في الاستراتيجية الفرنسية نورد تصريح الرئاسة الفرنسية التي أكدت أن الشراكة مع أبوظبي مثالية بل وحيدة من نوعها، ووصفت زيارة ساركوزي بأنها بالغة الأهمية بالنظر لأهمية السوق الإماراتية بما في ذلك السوق الدفاعية بالنسبة لفرنسا وللشركات الفرنسية .

 

وخلال مراسم الاحتفال التي حضرها كبار المسئولين في دولة الإمارات، تم رفع العلمين الفرنسي والإماراتي على القاعدة التي تحتوي على سفن حربية. ورافق الرئيس الفرنسي وفد وزاري ونيابي وعدد من رجال الأعمال والصناعة والطاقة الفرنسيين، خاصة مسئولين عن شركة داسو الفرنسية المختصة بصناعة الطائرات؛ حيث دخلت  دولة الإمارات في مفاوضات من أجل شراء ستين طائرة فرنسية مقاتلة من نوع "رافاييل". وينتظر أن تبيع فرنسا لدولة الإمارات مفاعلا نوويا للطاقة السلمية، فضلا عن عقد اتفاقية أخرى بشأن تطوير حركة النقل العام وإقامة شبكة للمترو في مدينة أبو ظبي. ومن هنا نجد أن التعاون الفرنسي الإماراتي يتسم بالتنوع بين التعاون العسكري مرورا بتوقيع اتفاق نووي وصفقات لشراء طائرات قتالية ومعدات عسكرية، وانتهاء بتعاون ثقافي وتعليمي على مختلف المستويات.
وتمهيدا للحديث عن التطور النوعي الذي دخل على العلاقات الفرنسية الإماراتية تحديدا، علينا اولا إلقاء الضوء على العلاقات الفرنسية الخليجية من منظور عام، لتقريب الأمر للقارئ، حيث ترتبط فرنسا مع دول مجلس التعاون الخليجي الست بعلاقات شاملة ترسخت في الفترة الأخيرة على المستوى السياسي والدفاعي والأمني، علاوة على الجانب الاقتصادي المتمثل في المفاوضات بشأن عقد اتفاقية للتجارة الحرة بين الدول الأعضاء في المجلس والاتحاد الأوروبي، وتصاعد حجم التجارة الثنائية بين دول المجلس وفرنسا، فضلاً عن مساعي الأخيرة بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن وفي الترويكا الأوروبية وقوة نووية، للتأثير على تطورات الأحداث الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي ولكن من البوابة الأمريكية التي تتقاطع مصالحها معها، علاوة على مساعيها للتوصل إلى تسوية للأزمة النووية الإيرانية.

إذن وصلت العلاقات بين الجانبين مستوى عاليًا من الفاعلية وأخذت ترتكز على التواصل السياسي، والشراكة الاقتصادية، والتعهدات الفرنسية في الأمن والدفاع. فعلى الصعيد السياسي، تنظر فرنسا الى دول الخليج باعتبارها شركاء وأطراف رئيسية في أي حوار يتعلق بقضايا المنطقة العربية وللأوضاع السائدة في منطقة الشرق الأوسط ومن هنا تكثفت إلى حد بعيد جولات الحوار السياسي على المستويات كافة، وتبنى الجانبان مواقف متقاربة نسبيا حيال القضايا الإقليمية، ومثال ذلك التقارب الخليجي الفرنسي حول لبنان، فدول مجلس التعاون الخليجي عموما، وفي مقدمتها السعودية، لعبت دورًا مهمًا في إحلال الاستقرار في لبنان ومد يد العون إليه؛ للحفاظ على سيادته في أعقاب الحرب الأهلية وقد أنهى أن اتفاق الطائف في أكتوبر 1989الذي أطلق بمبادرة سعودية القتال يشكل أساسًا. إضافة لذلك فلقد اقترحت فرنسا صيغة قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1559، وما تزال مصممة بقوة على ضمان خلو لبنان من أي تدخلات أجنبية، ولابد من الإِشارة إلى الدور الذي لعبته فرنسا في إقناع سوريا بسحب قواتها من لبنان.

 

كما تشارك فرنسا دول الخليج الهواجس والغايات نفسها فيما يخص العراق، ومنها وقوف فرنسا إلى جانب العراق ووحدته وسلامة أراضيه، والدعوة إلى حوار سياسي تشارك فيه الأطراف المعنية جميعًا. كما تتبنى فرنسا فكرة أن إعمار العراق لابد أن يكون شاملا يسهم فيه القوى السياسية في البلاد، مع ضرورة تحديد موعد نهائي معقول تنسحب فيه القوات الأجنبية، على أن يتفهم الجميع أن هذا الانسحاب ينبغي أن يتم تنظيمه بالتنسيق مع السلطات العراقية، وتماشيًا مع مسار العملية السياسية.
وعلى الصعيد الاقتصادي نجد أن هناك حركة تجارية نشطة آخذة في التعاظم بين دول الخليج وفرنسا التي تستورد النفط والغاز بالدرجة الأولى. فالمملكة العربية السعودية هي ثالث أكبر مصدري النفط إلى فرنسا، فيما تحتل سلطنة عمان المرتبة الثانية على قائمة موردي الغاز إليها، مما يدعو فرنسا إلى الاهتمام الشديد بديمومة قنوات الإمدادات الحيوية الآتية من منطقة الخليج . وفي مقابل ذلك فإن إجمالي الصادرات الفرنسية إلى منطقة الخليج العربي يصل إلى أربعة مليارات دولار سنويًا. ومن المؤكد أن مجالات جديدة ما زالت تفتح أمام الجانبين لزيادة حجم التبادلات التجارية بينهما؛ نظرًا إلى أن واردات فرنسا من دول المجلس حاليًا لا تشكل سوى 4% تقريبا.

 

والحقيقة أن تولي نيكولاي ساركوزي رئاسة فرنسا قد أعطى دافعية كبيرة للحضور الفرنسي المتصاعد في المنطقة الخليجية على نحو لم تشهده في السابق، وهذا الحضور يضم في ثناياه مختلف مظاهر التعاون حيث يجمع بين الأمن والسياسة والاقتصاد والثقافة في بوتقة واحدة، وقد تعزز بالجولة المكوكية التي قام بها ساركوزي على ثلاث دول خليجية في يناير 2008، فقد نجحت فرنسا في إبرام عدد كبير من الصفقات المدنية والسياسية والأمنية لتحصل على موطئ قدم في إطار تحول نوعي استراتيجي في منطقة الخليج.
ونجد مثلا أن فرنسا نجحت بتوقيع أربع اتفاقيات اقتصادية مهمة مع المملكة العربية السعودية في يناير 2008 في قطاعات النفط والغاز والثروات المعدنية، واتفاقين آخرين حول التعليم الجامعي والتدريب المهني، فضلاً عن اتفاق خاص بالتنسيق السياسي. ومن جهتها، دخلت شركة توتال الفرنسية بحصة قدرها 27.5%، في مشروع مصفاة النفط، المقرر إقامتها في الجبيل في العام 2013. والتي ستعمل بطاقة تكرير قدرها 400 ألف برميل يومياً.
وأيضا وقعت فرنسا مع قطر عقداً بقيمة 470 مليون يورو، لتأمين تغطية كاملة للبلاد من الكهرباء. كما جرى التوقيع، في الوقت نفسه، على مذكرة تفاهم بين شركة غاز فرنسا وشركة قطر بتروليوم أنترناشيونال، تضمنت التعاون في مجال التنقيب وإنتاج الغاز المسال، وتخزينه وتوزيعه. كذلك، وقع الجانبان اتفاق إطار للتعاون السياحي، إضافة إلى اتفاق بين الدرك الوطني الفرنسي وقوى الأمن الداخلي القطري.

وأبدت الشركات الفرنسية اهتماماً بالمشاركة في خطط تطوير الطاقة الكهربائية في إمارة دبي، خاصة أمام حرص شركة الكهرباء الحكومية إدخال مستثمرين في مشروع تصل كلفته 37 مليار دولار، لرفع الطاقة الإنتاجية أربعة أضعاف، لتصل إلى 25 ألف ميغاوات.
وعلى صعيد آخر، يتمثل الحضور الثقافي الفرنسي بإنشاء الكليات والمدارس الفرنسية في عموم بلدان المنطقة، وإبرام اتفاقيات مشتركة بين الجامعات الفرنسية والخليجية، ولاسيما في كل من دولتي قطر والإمارات، حيث أقامت جامعة السوربون مقرًا تعليميًا لها في "أبوظبي"، بينما تم التوصل إلى اتفاقيات أخرى للتعاون في المجال الطبي. كما يجري الآن وضع برامج مشتركة بين متحف اللوفر ومعهد العالم العربي، حيث نظم كلاهما معارض فنية إسلامية للوحات رسمها فنانون خليجيون كما أصبحت اللغة الفرنسية تدرس في عدد متزايد من المدارس الثانوية والجامعات الخليجية، فلقد وجدت معاهد الأليانس فرانسيز ( المركز الثقافي الفرنسي) من يلتحق بها، وجذب الإعلام الفرنسي الانتباه لبرامجها، وكذلك ارتفعت أعداد السياح الخليجيين إلى فرنسا، وازدادت أعداد المبتعثين للدراسة في جامعات فرنسا، وبدأت بعض الصحف الخليجية تترجم مقالات من الصحف الفرنسية كصحيفة اللوموند وصحيفة لوفيجارو، مما أدى إلى زيادة الطلب على تعلم اللغة الفرنسية.

ولكن في المحصلة النهائية هناك مشكلة عدم التوازن في هذه العلاقة الثقافية، ففي حين أن دول الخليج العربية مع شقيقاتها العربية تخطو خطوات واسعة نحو الانفتاح على كل مكونات الثقافة الفرنسية، يظل الجهد الفرنسي للانفتاح على كل مكونات الثقافة العربية، وبخاصة اللغة العربية، محدودا. وأيضا رغم التقدم في العلاقات الثقافية المباشرة مع فرنسا، يجد بعض المراقبين أنه لا يزال محدودًا إذا ما قورن بالحضور الثقافي الأمريكي للمنطقة الذي يظهر في إطلاق عدد من المحطات الإذاعية والتليفزيونية الناطقة بالإنجليزية وفي الازدياد الهائل في عدد المحطات الفضائية الأمريكية والاكتساح الأمريكي لحقل الأفلام السينمائية وانتشار مراكز تعليم اللغة وشيوع ثقافة الاستهلاك وغيرها من المظاهر .

وفي مجال الشراكة الأمنية تعمد فرنسا إلى ببيع الأسلحة والمعدات المتطورة للأنظمة الخليجية وتطوير القدرات الدفاعية لدول مجلس التعاون وقد عززت فرنسا تعاونها العسكري مع دول مجلس التعاون إلى حد بعيد، فتحولت بذلك إلى أكبر الموردين الغربيين للخبرات العسكرية والأسلحة. وفي واقع الحال فإن الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية تندرج في قائمة الشركاء الخمسة الكبار لفرنسا في الميدان الدفاعي. فضلا عن استعداد فرنسا للمشاركة في نظام جماعي حماية لأمن الخليج عبر تبادل المعلومات واستضافة ضباط من دول المجلس في مؤسسات عسكرية فرنسية، وإجراء مناورات مشتركة، علاوة على دعم فرنسا للنظام الأمني الخليجي من خلال تطبيق البروتوكولات القانونية لتفادي وقوع أحداث ملاحية أو حدودية، فضلاً عن دعم أنشطة "مكافحة الإرهاب" مراقبة أسلحة الدمار الشامل، والحد من تجارة المخدرات وغير ذلك، إضافة إلى إبرام الاتفاقيات الدفاعية والأمنية حيث أبرمتها مع كل من قطر والإمارات عام 1995م وتم تطويرها مع دولة الإمارات في يناير 2008 بتوقيع اتفاقية إنشاء أول قاعدة عسكرية فرنسية في الخليج العربي الذي عُرف باتفاق وجود القوات الفرنسية على الأراضي الإماراتية بقاعدة عسكرية دائمة.

 

ولم تقف السياسة الفرنسية عند هذه النتائج بل قام الرئيس ساركوزي الذي يؤمن ان نفوذ فرنسا يرتبط بالسياسة الأمريكية في العراق، فقام في العاشر من فبراير 2008 بزيارة بغداد هي الأولى من نوعها لرئيس فرنسي وكانت بهذا المعنى زيارة تاريخية، أعطت الضوء الاخضر لتغلغل فرنسي واعد بديلا عن البريطانيين المتعثرين بسياساتهم الداخلية، فقد أدرك ساركوزي تاريخية المرحلة وبادر بالسماح للشركات الفرنسية للاستثمار في الاقتصاد العراقي، وأعلن عن استعداد فرنسا لتعليم وتدريب عدد متزايد من الطلاب العراقيين، والمساهمة في تطوير قوات الشرطة والأمن، وتأهيل الجيش العراقي، ويسعى لإحياء الاتفاقات العسكرية مع فرنسا من أجل تجهيزه بطائرات حديثة.
وعلى مستوى السياسات الدفاعية والأمنية الفرنسية في الخليج، تدعو فرنسا إلى تعزيز الحوار الأمني والدفاعي غير الرسمي بين ثماني دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي هي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة واليونان وإيطاليا وهولندا والبرتغال وأسبانيا ودول المجلس، وقد أثارت هذه المبادرة اهتمامًا كبيرًا من جانب هذه الأخيرة، لا بسبب مرونتها وطابعها غير الرسمي فحسب، بل لأن المواقف السياسية التي يتخذها الاتحاد الأوروبي حيال مختلف القضايا الشرق أوسطية في مقدمتها العملية السلمية والوضع في العراق ولبنان، ومفاوضات الترويكا الأوروبية مع إيران تلقى الترحيب من قادة دول المجلس.

تحول استراتيجي في سياسة فرنسا
لقد أعلن الرئيس الفرنسي ساركوزي في مقابلة مع وكالة أنباء الإمارات خلال زيارته الأخيرة لأبوظبي صراحة أن افتتاح القاعدة الفرنسية بالقرب من مضيق هرمز الاستراتيجي يعكس قبل كل شيء اهتمام فرنسا بهذه المنطقة المحاذية لإيران والتي يمر عبرها 40% من الصادرات النفطية العالمية ، قائلا :" فرنسا تظهر بذلك أنها مستعدة أن تتحمل كامل مسئولياتها لضمان الأمن في هذه المنطقة الأساسية بالنسبة للتوازن في العالم". وأضاف أن القاعدة التي تحمل اسم "معسكر السلام" ستساهم في إعادة إنعاش العلاقات العسكرية الفرنسية الإماراتية، إذ سيتم توقيع اتفاقية عسكرية جديدة بين البلدين ستحل مكان الاتفاقية القديمة التي تم التوقيع عليها في 1995.
واعتبر الرئيس ساركوزي القاعدة العسكرية الجديدة لبلاده في أبوظبي بأنها تشكل «رسالة سلام إلى المنطقة بكاملها»، مشيرا إلى أن هدف القاعدة الأساسي سيكون المساهمة في تحقيق أمن واستقرار المنطقة وتدريب القوات البحرية بدولة الإمارات لتكون من ضمن القوات المتطورة على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وقال ساركوزي في كلمة أمام الصحافيين إن الاتفاقية الدفاعية التي وقعها الجانبان ، «تعطي دليلا على التزام البلدين الحليفين يتم بموجبها اتخاذ إجراءات خاصة مشتركة بما فيها الإجراءات العسكرية التي يمكن اتخاذها عندما تكون سيادة الإمارات وكامل ترابها واستقلالها أو استقرارها في خطر». واعتبر ساركوزي أن الوجود العسكري في أبوظبي دليل على مسؤوليات فرنسا كقوة عالمية تنفذ إلى جانب حليفتها الإمارات في منطقة تشكل قلقا عالميا، لافتا إلى أن القاعدة الفرنسية العسكرية تهدف إلى التأكيد على التزام بتحقيق عهد جديد لعلاقات الشراكة «ليس مع الإمارات ولكن مع دول الشرق الأوسط».
وفي رسالة غير مباشرة لإيران قال الرئيس الفرنسي إن وجود بلاده العسكري الدائم على سواحل الخليج العربي «ليس موجها ضد أحد بعينه وانه لم يتم بسبب ظروف معينه وإنما يترجم ببساطه التزام فرنسا على المدى الطويل بالوقوف إلى جانب أصدقائها حال استدعت الحاجة ذلك». كما أكد أن فرنسا من خلال تقوية علاقات التعاون مع بقية دول الخليج تنوي من خلال وجودها توفير الأمن في المنطقة وخاصة الممر المائي المهم بالنسبة للعالم كله ولصالح البلدان الواقعة على مياهه وانه لهذا السبب أطلق على المركز صفة السلام.
وفي الوقت ذاته، أكد ساركوزي على أن «معسكر السلام» ليس بديلا عن القاعدة العسكرية في جيبوتي «وإنما دليل على حيوية فرنسا وإظهارا لقدرتها على مواجهة تحديات العالم المعاصر وتأكيدا لرسالتها والتزامها من أجل السلم والأمن العالمي وبالتالي فان الوجود في أبوظبي وجيبوتي يكمل كل منها الآخر» .

 

قاعدة (السلام)
تقول المصادر الفرنسية أن الإماراتيين يخشون أن تجد بلادهم نفسها وحيدة في مواجهة خيارات سياسية صعبة أمام إيران نووية، ومن دون حلفاء. كما أن المخاوف الإماراتية تضاعفها المراجعة الأميركية الجارية للسياسة تجاه إيران، واحتمال أن تفشل المفاوضات وتؤدي إلى ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، يعقبها رد إيراني في الخليج العربي، لا يريد الإماراتيون أن يجدوا أنفسهم وحدهم إزاءه.
عموما، سوف تكون القاعدة العسكرية الجديدة واجهة لمخزن الأسلحة الفرنسية في الصحراء، وقد طلبت الامارات شراء 60 طائرة «رافال»، لإحلالها محل عدد مماثل من «الميراج»، لتكون الإمارات البلد الوحيد الذي يشتري سلاحاً لم يستطع الفرنسيون بيعه لأي بلد آخر في العالم، كما كانت الدولة الوحيدة التي اشترت ببضعة مليارات دولار 380 دبابة «لوكلير».
وفي جعبة الفرنسيين أيضاً إلى جانب إطلاق أعمال بناء متحف «اللوفر ابو ظبي»، صفقة من معدات الكترونية وأسلحة ومفاعل نووي، لتسهيل توقيع الإماراتيين على شيكات بمليارات اليوروات، علماً انه يفترض ان تمنح الامارات عقدا لإنشاء «أكثرمن مفاعلين» نوويين من الجيل الجديد بقيمة «تتراوح بين 25 و50 مليار يورو»، في منتصف أيلول المقبل.
وبحسب صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية والقريبة من اليمين الحاكم بفرنسا، فإن "القاعدة بنيت بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة وبطلب منها فيما تتولى باريس تكاليف التجهيز والتشغيل، على ان تتمتع بحرية استخدام البنى التحتية كافة في الأقسام الثلاث في القاعدة.". التي أنجزت في وقت قياسي لم يتجاوز عاماً وبضعة أشهر، منذ توقيع الاتفاق على بنائها في يناير 2008. ويسود إجماع في عواصم خليجية وباريس وواشنطن أن تسارع الصعود الإيراني بات يستدعي رداً متوازياً وفي قلب الخليج العربي، وهو ما استدعى الاسراع في إقامة القاعدة بالقرب من ميناء زايد

وأضافت الصحيفة أن القاعدة تحتوي فضلا عن مرفأ للسفن الحربية الفرنسية يبلغ طوله 300 متر قادر على استقبال المدمرات البحرية، على مهبط للطائرات الهوليكوبتر، كما ستتوفر على منطقة تدريب. ولم تتردد افتتاحية "لوفيجارو" في أن تصف تدشين القاعدة العسكرية في أبو ظبي بمثابة قلب لكافة الموازنات الإستراتيجية الفرنسية في السياسة الخارجية. وقال بير راسولين كاتب الافتتاحية لأول مرة تملك فرنسا قاعدة عسكرية في منطقة إستراتيجية لا تنتمي إلى مستعمرات فرنسا السابقة . ومن جهته قال  قائد القاعدة الكولونيل أرفيه شيريل لوكالة الأنباء الفرنسية "لهذه القاعدة مهمة عامة هي دعم قواتنا المنتشرة في المحيط الهندي وتطوير التعاون العسكري الثنائي".

ستكون للقاعدة داعمة للمكونات الجوية والبرية الملحقة بها، منتشرين في ثلاثة مواقع هي قاعدة بحرية في ميناء زايد ستستضيف عددا من البوارج الفرنسية ، وقاعدة جوية على جزء من خليج قاعدة ظفرة الإماراتية المزودة برادارات أقامتها أبوظبي للسماح للطائرات الفرنسية بالإقلاع والهبوط سيضم سربا من الطائرات القتالية الفرنسية من طراز ميراج 200 ورافال بدءاً من هذا الصيف، إضافة إلى معسكر للتدريب على القتال في المدن وفي المناطق الصحراوية بالقرب من قاعدة جبل الظنة الى جانب مجمعا بريا في مدينة زايد العسكرية. حيث ستركز القاعدة بحسب المسؤولين على التدريب ومشاركة القوات المسلحة الإماراتية وتقديم الدعم اللوجستي البحري والجوي والبري وتعزيز روابط التعاون بين الجانبين.
وتمتد القاعدة الفرنسية على مساحة تبلغ حوالي 12 هكتاراً، وسوف يستقر في القاعدة بداية 252 من بينهم 123 في مهمة لمدة ثلاث سنوات و129 في مهمات تتراوح بين شهرين وأربعة أشهر، على ما اعلن وزير الدفاع الفرنسي في رسالة الى الجمعية الوطنية الفرنسية، وسيصل عددهم مع نهاية العام 2009 إلى 500 عسكري فرنسي من كافة المستويات العسكرية.

 

قاعدة السلام كما تسمى وفق المصادر الرئاسية الفرنسية، لها عدة وظائف، في مقدمتها وظيفة ردعية من أجل المحافظة على الاستقرار خصوصا على ضوء تطورات الملف النووي الإيراني، أهمية هذه القاعدة الفرنسية تكمن في أنها ستكون مواجهة لمضيق هرمز الاستراتيجي على بعد أميال بحرية عن السواحل الإيرانية، وستكون من بين مهمات القوات فيها التعاون في مجال مكافحة القرصنة، غير أن صحيفة "الإندنبدنت" البريطانية كشفت أن هناك أهدافا خفية من وراء تلك الخطوة من أبرزها أن القاعدة ستكون محطة لنشر وترويج الثقافة الفرنسية ومنتجاتها في منطقة الخليج وتسهيل قدرة الفرنسيين على بيع الأسلحة إلى الإمارات ، حيث أعلن فور افتتاح القاعدة في 26 مايو عن بيع 63 طائرة مقاتلة فرنسية متطورة من طراز "رافيل" لأبوظبي، إلى جانب توفير حضور فرنسي عسكري دائم في منطقة الخليج التي تعتبر تقليديا منطقة نفوذ إنجلوسكسونية ويجعلها لاعبا قويا فيها، وإظهار بعدا للرغبة الفرنسية في أن تجد لها موطئ قدم في المنطقة الخليجية الحساسة، والتي تحتوي على 40% من نفط العالم. وخشية قطع خط تموين النفط من منطقة الخليج إلى خارجها حالما يتم إغلاق هذه الممر الضيق، لا شك أنها بذلك تحمى مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية الخاصة لضمان الأمن وسلاسة لقناة تموين الطاقة لبلادها.
تشكل القاعدة الفرنسية نقطة ارتكاز مميزة لسفن البحرية الفرنسية في منطقة الخليج الاستراتيجية وبالتالي فهي تقدم إشارة حسية لاهتمام فرنسا بهذه المنطقة الإستراتيجية من العالم، ولخدمة احتياجات للقوات البحرية والجوية الفرنسية العاملة في المنطقة،  وأيضا رسالة مزدوجة إلى أصدقاء فرنسا في المنطقة، وإلى الأطراف الأخرى، وأولها إيران لإفهامها أن فرنسا لا يمكن أن تدير وجهها وأن تتناسى منطقة الخليج، وأصدقاءها فيها حيث تقدم القاعدة لفرنسا ميزة التواجد بالقرب من السواحل الإيرانية في حالة التدخل التام بالمواجهات العسكرية بين الغرب وإيران ولمراقبة التحركات الإيرانية عن قرب. فقد بات واضحا أنه ومنذ تولي ساركوزى لمنصبه الرئاسي، غيرت فرنسا موقفها المنطلق من التوسط في المسالة النووية، واتخذت موقفا أكثر تشددا .

الاندماج في المشروع الأميركي .. خطوة أساسية
يُعبر ساركوزي في سياساته عن مزيد من الاصطفاف مع واشنطن، وهو جعل من فرنسا نسخة متأخرة من بريطانيا في عهد توني بلير، في الوقت الذي بدأ فيه رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون يستوعب الثمن الفادح للاندماج في المشروع الأميركي. وما التطور الفرنسي الجديد في منطقة الخليج العربي ببعيد عن هذه الفرضية، فلم يكن ممكنا حدوثه بغير قبول ضمني من بريطانيا وترحيب صريح من الولايات المتحدة صاحبتا النفوذ . خاصة أن الرئيس الفرنسي ساركوزي لم يخف في أي وقت إعجابه بالنموذج الأميركي في كل شيء، وقد بدى ذلك جليا خلال زيارته الرسمية الأولى لواشنطن حيث شدد على التحالف القوي بين البلدين. وفي خطابه الذي ألقاه أمام اجتماع مشترك لمجلسي الكونغرس وقتها تعهد بأن تعود العلاقات بين فرنسا وأميركا إلى تعاون أوثق في عدد من المشاكل الدولية الملحة في مقدمتها مواجهة البرنامج النووي الإيراني، ومشكلة الشرق الأوسط، ومستقبل لبنان. وأخذ يكرر خلال هذه الزيارة للأميركيين: «لقد جئت إلى واشنطن حاملا رسالة بسيطة جدا: أريد أن استرد مودة الأميركيين بشكل دائم». وسواء تصور ساركوزي أن التبعية لأميركا قد تسمح لفرنسا بالحصول على جزء من المكاسب في الشرق الأوسط بعد احتلال للعراق، أو قد تعطي دافعية لسياسة جديدة تلزم نفسها بالقطيعة مع دبلوماسية الماضي ، فهو بالتأكيد يعد بالمحصلة النهائية انقلابا نهائيا على سياسة فرنسا الشرق أوسطية المستقرة منذ عهد شارل ديغول وتعبيرا عن رؤية مختلفة جذريا لما كان يتطلع إليه. هذا يؤكد لنا أن التحول الإستراتيجي النوعي في سياسات فرنسا الدفاعية والأمنية الأمريكية بدءاً بإقامة أول قاعدة عسكرية دائمة لها في منطقة الخليج، والوجود العسكري المستجد في قلب منطقة تعمل أميركا باستمرار على احتكارها واستبعاد أي منافسين محتملين عنها، لم يأتي هباء أو دون تخطيط ذكي على أعلى المستويات .
ويعتبر المراقبون أن الخطوة الأساسية في التحول الإستراتيجي الفرنسي عبرت عنها مذكرة التفاهم بين فرنسا ودولة الإمارات العربية المتحدة عام 2008 تقوم فيها الأولى بإنشاء قاعدة عسكرية دائمة لها في الإمارات، فيما يشكل تطوراً غير مسبوق سواء بالنسبة لفرنسا أو بالنسبة لكل منطقة الخليج. لم يكن الجديد هنا هو العلاقات العسكرية، فلفرنسا اتفاقية عسكرية مع دولة الإمارات منذ سنة 1991 أعقبتها اتفاقية للدفاع المشترك في يناير 1995. الجديد هو توجه فرنسا للإقامة العسكرية الدائمة بحرا وجوا وبرا لأول مرة في منطقة الخليج، وفي دولة الإمارات تحديدا التي تواجهها إيران على الساحل المقابل، غير أن التطور الفرنسي الجديد لم يكن ممكنا بغير قبول ضمني من بريطانيا وقبول صريح، بل ترحيب، من الولايات المتحدة.
المسؤولون الفرنسيون يقولون إن التحول الاستراتيجي في سياسات فرنسا في منطقة الخليج يأتي كجزء من مراجعة شاملة طلبها الرئيس الفرنسي ساركوزي لمجمل السياسات العسكرية والأمنية الفرنسية في الخارج، وذلك لوضع عقيدة جديدة للأمن والدفاع. أكثر من ذلك يتطلع ساركوزي إلى إقامة مجلس فرنسي للأمن والدفاع القوميين يكون على غرار مجلس الأمن الأميركي المكلف بالتنسيق بين سياسات أميركا الأمنية في الخارج والداخل.

حضور فرنسي رمزي
ولكن في الوقت نفسه، أشار بعض المحللين إلى أنه رغم اهتمام وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها بإقامة القاعدة العسكرية الفرنسية وما له من تأثير في السياسة الإقليمية والعلاقات الثنائية الفرنسية الإماراتية، إلا أن المغزى الرمزي لإقامة هذه القاعدة أكبر من مغزاها الواقعي، لأن عدد الجنود المقيمين هناك يتراوح بين 400 -500 جندي ، ولا يمكن لهذه القاعدة بإمكانياتها العسكرية والعددية أن تلعب دورا حاسما في حالة اندلاع عمليات عسكرية ضخمة في منطقة الخليج. ورغم ذلك يعتبر مكملا للوجود العسكري الأمريكي الذي يتمتع بالتفوق المطلق، ففي البحرين توجد قيادة الأسطول الخامس للولايات المتحدة، ويوجد في قطر، مركز قيادة القوات الجوية الأمريكية ومركز القيادة القتالية، وفي الإمارات وعُمان قواعد عسكرية للقوات الجوية الأمريكية . وللجيش البريطاني أيضاً حضور صغير في الخليج، وتعمل القوة الجوية الملكية البريطانية خارج قاعدة العديد - قطر وفي البحرين.
المستغرب أن التحول الفرنسي الجديد يأتي في وقت تسعى فيه فرنسا إلى تقليص وجودها العسكري الدائم في مناطق أخرى اعتادت النظر إليها على أنها مناطق لنفوذها التقليدي تاريخيا، ففي الوقت الحالي يوجد لفرنسا خمسة آلاف جندي في ثلاث قواعد عسكرية دائمة بإفريقيا في كل من السنغال والغابون وجيبوتي، ولها أيضا 2600 جندي في مهمة حفظ سلام في ساحل العاج و1100 جندي في تشاد سرعان ما سيلحق بهم الفاً جندي آخرون كجزء من قوة للاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسية. والآن فإن جزءا من القوات التي ستنشرها فرنسا في قاعدتها العسكرية المستجدة في أبو ظبي سيتم نقلهم من جيبوتي حيث تشارك قوات أميركية مع الفرنسية في أمن الممر البحري الرابط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي.

طهران .. تحذر
سارعت طهران مساء الافتتاح الرسمي لقاعدة معسكر السلام البحري، لتحذير المسؤولين الإماراتيين من مغبة الالتحاق بركب سياسات الأجانب في المنطقة من خلال منحهم قاعدة عسكرية، يؤدي إلى زعزعة الأمن في منطقة الخليج.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية حسن قشقاوي إن فرنسا ابتعدت عن سياسة الاعتدال وتسببت بإيجاد التوتر في المنطقة، موضحا أن التعزيزات العسكرية في المنطقة وتواجد قوى من خارجها سوف يؤدي إلى هشاشة الأمن والاستقرار بها ويجر عمليا إلى سباق تسلح.
وأضاف " بعض الدول تتحدث عن أخطار وهمية ساعية لتصوير المنطقة بأنها غير آمنة، وذلك من أجل رفع مبيعاتها من السلاح أكثر فاكثر، خاصة أن هذا الإجراء يحظى بالاهتمام بسبب الأزمة المالية الموجودة، لأن فرنسا تعاني من مشكلات اقتصادية حادة، إننا نوصي دول المنطقة بأن لا تسمح للشركات العسكرية الغربية المفلسة بأن تحيي مطامعها من خلال التمسك بالذرائع الواهية ". وانتهى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إلى تحذير المسئولين الإماراتيين من مغبة الالتحاق بركب سياسات الأجانب في المنطقة من خلال منحهم قاعدة عسكرية، واصفا هذا الإجراء بأنه غير قابل للفهم، ولا يمكن اعتباره خطوة في إطار أمن المنطقة.
التصريحات السابقة تؤكد أن القاعدة الفرنسية ستشعل التوتر أكثر وأكثر في منطقة الخليج ولذا لا مناص من جلوس دول الخليج العربية وإيران على طاولة الحوار للبحث عن أرضية مشتركة لضمان الأمن في المنطقة دون تدخلات أجنبية.