شهيد الحجاب
19 جمادى الثانية 1439
أمير سعيد

ينعتونه في تلك الأرض الغالية الحبيبة بشهيد الحجاب؛ فقد رحل عزيز النفس، مرفوع الهام، شامخ الروح، بعد اعتقال دون محاكمة في واحدة من أشرف القضايا وأجلها، فقد ارتقى الحاج موسى محمد نور رئيس مدرسة الضياء الإسلامية في مهجر الصحابة الأول، إريتريا المسلمة العربية، إلى ربه في محبسه الذي وضعه به نظام أسياس أفورقي بسبب تمسكه بقيم الإسلام، ورفضه لأوامر النظام بعدم تدريس التربية الإسلامية، وأوامره بنزع الحجاب عن رؤوس الطالبات وإصراره على منع الاختلاط في مدرسته التي أرادها النظام الشمولي نسخة من نسخه التعليمية التي يفرضها على المسلمين بغية إبعادهم عن دينهم وأحكامه ومنهاجه التربوي.

 
لم يتحمل جسد الشيخ المسن التسعيني ظروف الاعتقال الخشنة التي مرد نظام طائفي جائر على فرضها في سجونه الرهيبة، والتي تحوي عشرات الآلاف من المسلمين المضطهدين دينياً؛ فوهنت صحته، ووافته منيته في ظروف صعبة هي أقرب إلى التصفية منها إلى الموت الطبيعي، بعد خمسة شهور فقط من اعتقاله.

 

برغم ما خلفه اعتقاله من غصة في حلوق المسلمين الإريتريين وجميع من سمعوا بقصته من أصحاب الضمائر الحية، إلا أن أثراً قد حفر في ذاكرة الإريتريين لن يمحى بسهولة، لاسيما بعد أن دفع الرجل حياته ثمناً لموقفه البطولي الذي تحدى فيه سلطة لا ترحم، عمدت إلى تغريب المسلمين، والحط من قيمهم، وبذلت جهوداً حثيثة من أجل ألا تحتفظ فتيات الإسلام بسمتهن الإسلامي، وأن يصادر حقهن في ارتداء الحجاب، فريضة ربهن.

 

تدريس التربية الإسلامية والقرآن الكريم، والتزام الفتيات في المدارس بالحجاب، كان الثمن الذي دفع الشيخ موسى حياته ثمناً له، وأنعم به من ثمن، استرخص الرجل - على شيخوخته - التعذيب الوحشي في سجون النظام الأقلوي (المسيحي) الذي جسم على صدر المسلمين لعقود طويلة، استعذب خلالها، ومنذ بواكير الشباب، الشيخ موسى ألوان الابتلاء المتنوعة، التي لم تبدأ مع نظام أفورقي فحسب، بل من قبله، إبان الاحتلال الإثيوبي لإريتريا، والتي انخرط خلالها الشيخ الشهيد في الرابطة الإسلامية ثم حركة تحرير إريتريا ثم جبهة التحرير، واعتقل في الاحتلالين 1963 من قبل إثيوبيا، و2017 من قبل الاحتلال الطائفي الأقلوي لإرتريا، إلى أن ارتقى صابراً رافضاً الإفراج عنه دون من معه ممن انتفضوا، واعتقلوا، في أكتوبر الماضي رفضاً لتأميم وتدجين مدرسة الضياء الإسلامية التي رأس الشيخ مجلس آبائها.

 

كان قوياً، وكانوا مرتعبين
إن القوة الحقيقية يمكن أن يحوزها رجل وهن العظم منه، واشتعل رأسه شيباً، وجاوز عقده التاسع من عمره. والضعف قد يعتري سلطة مدججة بمختلف أنواع الأسلحة؛ فحيث يكون الحق، ويستمسك به، وتبذل الأرواح في سبيله؛ فإن عبارة الشيخ موسى الخالدة "نحن مُستعدون لتحمل المسؤولية ونحن على أتم الاستعداد للاعتقال أو الموت في سبيل ديننا" بوسعها أن تخلع قلوب الظالمين، وتكسر إرادتهم.

 

حين تصدق الكلمة وتتمحض المواقف؛ فإن جثمان بطل يمكنه أن يرعب قاتليه؛ فيتستروا عليه حيناً، ثم يدفعونه لمستشفى عسكري حصين خوفاً من أن يضبطوا متلبسين كقتلة مجرمين، وإن جنازة تمر عبر شوارع أسمرة يمكنها أن تستدعي عسساً لتتبعها، وجنداً لحصارها من دون جدوى.

 

حين تكون؛ فإن التسعيني يصبح يافعاً في حيويته، والميت يمسي حياً في عقبه ومحبيه، والفقير يغدو غنياً في تركته وأثره.. إنه الحق حين يحشد آلاف الشباب في جنازة لم ترَ أسمرة منذ مدة طويلة لها مثيلاً (على عكس جنائز المسنين عادة)؛ فيتدافعون غير مبالين بحصار قد فرض، أو توقيف قد حصل بالفعل بتهمة السير في جنائز الأبطال!

 

إن في ذلك لعبرة، تومئ إلى حياة لم تزل في جسد هذه الأمة، ومواقف تصنع الرجال وتربي الأجيال، وإنها لحجة على المتهاونين في حق دينهم وقيمهم وهويتهم. وإنه لموقف لابد أن يستثمر في القرن الإفريقي برمته للبناء عليه في تأكيد اعتزاز مسلميه بدينهم وفرائضه ومثله العليا.