تطبيق الشريعة بإقليم باكستاني: قنطرة للتقسيم أم خطوة إصلاحية؟!
4 جمادى الأول 1430
أمير سعيد

فيما تمضي الدولة النووية الإسلامية الوحيدة في خطوات كبيرة نحو التغريب، ويدير كبار سياسيوها ظهورهم للمقوم الأوحد الذي قامت عليه هذه الدولة التي تضم إثنيات وطوائف مختلفة، يحتفي متدينون باتفاق تم بين الرئيس الباكستاني الإسماعيلي الضعيف وحركة طالبان باكستان يقضي بتطبيق الحدود الشرعية الإسلامية المتعارف على اعتبارها "تطبيقاً للشريعة الإسلامية".

ومذ عين الرئيس الأمريكي باراك أوباما مبعوثاً أمريكياً لجمهوريتي باكستان وأفغانستان، والأفكار يتم تداولها في أروقة الباحثين وصناع القرار في العالم حول مغزى ضم البلدين إلى بعضهما البعض في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للمنطقة، ومدى تأثير ذلك على مستقبل البلدين المسلمين اللذين يعانيان احتلالاً حقيقياً بصورة مباشرة، كما في أفغانستان، أو غير مباشر، مثلما هو الحال في باكستان.

يعود البعض إلى خارطة "حدود الدم" التي رسمها الخبير الاستراتيجي العسكري الأمريكي ونشرتها مجلة القوات المسلحة الأمريكية في يوليو 2006 في محاولة لقراءة التطورات الجارية في ربوع باكستان، وإلى غض الطرف عن خطة تدريب إيران لجزء من القوات الأفغانية، وتمدد الإيرانيين في مناطق سنية تشملها خارطة "حدود الدم" بالذات، لكن علامات أخرى تتبدى أكثر عن دخول باكستان وأفغانستان نفق التقسيم المعتم بدأت تتكاثر بقوة في الآونة الأخيرة.

وأهم تلك العلامات، ما يتعلق بملف "الإسلاميين" أو "الإرهابيين" في باكستان بالذات، وهو ما تبلغ معه حرب التضليل أوجها مع تحريك الأوراق بخفة ساحر مع الاحتفاء بما قدمته حركة طالبان لمحازبيها من "انتصارات" من جهة، ودق نواقيس الخطر الأمريكية والغربية من جهة أخرى، وفي اليوم عينه الذي وقع فيه الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري على قانون يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في سوات، معطيا بذلك الضوء الأخضر لإنشاء المحاكم الإسلامية في الإقليم، وسع الجيش الباكستاني هجماته على حركة طالبان في منطقة القبائل, حيث قصفت الطائرات الحربية الباكستانية مواقع للحركة في منطقة بونير التي تبعد عن العاصمة الباكستانية إسلام آباد مسافة 100 كيلومتر فقط، وذلك بعد قليل من إعلان حركة طالبان أنها قررت تعليق المفاوضات التي كانت تجريها مع الحكومة طالما يستمر الجيش في عمليته العسكرية التي بدأها إثر ضغوط أمريكية على الحكومة الباكستانية حيث اتهمتها بتسليم البلاد إلى الإسلاميين.

ولا يقتصر ذلك المشهود على أنه مجرد تحول الوعد إلى وعيد، والغزل المكتوم إلى تحجيم عسكري للحركة، ولا أيضاً عن مجرد مفارقة طفيفة، لاستئساد جيش "سني" على حركة "سنية"، توقع معها على الجانب الآخر نظام سياسي يتقدم فيه المشهد طائفيون إسماعيلية، ويوافق بكل بساطة على تطبيق شريعة قامت الطوائف الإمامية والإسماعيلية مراراً للتنديد بتطبيقها حتى لو كانت في مناطق سنية خالصة، إنه بالتأكيد أعمق من ذلك بكثير.

لقد كان أحد أسباب اغتيال الرئيس الباكستاني "المتدين" ضياء الحق هو رغبته في تطبيق الشريعة الإسلامية في ربوع باكستان، ما استفز الشيعة الإسماعيلية والإمامية، وحتى أكبر متنفذي إيران في ذلك الوقت، وهو بدوره ما أدى إلى تسيير مظاهرات عنيفة، واندلاع أعمال شغب في الأقاليم ذات التواجد الشيعي في باكستان حينها؛ فأي سبب قد دعا أحد كبار منتسبي الطائفة الإسماعيلية إلى عقد اتفاق مع طالبان باكستان، بينما يمضي الجيش في جهوده لوقف تحرك طالبان؟!

إن إعادة النظر إلى خارطة "حدود الدم"، والنظر إلى المبالغة في تصوير قدرة حركة طالبان الباكستانية على تحدي سلطات الجيش الباكستاني القوي، والإيحاء بأن الاقتراب لمسافة 100 كيلو متراً من العاصمة ـ خلافاً لعواصم ككابول الأفغانية أو نجامينا التشادية وحتى الخرطوم السودانية أو غيرها مما يعني الاقتراب من العاصمة شيئاً خطيراً ـ هو خطر حقيقي يهدد عاصمة شديدة التحصين والقوة، ليس دعاية بريئة تقودها كبريات وسائل الإعلام الغربية التي أفاضت في الحديث عن ما بين 50 إلى 150 سلاحاً نووياً باكستانياً قد باتوا في تهديد حقيقي من اقتراب "الإرهابيين" منهم، ما يخلق شعوراً بأن ميليشيات مسلحة من الباشتون الباكستانيين بمقدورها تغيير معادلة الصراع للحد الذي يهدد أمن المنطقة برمته، وهو شعور كاذب في الواقع، ومعبر عن مؤشرات مغرضة تهدف إلى تزييف الحقيقة والإيحاء بأن تكرار ما حدث في العام 1994 يمكن أن يحدث عندما نشأت طالبان الأفغانية بسرعة وانسابت في الأقاليم الجنوبية الأفغانية إبان حكم الراحلة بنظير بوتو في باكستان، بعدما هيأت الاضطرابات الحادثة في أفغانستان بين "المجاهدين الأفغان" الأجواء لتضخم طالبان طبيعياً أو بمساعدة من الاستخبارات الباكستانية مثلما تواترت الأنباء حينها، هو نوع من القياس الفاسد أو المغرض.

ولعل بعض القوى المسلحة في أفغانستان التي لم ينسب لها منذ سنين أي عملية قوية ضد الحكم في كابول، قد باتت تدرك أنها تستخدم فزاعة من أجل التدخل في هذا البلد الأسيوي الذي استقل عن الهند قبل عقود في إجراء ثار حوله الجدل طويلاً ولم يزل، بهدف تقسيمه مجدداً بعد أن فصل عنه بنجلاديش، ويؤمل ـ غربياً ـ أن ينفصل عنه ما تسمى دولة "بلوشستان الحرة" الكبيرة التي تستقطع جزءاً صغيراً من إيران (في مقابل قضمها إقليم هيرات الأفغاني الغني بالغاز الطبيعي وفقاً لاكتشافات النفط الأمريكية التي لم يكشف عنها إلا قبل عامين فقط بعدما أدت أحداث 11 سبتمبر إلى احتلال أفغانستان).

باكستان التي نعرفها الآن ـ وفقاً لخارطة "حدود الدم" ـ ستكون شريحة صغيرة، تنهي تاريخاً إسلامياً رائداً في الهند استمر لقرون طويلة كان المسلمون يحكمون شبه القارة الهندية منذ القرن التاسع الميلادي (على يد القائد التتري محمود الغزنوي) وحتى القرن قبل الماضي عندما أنهت بريطانيا حكم المسلمين للهند، واصطنعت "المسألة الهندية"، وحشرت المسلمين في زاوية الانفصال، ثم أوعزت إلى حلفائها بعد ذلك بإنجاز فصل بنجلاديش، إضافة إلى فصل كشمير عنها من قبل..

وبعد مطالب انفصال بلوشستان عنها، ومن ثم تكوين جمهورية جديدة، واندلاع الصراعات في منطقة القبائل، ووجود نزعات وحدوية في مناطق الباشتون، فإن كرة ثلج المخاوف من تفتيت باكستان بدأت تتضخم، لاسيما إن عدنا إلى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي لا تجمع أفغانستان وباكستان في ملف واحد إلا لتفرقهما معا..

ولاشك أن تطبيق الشريعة وإقامة العدل في منطقة باكستاني هو عمل إصلاحي من حيث المبدأ، لكن التطبيق قد لا يكون إلا قنطرة لا يريدها الثوار حقيقة لكن تمضي من بين يديهم لما يريده المخططون الكبار؛ فالرسميون الباكستانيون ارتكبوا حماقات في وادي سوات، ومنطقة القبائل، واستعدوا الأهالي عليهم، وكان طبيعياً أن تثور ضدهم الجماهير، إلا أن النهاية قد لا تكون سعيدة في تلك المناطق في نهاية المطاف، لاسيما لو حدث الأخطر وهو ازدياد الهوة بين السكان على طرفي حدود إقليم، وكذلك إذا ازدادت عزلة منطقة القبائل..