إلى أهل غزة: عيد رأس سنة سعيد!
5 محرم 1430

بقلم/هيثم الكناني

لا يحملنك هذا العنوان أيها القارئ الكريم على أن تظن بكاتب هذه الكلمات الظنون، فليست هذه المقالة لتهنئة أهلنا في غزة بالسنة الجديدة، وليس هذا العنوان رسالة تكتبها طفلة يهودية حاقدة على صواريخ تهيأ لإزهاق أرواح أطفال آخرين في بقعة منسية اسمها غزة، فالأمر جِدُّ مختلف.

إنني أكاد أجزم أنه لا توجد ليلة على مدار العام يُعصى فيها الله عز وجل بمثل ما يُعصى في ليلة رأس السنة الميلادية، فكأن الناس فيها قد تواعدوا فيما بينهم على مبارزة الله سبحانه ومحاربته بالمعاصي، فاحتفالهم فيها قائم على المنكرات والفواحش، من شرب الخمور، والعري، والاختلاط، والغناء، والرقص، والزنا، والفجور؛ تراهم يعدون لكل ذلك قبل هذه الليلة العدد، وينفقون الأموال والجهود والأوقات لنيل هذه المآرب. ألا خابوا وخسروا!

إن المرء ليعجب! إذ بأي شيء يحتفل القوم؟
إن كل يوم على مدار العام يمكن أن يكون بداية عام ونهاية آخر، فما الذي ميز هذا اليوم عن غيره ليكون هو بداية العام؟
هل أوتي القوم -مثلاً- علماً أنه اليوم الذي خلق الله فيه الخلق؟
إننا نجزم أن شيئاً من هذا ليس عندهم، فليست هذه الأشهر الميلادية بالأشهر التي ارتضاها الله لعباده، بل {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].

وحتى لو سلمنا بأن هذا اليوم له ما يميزه فيصلح أن يكون أول العام، فبأي شيء يحتفل القوم؟ أيحتفلون بقربهم من قبورهم عاماً آخر؟ أوَ أعدوا لهذا اليوم عدته ليكونوا فرحين متشوفين للقائه؟ هيهات، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]!
لكن الإنسان إذا تجاوز كل ذلك، وفهم أن يحتفل الكفار بهذا اليوم لسبب أو آخر، وفهم أن يواقعوا فيه المنكرات والموبقات -إذ ليس بعد الكفر ذنب- فإن عجبه لا ينقضي عندما يشاهد بعض المسلمين يشاركونهم احتفالاتهم، بل ويجترؤون على حرمات الله في هذه الليلة فينتهكوها بمثل ما هو مشاهد في كثير من بلاد المسلمين!

لكن هذا الذي يفعله هؤلاء المسلمون يبقى من جملة البلاء والابتلاء الذي يقع فيه أهل الذنوب والمعاصي هداهم الله، لبعدهم عن الله، وإيثارهم الآني الفاني على الآتي الباقي. هي صفقة خاسرة بلا شك، لكن هذا هو شأن أهل المعاصي على الدوام، فليس في الأمر ما يدعو إلى الاستغراب.
لكن الغريب حقاً والذي لا يكاد يمكن فهمه، أن تتعرض الأمة لمثل هذه النازلة التي حلت بأهلنا في غزة، ثم نجد أهل اللهو في لهوهم يلعبون، وأهل الغفلة في غفلتهم سادرون، وأهل الطرب يطربون، وأهل الرقص يرقصون، والجميع بهذه الليلة السعيدة يحتفلون، فبأي شيء يا قوم تحتفلون!
إذا لم يكن ثَمَّت دِين، فأين النخوة والمروءة، بل أين الضمير والإنسانية؟

وتزداد الصورة قتامة عندما تتحول بعض هذه الحفلات إلى مناسبة -في بعض فقراتها- "لنصرة" الصامدين والمقاومين والممانعين في غزة، وفرصة لإهداء أهل غزة بعض الأغاني التي تخفف من معاناتهم في هذه الليلة، و"بالروح بالدم نفديك يا غزة"!
وتتكامل صورة المأساة أو الملهاة -سمها ما شئت- عندما نقرأ أن ريع الحفل الفلاني سيذهب لنجدة أهل غزة، وأن المطرب الفلاني والمطربة الفلانية قد تبرعا بأجر الحفل لدعم المقاومين في غزة، وعيد رأس سنة سعيد يا غزة!
هي مأساة، لأننا نجد قوماً لا يستطيعون أن ينتصروا على شهواتهم وأهوائهم ولو شيئاً قليلاً في مثل هذه الظروف، وهي مأساة كذلك لأن قوماً قد يظنون أن نصرة غزة وأهلها تكون فعلاً بمثل هذه الأعمال، وقد قال تعالى عن مثل هؤلاء: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103،104]. 

فلهؤلاء جميعاً نقول: كفوا عنا جشاءكم، وأميطوا عن طريقنا أذاكم، فليس أهل غزة ولا غيرها بحاجة لأموالكم التي دنستها الخطايا، وليس بمثل هذا العبث تكون نصرة المرابطين الصامدين، فنصرتهم لا تكون إلا بما يرضي الرب سبحانه وتعالى، وانتصارهم وانتصار غيرهم من المؤمنين لا يكون إلا بنصر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

ونصر الله، لا يكون بالأغاني أو الأماني، ولا يكون بمقارفة الذنوب والمعاصي، لكنه إنما يكون بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، فـ{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، فهذا والله هو سبيل الخروج الوحيد من هذا التيه الذي دخلت فيه الأمة من عقود، دخلته يوم فرطت في جنب الله، فحاق بها ما حذرها منه نبيها صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا تبايعتم بالعِينة ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" ، فلما وقعت الأمة فيما حرم الله وركنت إلى الدنيا وتركت الجهاد، سلط الله عليها ذلاً بيد عدوها، وهو ذل لا ينزعه ويرفعه أحد -كما في الحديث- إلا الله، وليس ذلك إلا بالرجوع إلى دينه الذي ارتضاه لعباده، فليس بترك المحرمات فحسب، وليس في عدم الركون إلى الدنيا فحسب، وليس في الجهاد فحسب، لكنه بالرجوع إلى الدين بكل شرائعه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4،5]، والله المستعان.