سلفيو لبنان نحو انفتاحهم والانفتاح عليهم
17 شوال 1429
د.محمد السيد







طالعتنا وسائل الإعلام مؤخراً بوثيقة التفاهم الموقعة بين بعض الجمعيات السلفية في لبنان و"حزب الله" ، وقد ضجت وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها بها ، مابين مادح وقادح ، الأمر الذي حدا بهذا الاتفاق  أن يصمد لمدة أربع وعشرين ساعة فقط ، ثم يجمد حتى إشعار آخر .

الجهات السياسية في لبنان – كعادتها- انقسمت إلى فريقين ، فعلى الصعيد السني رُفِع الغطاء عن هذا التفاهم بدءاً بذوي القربى المتمثلين في التيارات السلفية الأخرى على امتداد المناطق اللبنانية ، وعلى رأسهم داعي الإسلام الشهال ، الذي يسمي نفسه : مؤسس التيار السلفي في لبنان ، حيث عقد مؤتمراً صحفياً تزامن مع توقيع وثيقة التفاهم ، منتقداً بضراوة الزمان والموضوع ، كما أسهم عشية اليوم الثاني مع قطب الوثيقة السلفي الآخر حسن الشهال بالإعلان عن تجميد هذه الوثيقة حتى تدرس من أهل العلم .

كما رفع الغطاء عنها " تيار المستقبل " ، وهو الجناح السياسي السني الكبير ، نافياً مباركته لها وتغطيته لبنودها ، فيما التزمت المؤسسة الدينية الرسمية المتمثلة في دار الفتوى صمتاً غريباً غير مفسر ! .

من جانبها ؛ لم تعلق الجماعة الإسلامية – وهي جناح الإخوان المسلمين في لبنان – على هذه الوثيقة في يومها الأول !، ثم قام ممثلوها بانتقادها انتقاداً حادً بعد تجميدها ، بحجة أن من يرد التفاهم مع أهل السنة عليه أن يأتي إليهم من الباب الواسع باب دار الفتوى ! .

وعلى صعيد القوى السياسية الموالية ل"حزب الله" ، كان أبرز المرحبين بهذه الوثيقة زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون ، مبدياً فرحته بأي تفاهم في لبنان " حتى لو كان بين الملائكة والشياطين " على حد قوله ! .

إضافة إلى ذلك رحب بعض المشايخ والجماعات السنية الموالية ل " حزب الله " ( عبدالناصر جبري ، هاشم منقاره ، ..) بالوثيقة ، وعدوا هذا التفاهم يصب في صميم المصلحة العامة لأهل السنة ، وأن مناوئيه قاموا بتسييسه وصولاً إلى مآرب لديهم !.

من جانب آخر ؛ وبعد تجميد الوثيقة بأيام فوجيء المتابعون للشأن السياسي بتصريح للرئيس السوري بشار الأسد عشية زيارة الرئيس الفرنسي نيطولا ساركوزي إلى دمشق – استدرج ردوداً عنيفة في لبنان - يحذّر فيه من الجماعات السلفية الموجودة في طرابلس ، ويطلب من الرئيس اللبناني ميشال سليمان أن يبادر إلى إرسال الجيش اللبناني إلى طرابلس ، خشية من انفجارات أمنية سببها السلفيون .

وعشية انفجار الحافلة الذي هز طرابلس ، وأودى بحياة تسعة عشر شخصاً ، أكثر من نصفهم عسكريون من الجيش اللبناني ؛ أعلن زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون أنهم كانوا يخوفوننا من الإرهاب القادم من الجنوب ، فهاهو ذا يأتينا من الشمال ! في إشارة إلى جهات محددة في الشمال .

وقبل عام من الآن ؛ أعلن جبران باسيل وهو أحد قياديي التيار الوطني الحر ، وصهر العماد ميشيل عون أن الجمعيات الأصولية في الشمال تفرخ الإرهاب ، وأنها تعمل تحت ستار الإغاثة والمساعدة بإيواء ومساعدة الإرهابيين ، وكان هذا التصريح إبان احتدام الأزمة بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام في نهر البارد صيف عام 2007 م .

واليوم تطالعنا وسائل الإعلام أيضاً بتصريحات أيمن الظواهري والتي تشير بوضوح إلى أن القاعدة تعيد تنظيم خطوطها في لبنان عموماً والمخيمات الفلسطينية خصوصاً لأجل ضرب "الصليبيين واليهود" .

إن هذه المعطيات التي جمعتها من خلال هذه الصورة البانورامية للواقع في لبنان تؤكد أن السلفيين موضوعون تحت المجهر ، وأصبحوا حديث الساعة ، من قبل وسائل الإعلام المختلفة أو السياسيين ، وقبل ذلك الأمنيين ، وهذا يعني أن عليهم مراجعة حساباتهم بدقة ، ودراسة وتفهم المرحلة التي يمرون بها  ، والمكان الذي يعيشون فيه  ، والذي يضم ثماني عشرة طائفة معترفٍ بها رسمياً .

إن قفز بعض التيارات السلفية على الحواجز ، وتجاوزها للتيارات السلفية والقوى السنية الأخرى كدار الفتوى والجماعة الإسلامية لتوقع تفاهماً مع " حزب الله " ؛  أمرٌ غريب ، فإذا كانت لدى هذه التيارات السلفية رغبة في الائتلاف والوئام ، فمن الجميل صرفها داخل الصف الإسلامي السني أولاً ، حيث نجد الفرقة والاختلاف والشرذمة داخله ، بل داخل الصف السلفي ، بحجة اختلاف المناهج والمدارس ، فإذا كان السلفيون الذين وقعوا الوثيقة أصبح لديهم بعد نظر ليتجاوزوا كل هذه الخلافات وصولاً إلى التفاهم مع " حزب الله " ؛ فلئن يتفقوا داخل الصف من باب الأولى ، فالأقربون أولى بالمعروف ، ثم لا مانع أن ينفتحوا على الآخرين وفق ضوابط معينة .

السلفيون مدعوون الآن وقبل فوات الأوان إلى أن يسعوا إلى أن يكونوا فاعلين ، لا أن يصبحوا أسرى رد الفعل – المبالغ فيه أحياناً – وهذا يتطلب منهم أن يضعوا استراتيجيات فاعلة ، تستشرف المستقبل من خلال دراسات حقيقية للواقع والتاريخ في لبنان ، تحدد لهم المسار الذي يجب أن يسيروا فيه بشكل يحفظهم وينمي دعوتهم ، ويبعدهم عن رياح التيارات المحيطة بهم ، وأمواج البحر العالية والعاتية التي يعيشون بقربها ، ويغسلون أقدامهم على شواطئها .

إن قراءة تاريخ المنطقة عموماً ولبنان بشكلٍ خاص ، القديم والمعاصر ؛ كفيلٌ برسم رؤية واضحة ، وإعطاء تصور عن الواقع الذي كان في هذه المنطقة ، والتحولات الجغرافية والديموجرافية والسياسية فيها ، وهو أمرٌ شديد الحساسية ، لكنه في الوقت نفسه يتعلق بالسنن التي لا تتخلف ، كما يتعلق بفهم سرّ هذه التحولات ليتم التعامل معها بشكلٍ صحيح وسليم .

وإذا تحدثنا عن رسم الاستراتيجيات ؛ فإن ذلك يقودنا إلى الحديث عن الإدارة الاحترافية للعمل ، بعيداً عن التخبط والعشوائية التي تشوبه الآن .

إن وجود عالم أو داعية على قدر من العلم ؛ لا يعني أنه يجيد الإدارة بشكل جيد ، بل لا بدّ له من الاستعانة بكوادر إدارية مؤهلة تدير له العمل ، فإن لم يجدها ؛ فليعمل على صنعها خلال الفترة المقبلة ليتهيأ له - بإذن الله - إدارة ينافس من خلالها الآخرين على اختلاف مستوياتهم ، وتمكّنه من التعامل بشكلٍ جيد مع مؤسسات المجتمع المدني على اختلافها.

إن هذه الإدارة سوف يكون من أولى مهماتها إدارة تغيير الصورة الذهنية التي وقرت في قلوب ونفوس كثيرٍ من الناس حول العمل السلفي في لبنان أياً كان موقعهم ،  وهي التي سوف تؤدي إلى الانفتاح على المحيط بشكل أكثر احترافية وموضوعية .

وإن أولى وأهم الواجبات في الانفتاح ؛ الانعتاق من ربقة التجمعات ( الميكرونية) - لشدة صغرها - إلى تجمعات أكبر تذيب الفوارق الهامشية التي يتترّس بها هذا التجمع أو ذاك ، إضافة إلى الانعتاق من ربقة الألقاب التي ربما استعبدت البعض ، حتى أصبح غير قادرٍ على الانفلات منها ، لكونها تؤسس له مكانة عند الآخرين ، لكنها في المقابل ربما تبعده عنهم أيضاً .

  إن مشروعاتكم الدعوية – أيها السلفيون – ليست ملكاً لكم ، ولم تسم بأسماء آبائكم ، وإن الناس ينظرون إليكم بعين من الحب أحياناً وعينٍ من الريبة والتوجس أحياناً أخرى ، فلتنفذوا هذه المشروعات بدقة تغلّب العين الأولى لا العين الثانية .

من جانبٍ آخر ؛ مطلوب من المؤسسات الرسمية الدينية كدار الفتوى والمؤسسات المدنية الأخرى الانفتاح على مثل هذه التيارات ، وعدم معاداتها بحجة اتهامها بالوهابية القادمة من وراء البحار ، والتعامل معها كغيرها من التيارات التي تعمل في لبنان تحت جناح دار الفتوى ، فليس من العدل أن يحارب السلفيون ثم يقال بعد ذلك إنهم تفردوا باتخاذ قرار من القرار ولم يرجعوا إلى المؤسسة الأم ، وليس من العدل أن يظل السلفيون قابعين بمساجدهم ولا تشرّع لهم دار الفتوى عملهم ، ولا تعترف بهم .

وإذا كان جناح تيار المستقبل قد اتسع ليضم عدداً من القوى غير السنية وغير المسلمة ؛ فلأن يتسع ليضم التيارات السلفية بالانفتاح عليهم وتفهم هواجسهم ومشكلاتهم والدفاع عنهم من باب الأولى ، حتى يعملوا في الهواء الطلق بعيداً عن الاختفاء في الظل .

 

إن من ينصب نفسه ليكون زعيماً ؛ فلابدّ أن يحقق أهم شروط الزعامة ؛ وهي الحلم والأناة ، وهاتان الصفتان هما اللتان يسهلان إمكان استيعاب الآخرين .

إن هذا كلّه يجب أن يقود المؤسسات الرسمية للبلد ، والمؤسسات العسكرية والأمنية بخاصة إلى أن تغلّب جانب الحكمة في التعامل على جانب البطش والتنكيل والاعتقالات التعسفية ، وأن تسعى إلى تنفيس الاحتقانات الموجودة داخل الصف السني والتي عبّر عنها بعددٍ من الاعتصامات ، حتى تفوّت الفرصة على المتربصين بالبلد على اختلاف فئاتهم ، فإن الحلّ الأمني أثبت عدم جدواه في أماكن متفرقة .