نهاية ما تبقى من "شرعية" عباس.. وسلة "إسرائيل" الفارغة
1 محرم 1430
أمير سعيد







كان الناس مشغولين بلملمة أشلاء شهداء المجزرة ونقل الجرحى ومسح رؤوس اليتامى وتثبيت الثكالى، وعلى مبعدة من ميادين الرباط، وكانت الخفافيش تتحسس من كهوفها ثغرة أمنية يفتحها الصهاينة في جدار الأمن الذي توفره حكومة إسماعيل هنية لينفذوا منها طمعاً في خلخلة منظومة الصمود التي نعم بها قطاع غزة لنحو عشرين شهراً؛ فلما وقع العدوان تحركوا ـ وفقاً لمواقع قريبة من الانقلابيين ـ لمحاولة اقتحام مقر السرايا في غزة بعدما قال المرجفون في غزة إن حماس قد فقدت سيطرتها عليه!!

إن صدقت؛ فهي محاولة جد بائسة لن تزيد الظالمين إلا خساراً، وستنف أي كرامة لآباء رغال، وإن كذبت فصورة من صور الإرجاف الخؤونة التي تطعن المرابطين على الثغور في ظهورهم، وهي على كل حال شكلاً من أشكال انهيار بقايا الشرعية التي لم يزل يدعي نظام محمود عباس في المقاطعة أنه يتمتع بها.

قبل نحو عشرة أيام من موعد الاستحقاق الرئاسي للسلطة الفلسطينية والتي لم يزل الرئيس الفلسطيني يماطل في الوفاء بتسليم كرسيه لمن يخلفه عبر الصناديق الشفافة وفقاً للدستور الفلسطيني، أتت هذه الجريمة فلم تستدع لحد الآن طلباً يقدمه نظام الرئيس الفلسطيني محمود عباس لقمة عربية بعد أن قدمت دول أخرى هذا المقترح بدلاً منه، وهو المؤمن بدبلوماسية المفاوضات ومبادرات العرب وخيارهم الاستراتيجي.

وانقضى العام ولم يوفِ الرئيس الأمريكي الذي علا عراقي رأسه بحذاء، واستقبله عباس بالأحضان، بما وعد به ـ كعادته ـ من تحقيق "حلم الدولة الفلسطينية" التي لم يصدقها إلا أتباعه في المقاطعة؛ ليضع عباس في مأزق "شرعي" آخر.

إن "الشرعية الدستورية" يوشك نظام الرئيس الفلسطيني أن ينتهكها، بعد أن تحايل عليها بالتعيين كرئيس لفلسطين، و"الشرعية القومية" تم اختراقها أيضاً عندما طالبت معظم الدول العربية بعقد قمة عربية عاجلة للنظر في شأن المجزرة، ولو ذرا للرماد في العيون، فيما أحجم الرئيس/صاحب القضية نفسها عن الدعوة إليها لوقف مجزرة تخص مواطنيه!! مع أن هؤلاء القادة هم من سمحوا لعباس أن يدير ظهره للديمقراطية ولـ"الشرعية الدستورية" ـ كما يفعلون ـ عبر تقديم وعد جديد (شبيه ببلفور) بتمديد الرئاسة دون الرجوع للشعب الفلسطيني، وهو الوعد المقدم ممن لا يملك لمن لا يستحق.

و"الشرعية الوطنية" أهينت كذلك عندما بلع قائد المقاطعة التصريحات الناسفة لـ"حلم الدولة الفلسطينية" والتي تحيله إلى كابوس حقيقي حينما تستحيل مناطق السلطة الفلسطينية خزاناً للاجئين القادمين ليس من الخارج مثلما يرفض العقلاء، بل من قلب فلسطين/(مناطق 48)، وهي التصريحات التي أطلقتها مجرمة الحرب/تسيبي ليفني قبل عشرة أيام فقط، وتكرر بها أخرى بالمعنى ذاته قالتها من قبل، وتتلخص في أنه "من أجل وجود دولة يهودية وديمقراطية ينبغي إقامة دولتين قوميتين مع تنازل معين ومع خطوط حمراء واضحة، وعندما يحصل هذا، يمكنني أن آتي إلى مواطني إسرائيل الفلسطينيين، ممن نسميهم اليوم عرب إسرائيل، وأقول لهم إن حلمكم القومي يوجد في مكان آخر"، وهو ما يعني تلقائياً أن ليفني التي تضع أيديها بأيدي ثقلاء البروتوكولات العرب تعلن بوضوح أن الدولة الفلسطينية التي سيهرول إليها أصحاب الخيار الاستراتيجي هي منفى جديد للفلسطينيين!! أو بمعنى أوضح منطقة لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين كحل جذري لمعضلة الديموجرافيا وانسحاق التعداد اليهودي بعد أقل من عشرين عاماً إلى ما دون نصف سكان "إسرائيل" (أي مناطق الـ48).

إن حاكم الضفة اليوم أمام أزمة "شرعية جماهيرية" حقيقية لابد وأنه عاينها بنفسه عندما اختفى في لحظة الوغى، ومن قبل عندما باع للضفة السراب، فلا الاختراقات انتهت، ولا المقاومة اشتعلت، ولا الوحدة أعاد.. إنه حاكم الانقسام والاستسلام بجدارة، وهو الرائد إلى الخذلان، والذي يثير في نفوس أهل الضفة كما غزة، الشعور بالمرارة والخجل من تسلط نظامه على الضفة حائلاً بينها ونجدة غزة.

لقد آن للضفة أن تنفض عنها هذا الخبال، وتدير ظهرها لآباء رغال فاقدي النخوة والكرامة والشرعية، وترفض الخضوع لأذيال الاحتلال وأتباعه، وآن لتجار القضية أن يعودوا إلى حوانيتهم وقصور نضالهم المخملية، ويجددوا أمجاد كفاحهم في فنادق أوروبا وملاهيها، ويتركوا أهل الرباط يحفرون للأمة مجدها من بين أطلال غزة.

هذا المجد الذي يتلألأ في سماء غزة مع كل لظى يضيء سماءها، لأنه يبرهن بجلاء على أن حدود القوة الصهيونية ـ رغم كل هؤلاء الشهداء والجرحى والدمار ورغم كل التقنية المتقدمة المستخدمة في العدوان ـ متدنية، ولا سقف لطموحاتها غير المجازر المرتكبة ضد المدنيين، وهي التي لا ترقى لتحقيق أي هدف سياسي مأمول.

لقد كشفت حرب 67 عن انكشاف القوة المصرية حينها، لكنها أثبتت أن قدرة الصهاينة مهما علت هي دون احتلال مصر كلها، والآن يتجلى المشهد عند حدود سمعها المسلمون قبل 14 قرناً واضحة جلية: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر" فمضت حقيقة وسنة إلهية لا يطرأ عليها تبديل؛ فطائرات الذل المستترة دون جدر السحاب والمسافة الشاهقة، والآليات المحصنة، كلتاهما أكبر برهان على جبن الصهاينة ومحدودية تحركهم..

دعونا لا ننظر إلى اللحظة، بل نعود إلى سنوات قريبة خلت.. ونقيس اليوم بميزان الربح والخسارة.. إن كثيراً من المكاسب قد حققتها المقاومة على الأرض إذ أجبرت الصهاينة على الانسحاب وترك الأرض للمقاومين، وخلاف ذلك، يبقى انتصارنا هو انتصار الإرادة والإيمان ولو طاشت موازين السياسة.. إن أصبع الشهيد وهي ترتفع للسماء في لحظة الاحتضار تدوي بكلمة التوحيد هي أعظم انتصار يمكن أن يحققه إنسان على وجه الأرض.. "إني آمنت بربكم فاسمعون. قيل ادخل الجنة. قال يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين".