غزة ... تكشف حقائق وترسخ أخرى
12 محرم 1430
د. ياسر سعد




الحروب والأحداث الجسام تعيد تأكيد حقائق معروفة وتكشف عن أخرى، وتساهم في تشكيل مفاهيم وقناعات جديدة، وقد تهيئ لتغييرات لاحقة وجذرية وإن لم تبدو مرئية وقت وقوع تلك الأحداث. ولعل مجازر غزة ووقائعها الدامية ليست استثناء، فستكون لتلك الأحداث تداعياتها كبيرة في المستقبل المنظور والبعيد.

في حربي العراق وحرب لبنان ومجازر غزة، نلحظ إصرارا على إظهار نزعة تدميرية كبيرة تستهدف البنى التحتية ولا تستثنى المدارس والمؤسسات المدنية والمساجد. وكأن هذا السلوك العنصري يريد تكريس الفوقية التي تريد أن تقول للعرب والمسلمين إنكم بأطفالكم ونسائكم مجرد أرقام نلهو بها ومعها من خلال أخر ما وفرته لنا التكنولوجيا والتي تتخلفون فيها عنا. من المؤسف أن بعض المسؤولين المصريين والعرب والفلسطينيين ممن شاركوا بالعدوان على غزة من خلال تبريره بحديث الإفك عن صواريخ المقاومة، يريدون ترسيخ تلك الفوقية الأمريكية والإسرائيلية في التعامل معنا، فراحة المحتل الإسرائيلي ورفاهيته أهم من شلالات الدماء وأشلاء أطفال غزة وأمهاتهم.

مجزرة غزة هي الرد الإسرائيلي العملي على تهافت العرب وعلى مبادرتهم السلمية، وهي نموذج عملي للشرق الأوسط الجديد والذي يراد لإسرائيل أن تكون فيه السيد المطاع والحاكم بأمره. فجميع مفاوضات السلام والمبادرات الدولية تتعامل بعنصرية مع الفلسطيني، والذي عليه واجب حماية المحتل مقابل دولة مسخ لا جيش لها ولا معدات عسكرية فيها ، فيما تتعامل بتبجيل مع دولة الاحتلال والتي تمتلك السلاح النووي وتقابل إي إزعاج أو إيذاء لها ببراكين من النيران والمجازر، كما يجري الآن في غزة.

الموقف الأمريكي والغربي من محرقة غزة يعطي برهانا إضافيا وصارخا على افتقار ساسة الغرب في مجملهم للأخلاق والقيم، هذه السلوكيات غير المستقيمة لم نكن نحن فقط من ضحاياها بل وشاركتنا في تحمل آثار بؤسها الشعوب الغربية والتي تعاني الآن من أزمات مالية واقتصادية سببها الرئيس اهتزاز الأبعاد الأخلاقية في الحياة العامة. أبحث عن لويس أوكامبو والذي يريد أن يحاكم الرئيس البشير من أجل تجاوزاته في دارفور، فلا أجد للرجل الصاخب حضورا فيما يقع على غزة. وفيما يصر أوكامبو أن عنده أدلة ضد البشير جمعها بعناء وجهد، ربما كما فعلت إدارة بوش مع أدلة أسلحة الدمار الشامل في العراق،  فإن أدلة مجزرة غزة كثيرة ومتوفرة وعلى الهواء مباشرة، بل ويتبجح بها الصهاينة.

غزة بأطفالها ونسائها وشيوخها تصمد أمام أقوى جيش في المنطقة في معركة العين والمخرز، والاحتلال والمقاومة، والهمجية والمبادئ السامقة. صمود غزة أحرج المتواطؤن وأعاد للقضية الفلسطينية وهجها وتألقها بعد أن لوثها مفاوضون بعناق الجلاد وبتقبيله وبمفاوضاتهم العبثية. دماء أطفال غزة وأشلاؤهم حركت الشارع العربي والذي ظن كثيرون أنهم أماتوه بفضائياتهم وبمجونها الذي أرادوا له أن يغزو عقولنا وبيوتنا.

المجزرة فضحت السلطة الفلسطينية وأظهرتها بمظهر الحليف المتواطئ مع آلة القتل الصهيونية، من خلال تصريحات مشبوهة من رموزها تبرر عمليات الإبادة وتتفهمها. وهاهي السلطة تتراجع مع صمود غزة، ويطلب رئيسها عباس بوقف جميع الحملات الإعلامية بحق الصامدين، ويعلن أنه سيسافر لنيويورك للحصول على قرار أممي بوقف إطلاق النار ولن يعود من غيره. ربما يريد أبومازن الفرار وعدم العودة لفلسطين  لأنه يشعر بأن شعبه في الضفة قد ينتفض عليه. الفشل العربي الرسمي عن القيام بأي دور تجاه محنة غزة يعد ضربة كبيرة لعباس في المقام الأول، فالرئيس الذي تنتهي ولايته بعد أيام، يستمد شرعيته بعدها من دعم النظام العربي الرسمي له. النظام العربي العاجز عن القيام بدور أمام محرقة غزة يصبح دعمه عبئا أكثر منه إسنادا وتمكينا.   

المقاومة الفلسطينية تنتصر وفي أكثر من بعد. ففي البعد الأخلاقي تتعرى دولة الاحتلال، فيما تكتب غزة ببسالتها وثباتها التاريخ، وتعطي نموذجا وبرهانا بأن اختلال موازيين القوى لا يبدل الحقائق ولا يضيع حقوقا تشبث بها أصحابها. عسكريا ومعنويا أدت حملة القصف الهمجية إلى مزيد من الصواريخ، وبالتالي فشلت في تحقيق هدفها المعلن، فيما ازدادت شعبية حماس بين الفلسطينيين وهوت أسهم عباس محليا وعربيا.

  أحداث غزة الدامية سيكون لها انعكاساتها الدولية، فالغرب والذي تنتقل منه القيادة الاقتصادية شرقا، يُستنزف أخلاقيا برعايته لدولة الاحتلال وتغطيته على جرائمها. فأية قيمة ستكون للدعاوي الغربية حول حقوق الإنسان في دارفور أو زيمبابوي أو الصين وهي التي بررت أو دعمت مجازر غزة؟! الصين كانت من أبرز القوى العالمية والتي دعت لوقف إطلاق النار، أما الرئيس البرازيلي فقد دعا إلى عقد قمة لحل النزاع وانتقد بشدة الأمم المتحدة لسلبيتها عن اتخاذ قرار لتجنب المذبحة، مؤكدا ثقته في نجاح دعوته لحيادية بلاده، رافضا بقاء واشنطن وسيطا وحيدا لأنه لا جدوى منه.

بقي أن نقول لمن يتهم حماس زورا وبهتانا بأنها أحد أوراق إيران الإقليمية، بأن طهران وعلى الرغم من دعمها وحلفائها الصوتي للمقاومة، فهي غير مسرورة بانتقال راية المقاومة الشعبية من حزب الله المؤمن بولاية فقيه إلى حماس. إيران التي تحارب الشيطان الأكبر حينا وتناصره أحيانا أخرى كما حصل في أفغانستان والعراق، وتريد أن تمحو إسرائيل من الخريطة كما يصرح رئيسها أحمدي نجادي، ثم تتباهي بعلاقة الصداقة التي تربط شعبها بالشعب "الإسرائيلي"، كما أعلن نائبه. عادت لتلعب نفس اللعبة فما يتعلق بمجزرة غزة، فقد ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية أن صحيفة كاركزاران اليومية المقربة من الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني أُغلقت لنشرها مقالا قالت السلطات انه يتعاطف مع إسرائيل. وقال محمد برويزي المسؤول بوزارة الثقافة "سبب إغلاق الصحيفة هو أنها نشرت أمس مقالا بررت فيه جرائم النظام الصهيوني في غزة"، وأن المقال الذي لمح إلى أن بعض مؤيدي الفلسطينيين "جماعة إرهابية"، وأن الفلسطينيين الذين يحتمون برياض الأطفال والمستشفيات "يتسببون في تعرض مدنيين وأطفال للقصف والقتل".

الإعلان الإيراني عن الإغلاق هو بتقديري للفت انتباه الغرب وأوباما تحديدا لرسالة تقول: بأن في إيران تيارات ووجهات نظر متباينة يمكن التفاهم معها. فقد أعلن نجادي الصاخب منذ أسابيع ومن خلال صحيفة أمريكية عن استعداده للاعتراف بإسرائيل، وحذر وزير خارجيتها الغرب من التحاور مع حركة طالبان "الإرهابية"، وها هي صحيفة محسوبة على تيار سياسي مهم تعلن عن تنديدها بالإرهاب الفلسطيني لتشاطر اولمرت وباراك وليفني رؤيتهم ومنطقهم.

في المواقف الإيرانية تنبيه للدول العربية والي تخشى تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة تقول بأن مواجهة النفوذ الإيراني لا يكون بمحاصرة حماس بل بدعمها والوقوف معها لتتشكل في المنطقة جبهة ممانعة حقيقة لا تحمي الفلسطينيين وحدهم بل والدولة العربية من الاستعلاء الصهيوني وتحمي ثرواتها من الابتزاز الغربي تحت مسميات مختلفة.