إليك عني ! 2\2
19 جمادى الأول 1430
د. خالد رُوشه
 
لاشك أننا نبالغ في تبسيط الأمر إذا قلنا إن ترك الدنيا والزهد فيها بالمفهوم الإسلامي الشامل الأعم هو مجرد الإقلال في الملبس والمأكل والمسكن , لأن ذلك لايعتبر محكا وحده على أية حال , إنما المحك الأهم هو أن يكون هذا الترك ابتداء من القلب , ويكون الزهد انطلاقا نت النفس , فلا معنى لجسد زاهد ونفسه طماعة ولا لسلوك معرض وقلبه راج متطلع ..
 
إن ترك الدنيا إذن هو الشعور بأن متاعها في طاعة الله ولذاتها في القربى إلى الله , والعلو فيها هو الذلة إلى الله , والجاه فيها هو الفقر إلى الله .., ومن ثم حتى لو ملك الدنيا كلها لن تغر قلبه ولن تأسر نفسه .
 
إن ترك الدنيا والزهد فيها إنما يتأتى بعدم التعلق بها وعدم انتظار متاعها, ولو جاء متاعها لم يبال به ولم يلتفت إليه, بل هو حاله لا يتغير إذا جاءه فقر أو غنى, فالمال في يده لا يمس قلبه, ويستوي عنده وجود المال وعدمه, ويستوي عنده مديح الناس وذمهم له, ويستوي عنده حصول الجاه أو عدمه.
 
وللأسف فإننا نرى كثيرا من المتناقضات بين الناس في ذلك , فكثيرا ما نعلم رجلا قد تزهد في ملبسه وأمر الناس بالزهد فيها بينما هو مقيم على الصراع على جمع كل درهم , وآخر قد أهمل حال مسكنه طعامه وشرابه مدعيا الزهد بينما هو مقيم على امتلاك الأطيان والعقارات , وثالث ظاهره الزهد في الملبس والمأكل والمسكن لكنه طماع فيما في أيدي الناس من الخير, حاسد لهم كلما أصابتهم نعمة !!
 
إن هذه الأمثلة وغيرها لا احسبها بحال تتفق مع زهد القلب الذي نتحدث عنه ولا مع حقيقة الأمر الإسلامي العظيم بالتقلل من الدنيا , إذ الطمع طمع القلب كما الغنى غناه ..
 
على جانب آخر قد لا نجد معنى لما تحدث به البعض من معاني الزهد في الأعمال والوظائف , أو العلوم والدراسات , ولا التقدم والتكنولوجيا وغيرها , فكل هذا تتقوى به الأمة وتنتصر على أعدائها فتكون الدعوة إلى تركها كباب للزهد نوع من جهل بالغ .
 
كذلك فللمال الصالح في أيدي الصالحين من المسلمين أثر بالغ الاهمية , وليس هناك معنى للزهد يتفق مع أمرنا الأغنياء الصالحين بترك أموالهم زهدا أو ترك تجاراتهم تقللا , بل ندعو الله لهم أن يكبر تجارتهم وتزداد أموالهم الصالحة إذ بها يساعدون الفقراء ويرحمون الأيتام , ويكفلون طلبة العلم , ويرفعون من شأن أمتهم بين الأمم , إنما شرطنا ههنا أن يكون المال صالحا وفي يد صالحة تخشى الله وتعلم حقه .
 
قال يونس بن ميسرة: ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال, إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك, وأن يكون حالك في المصيبة, وحالك إذا لم تُصَب بها سواء, وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء.
 
وقيل لابن المبارك: أنت زاهد, فقال: الزاهد هو عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها.
وقال الحسن البصري: أدركت أقوامًا ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يأسفون على شيء منها أدبر, ولهي في أعينهم أهون من التراب.
 
وهذا كتاب كتبه الحسن إلى عمر بن عبد العزيز يوصيه وينصحه, قال:
"أما بعد, فإن الدنيا دار ظعن - سفر - ليست بدار مقام, وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين, فإن الزاد منها تركها, والغنى فيها فقرها, تُذل من أعزها, وتفقر من جمعها, كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه, فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة, وكن أسَرَّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها, سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر, فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرًا ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل, فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ.
 
فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن, ما نظر إليها - سبحانه - منذ خلقها, ولقد عُرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم مفاتحها وخزائنها فأبى أن يقبلها, وكره أن يحب ما أبغض خالقه.
 
زواها الله عن الصالحين اختيارًا, وبسطها لأعدائه اغترارًا, أفيظن المغرور بها أنه أكرم ونسي ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر.."ا.ه
 
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه تطبيقًا عمليًا لهذا المعنى من ترك الدنيا ظاهرا وباطنا , فجمعوا بين التقلل منها وبين قصر الأمل فيها, ولم يكونوا يحرصون على متاع منها ولا مال ولا تشييد بناء, وإنما كان حرصهم منها على التزود بالتقى والعمل الصالح , مع ما ينفع الأمة الإسلامية من التقو والبناء , وما ينفع أبناءها من دعم وعطاء .
 
فأما عن حاله صلى الله عليه وسلم , فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير, فقام وقد أثر في جنبه, قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً, فقال: (مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)أخرجه الترمذي وأحمد
 
فقد كان بيته صلى الله عليه وسلم أقل البيوت متاعًا وأثاثًا وكان يفترش الحصير تارة ويفترش الأدم (الجلد) تارة, وكان عنده ركوة للوضوء وكساء ورداء أو كساءان ورداءان أحدهما للعيش والآخر للقاء الوفود.
 
وكان صلى الله عليه وسلم معرضًا عن الدنيا, فلربما أهداه بعض الناس عباءة أو جبة أو ثوبًا فأهداه أسامة بن زيد أو غيره, وكان في بيته لا توقد النار على اللحم أو الطبخ إلا في أيام متباعدات, , ومن حاله تعلم أصحابه, فكانوا خير قدوة لخير قوم يقتدون. 
 
ولا شك أن تلك الحياة هي خير حياة, ذلك لأن الله رضيها لهم ولو كان خير الحياة في الغنى والتنعم لما رضي الله سبحانه بها لنبيه صلى الله عليه وسلم , فهو أحب الخلق إلى الله وأكرمهم عنده.
 
* عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: "لقد رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقل ما يملأ به بطنه"أخرجه مسلم
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم " متفق عليه
 
* وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساءً ملبدًا وإزارًا غليظًا فقالت: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين"أخرجه مسلم
 
* وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلفُ الخبز والماء)الترمذي