مأزق النظام الرسمى العربى ام مأزق البشير ؟
8 ربيع الأول 1430
طلعت رميح
فى قضية المحاكمة السياسية لا الجنائية التى تجرى للرئيس السوداني عمر البشير،من فى المأزق: الرئيس السودانى عمر البشير ام النظام الرسى العربى ؟ . كليهما في مأزق, بل هما في مأزق متصاعد ومتعمق،اذ كلما زادت مقاومة الرئيس البشير وتمكن من حشد الشعب السودانى و الراى العام العربي حوله،كلما تعمق مأزق النظام الرسمي العربي, و الأمر ذاته فيما يتعلق بازدياد ضغط الدول الغربية، اذ كلما زاد ضغط " اوكامبو " كلما ازداد المأزق عمقا, كما ذات الأمر بالنسبة للرئيس البشير .وواقع الحال, ان الرئيس البشير "قد تعاون" مع النظام الرسمى العربى, فى هذه القضية على نحو فاق كل التوقعات, و هو بتعاونه هذا, جعل الجميع فى " قلب " الحدث . البشير لم يتخذ مواقفا "صلدة" – كما هو حال الرئيس العراقى صدام حسين – وبذلك لم يفتح الباب لبعض القادة العرب للانقلاب على مواقفه هجوما . او لنقل انه قام بمناورة تمكن من خلالها من ترحيل المازق من السودان الى النظام الرسمى العربى . و هو فى ذات الوقت, وضع الاخرين فى صورة ما سيجرى للسودان, ولدول عربية اخرى جراء احتمالات تفكك السودان واضطراب اوضاعه, اذ التاثيرات لن تتوقف على حدود السودان, بل ستمتد تاثيرا الى الدول العربية الاخرى.
وقد تلاقى سلوك البشير مع طبيعة المخاوف " القاسية " التى تدور فى اروقة صناعة القرار و فى مخيلات قادة كثيرين فى النظام الرسمى العربى, اذ الرئيس البشير فى الحكم وهم كذلك, والرئيس البشير لم يفعل "شيئا" بيده وانما هو مارس مهامه كرئيس, ولذلك هم فى اشد درجات القلق, اذ يمكن ان تجرى ذات اللعبة مع اى منهم "باصطياد" موقف هنا وهناك, لتجرى محاكمة شبيهة بتلك التى يضغط بها الان. وكذا البشير قد قدم قدرا واسعا من " التنازلات" بناءا على مطالبات فردية و جماعية من بعض هؤلاء القادة, دون ان يفلح اى منها فى اتقاء شر المحاكمة, ومن ثم فهم شركاء فيما يحدث له. وهكذا فان احدا لا يشعر انه بعيدا عن الوقوف فى ذات الموقف, كما الامور يمكن ان تسوء على نحو فعال اذا اصبح الرئيس البشير ممنوعا من مغادرة بلاده . هل سيمتثل قادة النظام الرسمى العربى للمطالبة التى اطلقها اوكامبوا باعتقال البشير حال مغادرته بلده –فماذا لو حدث الامر خلال توجهه لانعقاد مؤتمر قمة عربى-و اذا لم يمتثلوا هل يجدوا انفسهم فى موجهة مع المحكمة الجنائية – السياسية – الدولية ومن هم ورائها ؟!وماذا لو جرى اختطاف طائرة البشير فى اجواء احد الدول العربية ؟
بوش و اوباما
يمكن قراءة السلوك الاستراتيجى السودانى, والرسمى العربى, فى مواجهة الالحاح و الضغط " والاستراتيجية " الغربية فى قضية المحاكمة السياسية للرئيس عمر البشير – وفق حالة جنائية – على انها مثلت نمطا من اللعب على الوقت, او كما يسمى " قضم الوقت " فى انتظار ان ترحل ادارة جورج بوش, لياتى ساكن جديد للبيت الابيض " اكثر رافة " بالحكام و النظام الرسمى العربى .
كانت المراهنة على مجئ رئيس ديموقراطى فى حكم الولايات المتحدة واضحة فى الكثير من السياسات العربية الرسمية على الاقل فى العامين الاخيرين. وهى مراهنة جرت وفق رؤية ومعرفة لسلوك الديموقراطيين فى الولايات المتحدة خلال دورات حكم سابقة, اذ تعود النظام الرسمى العربى ان ياخذ الديموقراطيين ماخذ الجد مبدا الحافظة على استقرار النظام, من خلال دعم القادة والحكام,وكيف انهم جعلوه اساسا من اسس السياسة الخارجية, اذ يجرى تحقيق المصالح الامريكية باقل قدر من الضجيج.  هم لا يلجاون بشكل موسع الى نمط الحروب الخارجية, بل هم يحرصون على ان تجرى الضغوط من خلال وسائل تعتمد الحوار السرى مع النظم و الحكومات لا الضغوط العلنية .هكذا نظر دوما فى العالم العربى لحكم الديموقراطيين فى الولايات المتحدة .
وقد ظهر هذا السلوك الرسمى العربى المناور فى اكثر من مناسبة, خاصة تلك التى قامت خلالها بعض النظم باتخاذ اجراءات جزئية فى مجالات الحرية العامة و الديموقراطية فى البلاد العربية, خلال الفترات التى كانت تتكثف فيها ضغوط جورج بوش على النظام الرسمى العربى, اذ جرت الاستجابة لبعض الضغوط, مع تفريغها من مضمونها, سواء على صعيد الاخذ بقواعد الانتخابات فى شغل كثير من المواقع فى جهاز الدولة, او فيما اتيح للشخصيات المتعاونةمع الولايات المتحدة, من حرية نشاط وحركة فى داخل الدول العربية للظهور بمظهر غير المتحدى للطلبات الامريكية, او من اعطاء ايحاءات بالسير ببعض الخطوات فى مجال حرية المراءة و حقوقها وفق النمط الغربى العلمانى .. الخ .
كان كل ذلك اتقاءا لشرور جورج بوش, لكنه حمل فى طياته ايضا, خاصة خلال العامين الاخيرين من حكمه،مراهنة على مجئ الديموقراطية, وهو ما ظهر من " التباطؤ " الظاهر فى الاستجابة لضغوط بوش خلال تلك الفترة،بل وحتى النكوص على بعض الاجراءات " الاولية والهامشية" التى اتخذت من قبل .
وفى قضية البشير خاصة, فقد نصح الرئيس البشير – وهو فى الاغلب كان لا يحتاج الى النصح بقدر ما كان يحتاج الى من يلتزم بالسير معه وفق ذات النهج – بعدم الدخول فى مجابهة مباشرة مع جورج بوش و اللجوء الى مناورات ذات طابع استراتيجى, تستهدف الحركة فى ذات الموقع مع توسيع مساحة الحركة بتنويع اتجاهاتها, او تقديم تنازلات يمكن العودة عنها بالهجوم المضاد فيما بعد .
الحسابات اختلفت
لكن الاشكالية التى وقع فيها النظام الرسمى العربى و الحكم فى الخرطوم, هى عدم ادراك ان ثمة ظاهرة جديدة،كانت تتبلور وتقوى فى الحزب الديموقراطى, لا تقل تطرفا عن تلك التى جرت فى الحزب الجمهورى وجاءت بالحافظين الجدد او المتصهينين الجدد الذين مثلهم جورج بوش .
الحزب الديموقراطى الذى يحكم الان, وادارة باراك اوباما بشكل محدد, هى نمط اخر, غير ذاك الذى بنيت عليه حسابات النظام الرسمى العربى ونظام الحكم فى السودان .
الحزب الديموقراطى قد ظهرت فيه بالفعل مجموعة جديدة, هى مجموعة الديموقراطيين الجدد, وادارة اوباما, ومن قبل الذين ساندوا ترشيح اوباما و ايدوه و اوصلوه الى الحكم هم تلك المجموعة, التى وان رفضت استخدام الاساليب الحربية لتحقيق اهداف السياسة الخارجية الامريكية, فانها شديدة التطرف فى استخدام اساليب " القوة الناعمة " لتحقيق ذات الاهداف .
و المتابع لكل التعينات التى جرت فى ادارة اوباما – خاصة فى ادارة السياسات الخارجية – يصل الى استنتاج بان كل التعويل والمراهنة على ادارة باراك اوباما, لم يكن الا وفق رؤية قديمة للحزب الديموقراطى, لم تعد قائمة الان .
وفى ذلك يبدو مهما الاشارة الى اشخاص مثل هولبروك ودينيس روس وميتشل, الذين هم من اهم ممثلى البناء الليبرالى الجديد فى الحزب الديموقراطى .هذا بالاضافة الى دلالات تعيين الصقور من امثال هيلارى كلينتون كوزيرة للخارجية،وجوزيف بايدن نائبا للرئيس،وعمانويل رئيسا لموظفى البيت الابيض ...الخ.
و لذلك وفى ظل المراهنة على الحزب الديموقراطى وعلى حالة من التهدئة والحوار،جاء مفاجئا للنظام الرسمى العربى و الحكم فى السودان, ان تجرى مطاردة البشير " بشدة و قسوة " بعد وصول ادراة اوباما للحكم, كما جرى مفاجئا لهم هذا الالحاح الامريكى على مساندة رجال الولايات المتحدة فى الدول العربية و استمرار فتح حلقات جورج بوش كان قد فتحها من قبل حول الحريات و الانتخابات و غيرها, وهو ما دعى بعض الدول الى التحرك " السريع " للملفات التى جرى التراجع عن السير فيها, خلال العامين الاخيرين من حكم جورج بوش،كمحاولة للتقرب من الإدارة الجديدة، بعدما أصبح باديا ان المراهنات التى جرت على حكم اوباما – وفق النظرة القديمة لسلوك ومفاهيم الحزب الديموقراطى – سارت تتسرب من بين اصابع الذين راهنوا, بعد مضى اقل من شهرين على حكم اوباما .
وما زاد الطين بله فى هذا المأزق، هو تلك التحولات ناحية العدوانية فى السياسة الخارجية الأوروبية، التى صارت من عوامل تضييق القدرة على المناورة .
كل نظام ومصالحه
هنا تبدو الامور فى طريقها الى مازق شامل . فعلى صعيد الحكم فى السودان, لم يعد السيف لامعا من بعيد, يرى ضوءه و لا يخاف فعله, بل هو صار اقرب الى الرقاب .
وعلى صعيد النظام الرسمى العربى, صارت القناعة متصاعدة بان امر السودان قابل للتكرار مع الجميع, بما يتطلب بحث عن موقف يمنع اعمال السيف الامريكى, الذى هو امضى فى ظل حكم اوباما, وان جاء فعله باقل قدر من الالم . وفى كلا الحالتين تبدو الاسئلة متكاثرة . اولها : كيف سيتحرك الحكم فى السودان, هل سيندفع فى تعزيز اوضاعه الجماهيرية مع سعى لتشكيل جبهة سياسية واسعة تكون اساسا للحكم لتقليل اثر تحرك الخارج على الداخل, ام سيظل يقدم التنازلات لخصوم الداخل من خلال البوابات الغربية التى ثبت انها تنفذ الى الداخل على نحو اعمق, كلما قدم الحكم فى السودان تنازلا – على يدها – للخصوم فى داخل المجتمع .
وكيف سيتصرف فى علاقاته العربية و الافريقية و الدولية ؟ هل سيظل يساير الضاغطين عليه بتقديم مزيدا من التنازلات, تحت زعم المناورة و قضم الوقت, بمنطق متعدد يستهدف التمكين للحكم الراهن واصعاف حجج المتمردين, ام هو سيغير خط سيره ويعلن بوضوح انه لم يعد هناك تنازلات اخرى يمكن ان يقدمها،بما قد يدفع الى صدامات هو فى غنى عنها؟
وعلى صعيد النظام الرسمى العربى, وفى موجهة المازق،اصبح النظام و اطرافه فى حالة حصار , بين انهم هم من " اقنعوا " البشير بتقديم التنازلات ( وهو لم يكن فى حاجة لمن يقنعه ) ومن ثم هو سار على خطاهم حتى وصلت الامور للمازق, وبين ان كل منهم كان يناور فى الاصل دفاعا عن نفسه ( عن النظام ), بما قد يملى عليه وفق مصالحه, التفلت و البحث عن مساومات تجعله ( وهما ) بعيد عن الايدى الغربية .
هنا, يعود النظام الرسمي العربى الى الدوامة التى عاش فيها منذ ولادته وحتى الان . المصالح الخاصة للنظم و الدول, اعلى من المصالح العامة للوضع و الدور العربي باجماليته, وكلما حدث تعارض بين مصالح القطر او الدولة او النظام – على المدى القصير – مع المصالح العربية عامة, كان يجرى الامساك بالمصالح الخاصة و اهدار المصلحة العامة .

زلذلك،فالاغلب ان هناك من سيلحق بالبشير ولو بعد حين !