أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية
15 جمادى الأول 1430
عماد خضر




كان أبرز ما جاء في كلمة رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية خلال المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن التعديل الوزاري الكبير هو تعيين مستشاره المقرب للسياسة الخارجية البروفيسور أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية خلفا للسيد علي باباجان الذي تولى وزارة الاقتصاد . ويتطلب تعيين أوغلو إلى قراءة دقيقة للتطورات، فهو حدث نادر في الحياة السياسية التركية نظرا لكونه من وزيرا من خارج البرلمان التركي، كما أنه يوصف بمهندس عودة تركيا بقوة إلى الساحة الدبلوماسية وتعزيز دورها الإقليمي ووضعها في مركز العلاقات الشرق أوسطية .

لا يمكن التقليل من أهمية الرجل في وضع رؤية جديدة واستراتيجية طموحة لمسار السياسة الخارجية والعلاقات الدولية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم منذ خريف 2002، وتبدو ملامح هذه الرؤية في كتابه الذي صدر قبل عام 2008 من وصول الحزب إلى السلطة ويحمل عنوان " العمق الاستراتيجي: موقع تركيا الدولي " الذي صدر عام 2001. وبحسب الدكتور محمد نور الدين أستاذ اللغة التركية والتاريخ في الجامعة اللبنانية" إذا ما تتبعنا سياسات الحزب بعد وصوله إلى السلطة تجاه معظم القضايا الحساسة، لأمكننا القول أنها تطبيق عملي للنظريات التي وردت في الكتاب" شارحاً فيه السياسة التي تعتمدها تركيا في القرن الواحد والعشرين لتصبح دولة حديثة ذات نفوذ من البلقان إلى آسيا الوسطى ومروراً بالشرق الأوسط. عموما، لا تكتمل الصورة العامة لوجهة تركيا المستقبلية إلا من خلال تقديم قراءة متأنية لأفكار وزير الخارجية التركية التي عبر عن طموح متماسك لا يخلو من المثالية أحيانا من خلال تصريحاته وحواراته ومقابلاته الصحفية رغم انه قليل الظهور في الساحة الإعلامية، أهمها حواره مع الدكتور محمد نور الدين الذي ضمنه في كتابه "تركيا: الصيغة والدور" الصادر عام 2008، وحواره مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 10 أبريل 2009 العدد 11091، والكلمة التي ألقها في في مؤتمر تركيا تتحرك الذي نظمته جامعة برنستون الأميركية في أزاخر مارس 2009، إضافة إلى التصريحات التي تتناقلها وكالات الأنباء التركية والعالمية.

 

العمق الإستراتيجي

يؤكد أكد أوغلو في بداية طرح نظريته الخاصة بالعلاقات الدولية، أن تركيا نجحت في استيعاب عقبات سياسية هامة برزت مع أحداث 11 سبتمبر 2001 وهي متمثلة في : أعمال الإرهاب ، وعدم الاستقرار السياسي، والأزمات الاقتصادية، واتبعت في سبيل ذلك سياسة خارجية مؤثرة وديناميكية ومتعددة الأبعاد، أرست لها موقعاً مركزياً في الساحة الدولية. ونعتقد أن هذه الاستراتيجية الجديدة، تحظى بإجماع داخلي على مستوى النخب السياسية والعسكرية، ونجاحها يرتبط بالأساس بنجاح تركيا في السير بين التناقضات الهائلة في محيطها وفي العالم.

ويجمع أوغلو في المصطلح الذي نحته ( العمق الإستراتيجي ) بين بعدين الأول البعد الجغرافي ، ويؤكد فيه أن تركيا تحتفظ بموقع جغرافي متميز فهي مندمجة في الهوية الأوروبية والآسيوية في الوقت ذاته ، وتؤهلها جغرافيتها أن تكون في قلب الأحداث في الغرب والشرق، والثاني البعد التاريخي والمقصود هنا أن الإرث العثماني انعكس على واقع الجمهورية التركية كون سكانها خليط من قوميات وأعراق متنوعة وهي عناصر تلتقي تحت مظلة الدولة التركية. وبالمحصلة النهائية فإن تركيا بحسب داود أوغلو تجمع بين الجغرافي والعمق التاريخي ، وبالتالي فإن تركيا تتميز عن غيرها من دول العالم بانتمائها إلى مناطق جغرافية متنوعة منها منطقة الشرق الأوسط بمفهومها الواسع بما فيها الخليج العربي، والبلقان ، والقوقاز وآسيا الوسطى، وأيضا بجر قزوين، والبحر الأسود، والبحر المتوسط ، أي أنها دولة ذات هويات إقليمية متعددة ولا يمكن حصرها في هوية واحدة. وهنا يعتبر أحمد داود أوغلو أن خفض الخلافات مع دول الجوار الجغرافي إلى حد الصفر، من أهم متطلبات الدور الإقليمي التركي في محيطها الجيو- استراتيجي، باعتبار أن أي سياسة فاعلة تتطلب بيئة سلمية حاضنة لها تدعم مبادراتها ولا تتخوف من طموحاتها وتحقق مصالحها بصورة لا تؤثر على المصالح القومية للأطراف الأخرى وهذا سيخرج تركيا من كونها بلداً طرفاً له مشكلات متواصلة مع جيرانه.

وخير مثال هو طريقة معالجة الملف الأرميني في السياسة التركية التي أدركت أهمية تحسين علاقتها مع جارتها أرمينيا لتصفير ملف مجازر الأرمن الذي يثار ضد أنقرة من منابر مختلفة ومع الالتقاء بأكبر عدد من المسؤولين على مختلف المستويات في الدول الأخرى بوجود جماعة ضغط أرمينية قوية في واشنطن. وحاولت تركيا التوصل إلى حل بخصوص قبرص منذ عام 2004 ، أما أذربيجان، فهناك علاقات جيدة نجد أنه يدافع عن سياسة بلاده حيال الصراع الأذربيجاني - الأرميني وانحيازها لمصلحة أذربيجان، بالقول: " لو ضاعت أذربيجان سيخسر التحالف الأطلسي التوازن في كامل القوقاز وآسيا الوسطى لمصلحة موسكو وتحالفاتها هناك'. ولم يكتف أوغلو بذلك، بل إنه اعتبر أرمينيا فقيرة الموارد وحبيسة جغرافيا ولها أسوأ وضع جيوبوليتيكي في القوقاز مقابل أذربيجان المهمة جغرافيا والغنية بموارد الطاقة.

ويقول أوغلو " خلال السنوات الست الماضية باتت علاقتنا مع سورية ممتازة، وعلاقتنا مع اليونان جيدة جدا، بعدما كانت هناك توترات في التسعينات من القرن الماضي ورؤساء الوزراء أصبحوا أصدقاء مقربين، وعلاقتنا مع بلغاريا جيدة جدا بعد توتر في الثمانينات من القرن الماضي، وعلاقتنا مع جورجيا جيدة إلى درجة أن شركة طيراننا تستخدم مطار باتومي كأنها شركة طيران محلية، وهناك مشاريع مهمة مع جورجيا. كما أن علاقتنا مع العراق وإيران جيدة جدا "، فقد قام الرئيس التركي بزيارة العراق وأرمينيا والبحرين وغيرها من الدول التي تدخل في نطاق المصالح التركية، ما تحاول فعله تركيا مع دول الجوار هو الانتقال من تصفير المشاكل إلى تحقيق درجة عالية من الاعتماد الاقتصادي المتبادل معها.

ويمكن القول أن تركيا تؤمن بأهمية التعاون الدولي وضرورة التمسك بالعامل الاقتصادي وإعطائه الأولوية في التصدي للخلافات والصراعات السياسية، بمعنى تغليب المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية، وهذا يتطلب بالضرورة تغليب الحوار في حل المشاكل، وكل ذلك، برأي أوغلو، تحت شعار "البحث عن نظام إقليمي جديد" واستخدام "الدبلوماسية الناعمة" بعيدا عن الخشونة.

 

تركيا مركز وليست طرف

من العناوين الرئيسة في المقاربة الاستراتيجية التي يبشّر بها أوغلو هو إخراج تركيا من قوقعة التبعية وردود الأفعال ومكانة الطرف في الاستراتيجيات المرسومة، إلى اتباع سياسة مؤثرة تقف على مسافة واحدة من جميع الفاعلين وتقدم مبادراتها في القضايا الإقليمية والدولية لتصبح دولة "مركز" إقليميا، تلغي الصفة التي التصقت بها بكونها جسرا بين جهات عدة، لتوائم حركتها تبعاً للساحة التي تتحرك فيها، ولكل مساحة خطابها وأسلوبها، وتكون تركيا بذلك مساهمة، لا عبئاً، في التفاعل الدولي . لأنه يريد لتركيا أن تكون صانعة سياسات وليست جسراً أو ممراً مثلما كانت ربما في السابق. بمعنى "لا يجب النظر إليها كدولة جسر تربط نقطتين فقط، ولا دولة طرفية ، أو حتى كدولة عادية تقع على حافة العالم الإسلامي أو الغرب"، حسب كلمات أوغلو. فقد أكد على ضرورة أن تتولى تركيا دور أساسي يرسي النظام في المناطق البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، فهي لم تعد البلد الذي تصدر عنه ردود أفعال إزاء الأزمات وإنما يتابع الأزمات قبل ظهورها ويتدخل فيها بفاعلية ويعطي شكلاً لنظام المنطقة المحيطة به . إنه يريد أن يفكك عزلتها والعداوة التاريخية بينها وبين جيرانها، وصولاً إلى المشاركة في السياسة الإقليمية من موقع الفاعل.

وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط يؤكد أوغلو أن تركيا ليست غريبة عن المنطقة بل جزء منها ولها استمرارية طبيعية من حيث الاستمرار الديموغرافي والثقافي، ولا يمكن فصل التاريخ التركي والعربي والإيراني والكردي عن بعضه البعض، حيث إن السياسة والمصير والمستقبل نفسه .

ولا يمكن التقليل من النتائج الملموسة عن هذا الطرح الذي يمكن إرجاع الفضل له في التحسّن الملحوظ في العلاقات بين تركيا ودول جوارها الجغرافي مثل إيران وسوريا واليونان وروسيا. في المقابل نظم الزيارة التي قام بها في عام 2006 وفد من حماس إلى أنقرة وكانت أول رحلة إلى الخارج برئاسة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس الفلسطينية بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي كان الغرب فيه يفرض حصارا ماليا على حكومة حماس عقب فوزها، وهي خطوة سببت غضبا أمريكا و"إسرائيليا" نظرا للعلاقات الإستراتيجية التي تجمع كلا من تركيا وتل أبيب. كما التقى داود أوغلو عدة مرات قادة من حماس خصوصا في سوريا. بالنسبة إلى تركيا، القضية الفلسطينية تحمل مسؤولية تاريخية، وتدخل علاقة تركيا مع حماس على أساس احترام الخيار الفلسطيني

 

وشرح داود أوغلو أهمية تركيا استراتيجياً لواشنطن في أكثر من موقف؛ بحيث ربط بين مصالح تركيا الوطنية وتحقيق المصالح الأميركية في قوس جغرافي كبير ممتد من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وحتى شرق المتوسط. بمعنى أن تحقيق تركيا لمصالحها في جوارها الجغرافي يعني تحقيق الولايات المتحدة الأميركية لمصالحها هناك أيضاً .

ويمكن تسجيل ملاحظة أن النهج العام للسياسة التركية يسعى إلى الاندماج بمركز الهيمنة في المنظومة العالمية الذي يتشكل بالأساس من القوى العظمى ، فقد أكد أوغلو في تصريح له بعد توليه حقيبة الخارجية أن ''الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي هما أهم أعمدة سياسة وضع التوازن بين الأمن والحرية''. ورغم أن الحكومة التركية كانت تشعر بالامتعاض والتوتر في شكل تعاطيها مع إدارة الرئيس جورج بوش الابن حيث كان الأمريكيون يمارسون طريقة جامدة في معالجة القضايا الإقليمية من باب سياسة العزلة وفرض الضغوط والعقوبات، نجد أنها تشعر بالارتياح من تعاملها مع إدارة أوباما، وبرزت من كون تركيا تفضل سياسات التواصل والقوة الناعمة والاعتماد الاقتصادي المتبادل، وهو ما يتقاطع مع الإدارة الأمريكية الجديدة في اتباع طريقة مشابهة لطريقة تركيا باتباع طريقة عمل متعددة الوسائل ولديها ميول أكثر للقوة الناعمة.

 

 

سياسة متعددة الأبعاد

إلى جانب البيئة الجيو- إستراتيجية اللازمة لظهور الدور التركي واستمراره، تتبنى السياسة التركية إقامة علاقات متعددة الأبعاد متوازنة وجيدة مع جميع الأطراف وفي أكثر من منطقة جغرافية. ومثل ذلك، برأي أوغلو، يقتضي عدم رفض أحد، وعدم الطلب من أحد أن يتغير، وألا نملي على أحد ما يجب فعله. في هذا الإطار ليست علاقات تركيا مع أي طرف بديلاً من العلاقات مع طرف آخر، بل هي ملتقى للمناطق الحيوية، وتضع من ضمن أهدافها الاستراتيجية، إقامة علاقات قوية مع روسيا، واليابان، والصين، وماليزيا، وإيران، والعالم العربي وبعض القوى الرئيسة فيه مثل حركة حماس وحزب الله. وكل ذلك يخضع لمبدأ " الدبلوماسية النشطة أو الفعالة "، وقد صرح في يناير الماضي أن "تركيا لا يمكنها تغليب علاقاتها مع الشرق أو مع الغرب"، مؤكدا أن تحسن علاقات أنقرة مع الغرب سيساهم في تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط والعكس بالعكس. وأحد أهم تجلياتها دبلوماسية الوساطة بفضل مبادرته لجعل تركيا بلدا "مسهلا للسلام" في الشرق الأوسط، أجرى دبلوماسيون إسرائيليون وسوريون أربع جولات من المفاوضات في اسطنبول في 2008، في محاولة للتوصل إلى تسوية بين البلدين. وتحركت بين حماس وإسرائيل خلال حرب غزة، وكذلك عن علاقات تركيا مع حزب الله، وأيضا في حل صراعات في دول القوقاز المجاورة والتي لن تنجح مع وجود مشكلات مع طالبي الوساطة. ففي أول تصريح له بعد تسلمه منصبه الجديد، أكد أحمد داود أوغلو أن تركيا لديها الآن رؤية سياسة خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز، و يريد أن  تقوم بلاده بدور أكبر في هذه المناطق، لكن علاقاتها مع الغرب ستستمر في كونها المحور الرئيسي للسياسة الخارجية .

ويبدو أن تطور الحالة الكردية في شمال العراق وتحولها إلى مكمن تهديد حقيقي للفئات الاجتماعية لدول الجوار العراقي وتركيا في مقدمتها، مفصلاً في إحداث تحول في طريقة تعاطي الدولة التركية مع عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية، حيث حدث تقارب حقيقي بين تركيا وكل من سوريا وإيران ونجحت في ترميم العلاقات مع واشنطن، وحققت تقدما على الطريق الأوروبي . كما نفهم أن السلام عنصر مهم لتركيا لأنه يسمح لها بتظهير نجاحاتها الاقتصادية وتوسيعها، ولذلك فإنها تتوسط في عمليات سلام مختلفة في المنطقة، فتركيا تمتاز بأنها تمتلك مشروعا تسعى إلى تسويقه . كما أن على تركيا - والقول لأوغلو - " أن تضمن أمنها القومي واستقرارها عبر تطوير دور أكثر فاعلية وبناء لتوفير النظم والأمن والاستقرار في النظم المحيطة بها ".

 

يبدو أن تركيا تمتلك مشروعها الخاص في العلاقات الدولية، وهو تصرف واع ومشروع للحفاظ على مصالحها القومية العليا، وما يؤسف عليه أن الدول بمختلف مذاهبها وأنظمتها تسعى جادة إلى تثبيت مصالحها والدفاع عنها، في الوقت الذي نشهد فيه غفلة وكبوة عربية وغياب إستراتيجية فاضح أفقد دولها الأهمية وجعلها رهينة التغيرات الكبيرة التي تسير إليها المنطقة.

وعموما، يمكن التشكيك بقدرة تركيا على القيام بدور إقليمي مركزي في المناطق الجغرافية المطلة عليها، فقدرات تركيا سواء في الجانب الاقتصادي أو العسكري وأيضا علاقاتها وتحالفاتها الدولية لا تؤهلها للعب مثل هذا الدور في جوارها الجغرافي سواء في البلقان أو القوقاز أو الشرق الأوسط أو البحر الأسود وحتى شرق المتوسط، إذ لا يستطيع لعب هكذا دور سوى القوى العظمى، وهي بديهة من بديهيات العلاقات الدولية. وبالنظر إلى المنطقة العربية مثلا نجد أن الثقل السياسي التركي لا يوازي النفوذ الإيراني مثلا رغم تفوق تركيا من الناحية العسكرية والاقتصادية والنشاط الدولي. وبالتأكيد هناك عقبات كثيرة ومطبات دبلوماسية عديدة ما تزال على الطريق.