الواقعية السياسية والمقاومة
6 صفر 1430
د أسامة عثمان

بذريعة الواقعية السياسية يُسخِّف بعضُهم فكرة المقاومة ومنهجها، علما بأن الحكم على أمر بالواقعية، أو بانتفائها، ليس بمنأى عن ثقافة مُصْدِر الحكم، أو مواقفه السياسية، وإلا فإن الشعب الواقع تحت الاحتلال، والمعرض للتهديد الدائم لوجوده، وكينونته، يَتوقع منه الواقع مقاومة. كما هو شأن أي جسم حي تستنفر قوى المناعة فيه لصد أية جرثومة ضارة وغريبة. وبمقدار ما يرفض ذلك الجسم تلك الجرثومة، ولا يعترف بها، بمقدار ما يدلل على أمارات العافية فيه، والصحة.

الواقعية من الكلمات التي تحتفظ بسحر خاص وجاذبية؛ لكنها لا تقوى على مصادرة الزوايا الأخرى التي ينبغي النظر منها إلى المقاومة، فقبلها تنهض في الأمم عقائدُها، ومقدساتُها وثقافتُها، وحضارتُها. تلكم هي روح الأمة وسرُّ وجودها. وهي التي تحدد للأمة مساراتِها.

فما موقع الواقعية، إذن؟

هي كلمة منسوبة إلى الواقع، ويمكن النظر إليها من زاويتين رئيستين؛ فإما أن تعني فقه الواقع، بوصفه مَحَلاًّ للأحكام، والأعمال، وإما أن تتخذه، بتشكلاته، وتذبذباته، مصدرا للأحكام، ومُحدِّدا للمواقف.

فأما أن يكون مصدرا للأحكام، وهذا ما يريده (الواقعيون العرب) فلا أخطرَ منه! ولا أغرب! فالدول والحركات لا تَشْتَّقُ أهدافَها من الواقع، ولا تحدد مصالحها الحيوية والمشروعة، بناء عليه، وإن كانت، وهي تخطط استراتيجياتها، تراعي الواقع، من حيث توقيتُ تنفيذ تلك الأهداف، أو التدرج في ترتيبها في سلم أولوياتها. أو في آليات العمل والمقاومة، وفي أساليبها. بحسب المُكْنة، والاستطاعة.

ولا تقبل تلك الدول، والقوى السياسية، وحركات المقاومة أن تَتَبرَّأ من تلك المواقف؛ وإن كانت تقبل، أن تهادن، أو تُجمِّد فيها، لمصلحة مُقرَّرة، أو ضرورة ملجئة، لا تقبل ذلك؛ لإنها تعي خطورته على سماتها وشخصيتها، وهو الأخطر من كل الخسائر، والمستأهل لكل التضحيات.

فالرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- قَبِل حين حاصرته الأحزاب أن يعرض على غطفان ثلث ثمار المدينة مقابل رجوعهم عنها، حين قدّر خطورة الموقف على كيان المسلمين، خطورةً قد تُودِي به. وهو حينها، لم يعترف بهم، اعترافا دائما، مع أنهم كانوا غير غاصبين، كما يفعل يهود اليوم، ولم يتنازل- حاشاه، صلى الله عليه وسلم- عن شيء من دينه، أو ثوابته، ولكنه، عليه أفضل الصلاة والسلام، كان يؤسس سياسته، ومواقفه، على العقيدة الإسلامية، ومقتضياتها التي منها نشر الإسلام، دون أن يعوقه عائق.

يتذرع (الواقعيون) بانتفاء التكافؤ في موازين القوى، وهل تفتقت المقاومة، وانبثقت إلا لانعدام التوازن في القوى المادية، ولو كان ثمة توازن في فلسطين، لكان شكل الصراع استحال حربا. وحتى الحروب تتنوع وتتشكل بحسب الظروف، والقدرات، والأهداف، فثمة حرب الاستنزاف، والحرب الوقائية، والاستباقية، وغيرها.

وإنا، وإن كنا لا ننكر أهمية العُدَّة المادية، وهي مطلوب الشرع، قبل الواقع، فهي ليست وحدها في ساحة المواجهة، والمقاومة، فماذا عن أحقية الفكرة، وسلامة الموقف، وعدالة القضية؟! وماذا عن صمود أصحاب الحق، وثباتهم، في تأليب العالم ضد المعتدين، وتحصيل المساندة والاحتضان من المسلمين، ومن أصحاب الضمائر الحية حول العالم كله؟! وما فاجأتنا به الحرب العدوانية على غزة من دعم وتفاعل عالمي، ليس إلا دليلا على ما تستطيع تلك العوامل فعله.

من الجدير بالاستغراب أن الجدل عند أولئك (الواقعيين) مفتعل على أصل المقاومة، لا على تفاصيلها، و( تكتيكاتها) فهم يطالبون بالرضوخ إلى المعادلة الدولية الظالمة التي تنحاز إلى المعتدين، وتساند الدولة الغاصبة، فقد أعياهم الانتظار! واستبدت بهم اللحظة العابرة. حتى تعاموا عن تاريخ المسلمين، وما اعتراه من مراحل جزر، أعقبتها مراحل قوة ومد، كما تجاهلوا الثورات المعاصرة في بلاد العرب، وغيرها، التي لم تثنها الوقائع التي فرضها الاستعمار عن مواصلة المقاومة، حتى بلوغ الأهداف.

وبعضهم يستخدم المغالطة، للقدح في المقاومة، نهجا، وممارسة، بحجج سياسية، لا تقوى على التأسيس لما يريدونه، فالمقاومة ليست حالة عارضة، ولا هي مرهونة بدعم من دول معينة، ذات مصالح، خاصة، كإيران، وسوريا، مثلا، فهي باقية، ما بقيت أسبابُها، وما وجد الاحتلال، وعدوانُه. ولم يحدث أن سَلَّم شعب باحتلال أرضه، وطرده منها؛ فكيف يفعلها شعب فلسطين المسلم؟! وهذا ما توقنه (إسرائيل) وتبني عليه سلوكها الاستئصالي، بالإبادة، والعدوان.

والسؤال الذي يُطرح، على وضوحه، كيف تحدث تحولات التاريخ؟ أليست هي محصلة القوى المتصارعة، أو المتغلب منها؟! أليس المسألة صراع إرادات؟

وحتى البراغماتية التي تزدهر في الفكر السياسي الأمريكي، فإن من ضمن ما تعنيه، الإصرار على تحقيق النتائج والأهداف، مهما كانت العوائق. وهم يُمَجِّدون تجاوزَ الواقع، حتى الوصول إلى ما يسمى بالخيال الخلاق الذي يعيد تشكيل الواقع باستمرار... وليس هذا مقام مناقشة البراغماتية، بوصفها نظرية فلسفية، من جميع جوانبها، ولكنها، وغيرها، شاهد على عدم اتصافهم بتلك الواقعية السلبية التي يُبتلى بها عرب تثقفوا بثقافتهم!

والواقع يشهد لنهج المقاومة من حيث تحقيق النتائج، في مقابل نهج التفاوض العقيم، غير المدعوم بالقوة، إلا القوة الأمريكية المنحازة، بإطلاق، لصالح الكيان الغاصب. ففي فلسطين، اضطر الاحتلال إلى الانسحاب من غزة، من طرف واحد،عام 2005م، بعد أن سببت لقادته الكوابيس؛ فتمنوا أن يبتلعها البحر! وحين عادوا إليها مؤخرا لم يتجرؤوا على التعمق فيها، بالرغم من البطش الجنوني الذي صبوه على أهلها المدنيين! وبنيتهم التحتية!

فالمقاومة عين الواقعية، ومَطْلبُها، وهي الحالة الطبيعية في حالات الاحتلال، وهي التي تستبقي الذاكرة الجمعية للأمة، على توهجها، وعنفوانها. والمقاومة واقعيةٌ بكل الأعراف، فهي تضطلع بدور، لا نزاع فيه، إلا من دولة الاحتلال، ومن مالأها من دول، كالولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية التي باتت تشهد تناميا شعبيا واسعا، لا بد أن يثمر وعيا متزايدا بمن يمارس الإرهاب، متقمصا ثوب الضحية! فهل يعيد من ما زال مُضَلَّلا، أو مُضَلِّلا، في دعوى الواقعية، النظر؟!