السودان ...نموذج للشرق الأوسط الأمريكي
1 ربيع الثاني 1424

في 15 أغسطس عام 1955 وبينما السودان يجهز نفسه ويستعد لإعلان الاستقلال عن الحكم الإنجليزي الذي تم بعد خمسة شهور من هذا التاريخ، صدرت الأوامر لفرقة عسكرية جنوبية بالتوجه شمالاً للاشتراك في احتفالات الاستقلال وكانت هذه الفرقة تضم 1700 جندي وضابط تعسكر في مدينة توريت، وكان عليها أن تسافر إلى جوبا ثم تواصل مسيرتها إلى الخرطوم، وترددت القوة في تنفيذ الأوامر وعندما طلبت تزويدها بالذخيرة رفض طلبها فازدادت المخاوف وانطلقت إشاعة بأن ضابطاً شمالياً أطلق النار على جندي جنوبي فقتله، وكانت الشرارة، فهاجم الجنوبيين مساكن الشماليين وقتلوا من فيها ووقعت مذبحة بشعة لتبدأ ما يطلق عليه اسم "عمليات تمرد" الجنوب على الشمال في السودان. وبذلك ظهرت قضية من أخطر القضايا التي تواجه عالمنا الإسلامي، وأصبحت خنجراً في ظهر المسلمين ضمن عشرات الخناجر التي يعاني منها الجسد الإسلامي وتستنزف قواه وإمكانياته وتفاعلت الأزمة لتؤثر فيها معطيات كثيرة داخلية وخارجية وتتداخل فيها قوى تستثمرها لتحقيق مخططاتها وأهدافها الاستراتيجية وتعددت أطراف الحرب وتناقضت وتشابكت مواقفها. </br> </br><center><font color="#0000FF" size="4">التركيبة الجغرافية والعرقية واللغوية والدينية للسودان </font></center></br> >* * عرفت بلاد السودان قديما باسم كوش، والذي يقال أنه أحد أحفاد نوح من ابنه حام، وأطلق العرب اسم السودان على الجهات الأفريقية التي تقع جنوب مصر. <BR>* جاء الإسلام إلى السودان عن طريقين :<BR>1- من مصر: حيث بدأ منذ الفتح الإسلامي في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن الهجرة الإسلامية ازدادت أيام المماليك .<BR>2- من الحبشة: حينما هاجر المسلمون من الجزيرة العربية إلى الحبشة إما بسبب الحروب أورغبة في تأمين تجارتهم المارة في البحر الأحمر أورغبة في نشر الإسلام <BR>*يرجع السودان بحدوده الحالية إلى اتفاقية 1899 أوما يعرف باتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا مساحته حوالي 2.5 مليون كيلومتر مربع أي أكبر دولة في أفريقيا مساحة ويليها الجزائر وهذه المساحة تبلغ نحومرتين ونصف مساحة مصر وما يقرب من مساحة أوروبا الغربية. <BR><BR> له ساحل قصير نسبيا على البحر الأحمر طوله 725 كم وهذه المساحة الشاسعة للسودان تجعله مطمعا للدول التي تريد أن ترسم خريطة جديدة للمنطقة وتسعى فيها لتفتيته، وكذلك كان تعدد مصادر المياه في هذه المساحة الشاسعة مما أتاح لأهله سكن مناطق متفرقة بصورة هائلة، ففي حين نجد شعب مصر مثلاً (وهم أكثر من ضعف سكان السودان) يعيشون في حوالي خمسة آلاف قرية، نجد السودانيين يعيشون في أكثر من ستين ألف قرية، مما زاد من ضعف السلطة المركزية وتحكمها على مجمل مساحتها، وهذا الضعف أوجد صعوبة لأي حكومة في حسم أي تمرد مسلح يقع في أراضيها وخاصة المنطقة الجنوبية التي تتركز فيها الغابات والمستنقعات.<BR> <BR>ينقسم السودان عموماً إلى (26) ولاية، كما استقر عليه الحال بعد عام 1992م. ومنها ولاية الخرطوم وعاصمتها الخرطوم، والشمالية وعاصمتها دنقلا، وكسلا وعاصمتها كسلا، وكردفان وعاصمتها كادوقلي، وغرب كردفان وعاصمتها الفوله، وولاية نهر النيل وعاصمتها الامر، وولاية جنوب دافور وعاصمتها نيالا، وولاية شمال دافور وعاصمتها الفاشر، والبحر الأحمر وعاصمتها بورتسودان، والقضارف وعاصمتها القضارف...<BR><BR>وتبلغ مساحة الجنوب حوالي 650.000 كيلومتر أي حوالي ربع مساحة السودان.<BR>وفي سنة 1997 كان عدد سكان السودان حوالي 30.3 مليون نسمة بينما كان عدد سكان الجنوب حوالي 7.2 مليون نسمة أي ربع سكان السودان تقريباً. <BR>ووفق إحصاء عام 1992 فإن عدد المسلمين يشكل 83% من مجموع السكان بينما الوثنيون 14% والنصارى 3%. <BR>أما في الجنوب فتبلغ نسبة الوثنيين 60% والنصارى 17% والمسلمين 23% أي نسبة المسلمين أكبر من المسيحيين حتى في الجنوب ولعل المرء يندهش ويتعجب من مطالبة الدول المجاورة للسودان والدول الأوربية بدول للمسيحيين في الجنوب ونسبتهم أقل الأديان. وتزداد الدهشة والعجب حينما نعلم أن نسبة البروتستانت في الجنوب من عدد المسيحيين 20% والباقي كاثوليك بينما نجد أن الذي يطالب بهذه الدولة المسيحية المزعومة هو مجلس الكنائس العالمي الذي تسيطر علية الكنيسة البروتستانتية. <BR> </br> </br><center><font color="#0000FF" size="4">تطور حركة التمرد </font></center></br>مرت الحركة بمراحل : </br><font color="#0000FF"> المرحلة الأولى : </font> </br> بعد تفجر الوضع في عام 1955 بدأ ما يشبه النزوح العام من قبل الجنوبيين إلى أوغندة والكونغو بفعل سياسة الحل العسكري وشملت موجة النزوح هذه قيادات ومثقفين ونواب سابقين وشكّل الفارون عام 1960 أولى منظمات المعارضة الجنوبية لنظام الحكم العسكري في السودان حينذاك تحت اسم ( رابطة مسيحي السودان ). ثم تطورت الحركة إلى أن صارت حزب الاتحاد الوطني لمناطق السودان الأفريقية المغلقة الذي عرف باسم ( ساكندو) تحت دعم وحماية مجلس الكنائس العالمي مما أدى إلى أن تقوم الحكومة السودانية في 27 / 2 / 1962 بطرد كافة الإرساليات والقساوسة الأجانب، ثم قام الحزب بتعديل اسمه إلى حزب الاتحاد السوداني الأفريقي ( سانو) ، وفي عام 1963 كان جوزيف أودهو رئيسا للحزب ووليم ونج سكرتيرا له وماركوم نائبا للرئيس ونجح الحزب في نقل مطالبه حول مشكلة الجنوب إلى هيئة الأمم المتحدة وطالب فيها باستقلال جنوب السودان. </br> </br>وحدث بعد ذلك انشقاق وتكونت جبهة تحرير ( أنيانيا ) وتعني في إحدى اللغات المحلية الجنوبية "سم الثعبان" وقد بدأت عملها العسكري بشن عدد من الهجمات على مراكز الجيش بالقرب من الحدود الأثيوبية وتوالت الانشقاقات داخل سانو منذ عام 1965 فانفصل عنها أحد أقطابها وهووليم ونج وعاد سرا إلى السودان من الخارج ليباشر نشاطه كمنافس لسانو، وتوالت الإنشقاقات وتكونت جبهة فاشودا وجبهة التحرير الأفريقية والمحاربون السودانيون الأفريقيون من أجل الحرية . </br> </br>وفي الفترة من فبراير إلى نوفمبر 1969 نجح أحد ضباط الجيش السوداني من الجنوبيين وهوجوزيف لاجوفي في توحيد الفصائل الجنوبية المعارضة، وأطلق على قواته اسم منظمة الأنيانيا الوطنية وبدأت تنهال عليه المساعدات العسكرية والمالية من إسرائيل وأوروبا كما التحق بقواته عدد من المرتزقة الأوربيين الذين كانوا قد غادروا الكونغو، وظل الوضع ملتهبا في الجنوب حتى تمكن جعفر نميري الذي كان حاكما للسودان في عام 1972 من إبرام اتفاق حكم ذاتي للجنوب، وعين ابيل الير نائبا لرئيس الجمهورية ورئيسا للمجلس التنفيذي العالي الانتقالي. وفي عام 1978 رشح نفسه للرئاسة كمرشح مع جوزيف لاجو لذي كان في السابق قائدا لقوات الأنيانيا، وانتخب لاجو رئيسا للمجلس التنفيذي العالي في نوفمبر 1978. ولكن لم تكد تمضي سنتان حتى عزل وحلت الجمعية الإقليمية بسبب خلاف بينه وبين النواب، وكان من بين الأسباب مظاهرات المثقفين في المدن في أغسطس 1978 احتجاجا على قرار الحكومة المركزية وشركة شيفرون تصدير النفط عبر ميناء بور تسودان ومناداتهم بتصديره عبر ميناء ممباسا الكيني وعدم تصدي حكومة لاجو لها الأمر الذي اعتبر تأييدا مستترا. </br> </br>وفي منتصف عام 1980 انتخب ابيل الير مرة أخرى رئيسا للمجلس التنفيذي العالي، واتهم على الفور بممالأة قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها في التشكيل الحكومي، واعتبر ذلك إشارة إلى عزمها على السيطرة أدى ذلك إلى أن يقول جوزيف لاجو علنا أن الشيء الوحيد الذي يجمع بين الجنوبيين هو اللون الأفريقي، أي السواد، وأن الوقت قد حان للحد من نفوذ الدينكا، نجم عن ذلك أن أعلن نميري في فبراير 1980 فكرة تقسيم الجنوب إلى ثلاث مقاطعات وهي أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال، ولقد لاقت هذه الفكرة استحسان القبائل الجنوبية من غير الدينكا مثل النوير والشلك، ولكنها كما هو المتوقع عارضها أهل الدينكا الذين يطمعون في السيطرة على الجنوب على الأقل. </br><font color="#0000FF"> المرحلة الثانية: </font> </br>في عام 1975 حدث تمرد في الجيش السوداني وتم تأسيس ( أنيانيا 2 ) في بحر الغزال وأعالي النيل وكانت حركة التمرد في هذه المرحلة ضعيفة ولم تحظ بتأييد دولي ولذلك سرعان ما خمدت سريعا. </br> </br><font color="#0000FF"> المرحلة الثالثة : </font> </br>في عام 1983 كانت رواتب الجند تتأخر وكان السودان يرسل بعض قواته لمساعدة العراق في حربها مع إيران، وصدرت التعليمات من قائد القيادة الجنوبية العسكرية في شندي اللواء صديق البنا بتحرك الكتيبة 105 إلى الشمال ضمن تحركات عسكرية روتينية، إلا أن الكتيبة اعتقدت أن ذلك مقدمة لإرسالهم إلى العراق فأعلنت التمرد ورفضت تنفيذ أوامر النقل، وفي نفس المرحلة كان النميري قد روج لقوانين الشريعة المسماة بقوانين (سبتمبر) بعد أن انقلب على الشيوعيين وتخلص منهم، مما حدا أيضاً بأعداء الشريعة والإسلام في السودان وخارجها أن يتحركوا ويصنعوا شخصية قرنق الذي ظهر في هذه المرحلة وانضم إلى القوات المتمردة. <BR> في نفس الوقت هرب العقيد صموئيل قاي توت قائد الأنيانيا 2 من السجن والرائد عبد الله شول وعدد من جنود تمرد عام 1975 وفروا إلى أثيوبيا، وانضموا إلى قرنق الذي أعلن أن هدفه "تحرير السودان من العرب المزيفين الذين اعتبرهم قلة ظلت تسيطر على الحكم والثروة في البلاد". "والعمل على إعادة تشكيل هوية السودان قسراً وإقصاء كل ما يربطه بانتمائه العربي".<BR>في الفترة من عام 1983 حتى قيام ثورة "الإنقاذ" كان قرنق في عنفوان قوته يتحدث بلهجة تشع منها العنجهية والغرور، فالظروف مواتية وحلمه ليس الجنوب فقط كسابقيه بل السودان كله، حتى عندما سأله مكرم محمد أحمد في عام 1988 في حديثه لمجلة المصور عن ما إذا حدث استفتاء وأجمع أغلب السودانيين على تطبيق الشريعة الإسلامية كان جوابه بالرفض، وأن لن يسمح للسودان بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه يريد سودان علماني موحد، وبالطبع يحكمه قرنق، فأوغندة غالبيتها مسلمون ويحكمها مسيحي وكذلك إريتريا وأثيوبيا وكلها دول جوار للسودان فلماذا لا يحكم قرنق النصراني السودان المسلم؟.<BR><BR>ومع قيام ثورة "الإنقاذ" وتحقيقها مكاسب عسكرية كبيرة واسترجاعها لمدن الجنوب، حوصر قرنق في مساحة ضيقة، ومع ظروف دول الجوار المحيطة التي كانت في مرحلة تغيير لأنظمة حكمها أوفي صراع داخلي، وحدوث الإنشقاقات داخل حركته بانفصال نائب مشار بمجموعة الناصر ، كل هذه العوامل أضعفت قرنق وبات أقصى حلمه هو الحكم الذاتي مرة أخرى، ولكن سرعان ما تغيرت الظروف واستقرت أنظمة الحكم الأمر من حوله في إريتريا وأوغندة وأثيوبيا واشتد الضغط الأمريكي على النظام الإسلامي في الخرطوم وتوترت العلاقة بين مصر والسودان فاصبح الطرح هو حق تقرير المصير للجنوب ثم تطور إلى الدعوة إلى الكونفدرالية أي دولتين مستقلتين بينهما نوع من الارتباط أي في النهاية الانفصال 0<BR>إن الفرق الأساسي بين قرنق والانفصاليين الأوائل تكمن في قدرة قرنق على التلون والمناورة وإظهار خلاف ما يبطن أنظر مثلا طرحه على الكونفدرالية في محادثات الإيجاد في نيروبي ثم جاء بعدها بأيام إلى القاهرة وأعلن أن كلامه السابق عن الكونفدرالية كان تكتيكا اقتضته الظروف وهو يتعامل سرا مع إسرائيل والمخابرات الأمريكية ثم ينفي ذلك ولكن الشيء الذي لا ينفيه كرهه للشريعة وولاءه لمجلس الكنائس العالمي وهذا يكفي لإثبات نواياه وأهدافه، ولكنه في النهاية دمية إن سقط عنها الدعم الداخلي سقطت وانتهت كما حدث لجوزيف لاجو من قبله .<BR>لقد ظل قرنق يقاتل مرة بالشيوعية ….وتارة بالكنائس …. وأخرى بمجلس اللوردات ….وبعدها بالبارونة كوكس …ثم بعدها بالكونجرس ….وقبلها بالمخابرات ….وأوغندة وأثيوبيا واريتريا …وفوقهم إسرائيل تمنحه كل شئ …حتى السكرتيرة ضابطة الموساد …يهودية من أصل مغربي.. وغيرهم، وبرغم ذلك كله لم يستطع أن يسقط حتى جوبا على الأقل في قلب الأدغال ووسط الأحراش من 1983 حتى الآن .<BR> </br> </br><center><font color="#0000FF" size="4">الدور المصري في الأزمة السودانية </font></center></br>يبدأ تاريخ العلاقات المصرية السودانية الحديثة مع رسل محمد علي لفتح السودان في عام 1821 مما أدى إلى اصطدام مع الدول الموجودة في السودان مثل مملكة النوبة وملوك الفونج في كردفان وملوك دارفور وقبائل البجا وبعد ذلك لعبت إنجلترا دورا كبيرا في إثارة الفتنة في العلاقة بين الشعبين وجاءت الثورة المهدية وتم قمعها بعد ذلك بالقوة من جانب الحكم الثنائي المصري الإنجليزي لتصب في خانة التوتر بين الشعبين حتى مجيء الاستقلال .<BR>وقبل الاستقلال ظهر تيار في السودان ينادي باستمرار الوحدة مع مصر وكان يتزعمه أفراد الطائفة الختمية وحزبهم الاتحادي.<BR>أما أنصار المهدية فإنهم يحملون ثأرا تاريخيا مع مصر فهي في نظرهم التي تسببت في هزيمة دولتهم وبالتالي فلابد من الاستقلال عنها.<BR>وتزامنت الدعوة مع الاستقلال مع مجيء عبد الناصر وضباطه إلى حكم مصر وما صاحب حكمه من تنكيل وبطش بالمعارضين مما دفع حتى من يحبذون الوحدة مع مصر كالاتحاديين إلى التخلي عن ذلك وانضموا إلى الأنصار في مطالبتهم بالاستقلال.<BR>شهد السودان بعد استقلاله ثلاثة عهود ديمقراطية وثلاثة عسكرية ومن الملاحظ أن العهود الديموقراطية شهدت توترا كبيرا مع مصر ، يعلق الصادق المهدي معللا ذلك قائلا " كانت أهم نقطة ضعف حالت دون إقامة علاقة سوية بين البلدين هي أن التكوين السياسي السوداني حال دون حسم السلطة انتخابيا لصالح حزب معين مما خلق تنافسا حادا بين الأحزاب السياسية السودانية وصارت العلاقة مع مصر جزء من قضايا الصراع السياسي ".<BR>أما العلاقة مع العهد العسكري الأول فقد شهدت أفضل حالات استقرارها لأن المناخ السياسي قد خلا من تنافس حزبي وخلا أيضا من طابع أيديولوجي فقامت العلاقة على أسس المنفعة والمصلحة <BR>وفي العهد العسكري الثاني أيام نميري حاول توظيف الشرعية المفقودة التي يفتقرها حكمه بالارتماء في أحضان الحكم المصري، فهو قومي مع عبد الناصر ثم مات عبد الناصر وجاء السادات الموالي للغرب فهو إذاً غربي، وباتت السودان وعمان الدولتان اللتان أيدتا كامب ديفيد ولذلك عند سقوط نميري ومجيء الانتفاضة ضد حكمه كانت هناك كرها شعبيا وأجواء مسمومة للعلاقة مع مصر.<BR> <BR>وجاء حكم الإنقاذ في مايو1989 واختلفت الأسس الفكرية للنظامين فالنظام المصري قائم على العلمانية وإبعاد الدين عن السياسة ويبذل جهودا مضنية في محاربة التيار الإسلامي بينما جاءت ثورة الإنقاذ وأفرادها يتعاطفون مع الإسلام ويتحالفون مع فصيل من فصائل التيار الإسلامي، وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام، والحقيقة أن الأهواء باتت هي التي تحكم العلاقة بين النظامين دون النظر إلى مصلحة البلدين العليا والإستراتيجية وحجم التحديات المشتركة التي تواجههما.<BR>وجرت محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا لتشعل العلاقة وتدخل منطقة حلايب مرة أخرى كورقة للإثارة وهي منطقة حدودية مختلف عليها بين البلدين ، وظل الوضع فيها كذلك حتى إذا تجدد النزاع بين الحكومتين تطل هذه القصة برأسها من جديد، والأصل أنها كانت لا توجد حدود طبيعية بين الدولتين بل إن المنطقتين على جانبي الحدود أشبه بوحدة واحدة نفس البشرة والعادات والتقاليد، حتى اللهجة الواحدة، لكن الاستعمار قبل أن يرحل زرع هذه البؤر المتوترة ليس بين مصر والسودان فحسب بل بين معظم الأقطار الإسلامية ، كما ساهم اتهام مصر للسودان بإيواء المتطرفين الإسلاميين واتخاذهم للسودان قاعدة لهم في ازدياد حدة التوتر كما اتهمت السودان لمصر بأنها تستقطب زعماء المعارضة السودانية ويعقدون اجتماعاتهم في القاهرة .<BR>ولكن بعد تصريح أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد كلينتون، وفي أثناء زيارتها لأوغندة، بأن الولايات المتحدة ستغير النظام السوداني سلما أو حربا، ساهم هذا التصعيد في تخفيف حدة التوتر بين الدولتين حيث رأت مصر خطورة استراتيجية على أمنها القومي من ناحية الجنوب، ووجود الفوضى في منطقة حوض النيل والبحر الأحمر، كذلك سارع السودان إلى الارتكاز على مصر للمساعدة في صد الهجمات المعارضة التي أخذت بعدا دوليا، لذلك تمت زيارة الفريق الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية السودانية في ذلك الوقت إلى القاهرة وأتبعها زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى السودان مع فريق عمل، وبحث الموضوعات المعلقة، ومن بينها مسألة إيواء العناصر المسلحة، كما بحث إمكانية تزويد السودان بمحطات للرصد ووسائل دفاعية في الجنوب، وقد أثمرت هذه المعونات في إحباط محاولة قرنق احتلال مدينة "واو" حين تمكن قرنق في استقطاب أحد زعماء المعارضة المنشقة عليه في السابق (كاربينو) ولكن الجيش السوداني تمكن من رصد الاتصالات التي جرت بين أطراف التمرد وإفشالها بدعم مصري .<BR><BR>وبهذا بدا الدور المصري كعامل حاسم في إحباط المخططات على الجنوب، ولكن هذا التقارب بين النظامين بدا بطيئا جدا، والواقع أن النظام المصري ينظر إلى السودان بمنظارين :<BR>الأول هو أنه نظام إسلامي متطرف ومجرد وجوده يدعم من مكانة الجماعات المتطرفة التي كان يخوض معها النظام المصري حربا لا هوادة فيها حتى وقت قريب.<BR> أما النظرة الثانية فهي مصالح مصر الإستراتيجية في السودان والتي تهددها الحرب الأهلية وعدم استقرار النظام في الخرطوم .<BR>هذه المعضلة تحدث عنها الرئيس مبارك في لقائه بالمفكرين أثناء معرض الكتاب في القاهرة في يناير 1997 حيث قال بالحرف الواحد " أنا أمام معادلة صعبة ( مش عارف ) أتصرف فيها( إزاي ) "<BR>ويبدو أن القاهرة توصلت أخيرا لحل هذه المعضلة بالضغط على النظام السوداني لتغيير ولائه للإسلام عن طريق إدخال المعارضة بأي صورة داخل النظام ويأتي في هذا السياق استقبال الحكومة لقرنق لأول مرة علنا في القاهرة والملاحظ أن الحكومة المصرية تحاول ترتيب للقاء يجمع أركان المعارضة مع الحكومة السودانية للتوصل إلى اتفاق .<BR>وعلى درجة تخلي النظام في السودان عن توجهاته الإسلامية يستمر التحول التدريجي في العلاقة بين الطرفين وفي نفس الوقت تقوم الحكومة المصرية بإحباط أي محاولة لزعزعة نظام الحكم بالقوة في السودان وإحداث فوضى بالمنطقة .<BR><BR><BR><center><font color="#0000FF" size="4">الدور الإسرائيلي </font></center></br>إن استراتيجية إسرائيل في السودان لها عدة أبعاد :<BR>1- القرب من الأقليات غير العربية في الوطن العربي وإثارة النزعات العرقية والدينية لإحداث الفوضى والاضطراب داخل الدول العربية وتتلهى عن خطط إسرائيل التوسعية وهيمنتها في المنطقة ، وفي هذا الإطار كان دعم إسرائيل لحركات الانفصال في جنوب السودان في طوره الأول ( الأنانيا1 ) وتواصل الآن بإمداد قرنق بالأسلحة والتدريب .<BR>2- تأسيس وجود قوي في حوض النيل جنوب مصر وقد تواردت الأنباء عن وجود خبراء في الري في أثيوبيا يساندون خطط أثيوبيا في بناء السدود على النيل للتحكم في مياه النيل التي يعتمد عليها الشعب المصري في حياته كورقة للضغط بها على الحكومة المصرية للسماح بضخ المياه في ترعة السلام المزمع إقامتها لتوصيل المياه إلى إسرائيل في المرحلة المقبلة اللازمة لمشروعاتها التوسعية.<BR>3- تأمين الملاحة للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، حيث تعرضت الملاحة في السابق لفرض الحظر عليها من قبل البحرية المصرية أثناء حرب أكتوبر مما جعل إسرائيل تتنبه لأهمية هذه المنطقة وتكثف وجودها في إريتريا حيث أقامت هناك محطات للتصنت على المنطقة ويقوم خبراء عسكريون يهود بتدريب قوات القرن الأفريقي وتزويدها بالمعدات اللازمة من سفن وسلاح لتتمكن اسرائيل من بسط نفوذها في المنطقة متعاونة مع الولايات المتحدة في ذلك .<BR><BR><font color="#0000FF"> مساعدات اسرائيل للتمرد: </font><BR>زيارة رئيس الموساد الإسرائيلي السابق إفرايم هاليفي لجنوب السودان ، حيث عقد لقاءات مطولة في أوغندة خلال زيارته مع وفد من المتمردين في المناطق الجنوبية للسودان وجرى خلال هذه اللقاءات في مسألة علاقة اسرائيل بالمتمردين والمساعدات التي تقدمها اسرائيل في الحرب الدائرة هناك وقد شدد رئيس الموساد على ضرورة الحصول على معلومات أمنية تتعلق بنشاطات اسلاميين "متطرفين " مقيمين في الأراضي السودانية وهوما وعد به المتمردون <BR>أشارت مصادر صحفية إلى وجود قاعدة تجسسية اسرائيلية على الحدود السودانية الأريتيرية وأن أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية تقوم حاليا بتدريب بعض عناصر المعارضة السودانية على التخريب وشن حرب عصابات ضد الحكومة السودانية<BR>وأشارت المصادر إلى أن القاعدة التجسسية توجد بها العديد من المنشئات المهمة ذات الاتصال بالأقمار الصناعية حيث تحتوي على أجهزة استطلاع وتنصت بهدف مراقبة كافة اتصالات الحكومة السودانية وتحركات الجيش السوداني في الجنوب وأكدت المعلومات أن عددا من المعارضين تم تدريبهم في هذه القاعدة على صلة بالتفجيرات في خط أنابيب البترول<BR><BR><center><font color="#0000FF" size="4">الدور الأمريكي في الأزمة السودانية </font></center></br>إن كثيرين يظنون أن التوجهات الأمريكية نحو السودان حديثه ولكن منذ منتصف الخمسينات كانت أمريكا تدرك أهمية منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي فكان اعلان دالاس وزير الخارجية الأمريكي في أواخر الخمسينات " إن اعتبارات الأمن في منطقة البحر الأحمر هي التي حكمت علينا أن نضم أريتيريا إلى الحبشة " <BR>إن رؤية الإستراتيجية الأمريكية نحو السودان يتداخل معها عاملان مهمان : الأول الإستراتيجية الأمريكية تجاه أفريقيا بصفة عامة والثاني المخططات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.<BR>- بالنسبة لإهتمامات أمريكا بأفريقيا يمكن ملاحظتها من خلال التصريح الذي عبر عنه كلينتون أثناء زيارته لغانا خلال الفترة من 23مارس إلى 2أبريل عام 1998 " لقد آن الأوان لأن يضع الأمريكيون افريقيا الجديدة على قائمة خريطتهم " ومن خلال كثافة الزيارات التي قام بها مسئولون أمريكيون رفيعوالمستوى إلى أفريقيا كل هذا الإهتمام يوضح أن هناك توجها أمريكيا جديدا للقارة الأفريقية ويمكننا ملاحظة هدفين رئيسيين تسعى إليهما الإدارة الأمريكية أولهما / استغلال القارة اقتصاديا وهوما تسميه أمريكا الإدماج الإقتصادي العالمي أوالشراكة الإقتصادية وثانيهما : النظرية الأمنية الأمريكية والتي ترى أن أمن أمريكا يمتد عبر البحار مثل قضايا انتشار الأسلحة غير التقليدية والإرهاب والمخدرات والبيئة وغيرها .<BR>لذلك عملت الإدارة الأمريكية على عدة محاور لتنفيذ سياستها تلك :-<BR>تطبيق مفاهيم الشراكة الإقتصادية الأمريكية والتي تقوم على الغاء مرحلة تلقي المساعدات المالية واحلال مرحلة التبادل التجاري محلها <BR> التركيز على مناطق معينة واختيار دولة أوأكثر تمارس دور القيادة مثل جنوب أفريقيا في الجنوب ونيجريا في الغرب وأثيوبيا في الشرق مع العلم بأن هذه السياسة الأمريكية تطبق في بقع كثيرة في العالم<BR> العمل على منع الصراعات الأفريقية وانهاء حروب التطهر العرقي مما يحقق الأمن والإستقرار الذي يساعد على تمرير الأهداف الأمريكية السابقة وذلك من خلال عمليات عسكرية قد تأخذ إحدى صور ثلاث:-<BR>- ربما تشارك الولايات المتحدة إلى حد ما في عمليات الإغاثة الإنسانية والسلام في أفريقيا ونظرا للعملية الفاشلة التي قامت بها الولايات المتحدة في الصومال فربما تشرك عددا من الدول في القوة الدولية المعنية<BR>- عن طريق العمليات الخاصة وهذه لها مزايا عدة لأمريكا منها أنها لا تثير الرأي العام ولا تؤثر على نشر القوات الأمريكية في أي بقعة في العالم<BR>- عمليات الإخلاء والرد الإنتقامي والضربات الموجهة ضد أسلحة الدمار الكامل .<BR>ولكن ما هوموقع االسودان إزاء هذه الإستراتيجية ؟ مع نهاية الحرب الباردة بدأ السودان يدخل الأجندة الأمريكية :<BR>- يقع السودان في موقع قريب من منطقة القرن الأفريقي وتمثل هذه المنطقة أهمية حيوية للتحكم في الملاحة في البحر الأحمر : هذا البحر الذي تمر به نسبة كبيرة من تجارة العالم وخارجية ناقلات النفط القادمة من الخليج إلى أوربا وأمريكا والمعروف أن تدفق البترول والتحكم فيه وفي أسعاره كان دائما ورقة ضغط أمريكية على أوربا واليابان والصين تلوح بها في وجه هؤلاء الكبار الذين يريدون الخروج عن السياسة الأمريكية وأهدافها في العالم فضلاً على أن أمريكا تعد منطقة القرن الأفريقي العمق الاستراتيجي لقواتها الموجودة في الخليج. <BR>- كما يمثل البحر الأحمر عمقاً حيوياً لإسرائيل حيث يطل السودان عليه وأمن إسرائيل يعد من أولويات السياسة الأمريكية وأهدافها الإستراتيجية، والتحيز الأمريكي لليهود ليس كما يظن البعض أنه نتيجة لتغلغل اللوبي اليهودي الأمريكي وتأثيره على صانعي القرار الأمريكي فقط ولكن العامل الحاسم والأخطر هو التأثير البروتستانتي المسيحي على السياسة الأمريكية<BR>- إن السودان مدخل مهم إلى منطقة البحيرات العظمى حيث قامت أمريكا بمحاولة ترتيب الأوضاع هناك فقامت بدعم قبيلة التوتسى التي استولت على الحكم في زائير (الكونغو) وفى تقرير للبنتاجون نشر مؤخراً اعتبر أن منطقة البحيرات العظمى هي مصدر إستراتيجي مهم لا يمكن الاستغناء ولا التنازل عنه باعتبار أن هذه المنطقة تمثل حلقة الوصل الرئيسية بين الدول الإفريقية ودول الشرق الأوسط إضافة إلى أن من يتحكم في هذه المنطقة سيحدد إلى حد كبير الآثار الإستراتيجية والسياسية لمنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا وأكد التقرير أن النهج الاستقلالي الذي تسعى دول المنطقة إلى تبنيه ممثلاً في السعي إلى إنشاء السوق الإفريقية المشتركة سوف يؤثر على المصالح الأمريكية وأن السودان والحكم الإسلامي فيه سوف يحدث بلبلة في المنطقة وأن الهدف الأمريكي هو إحداث تغيير سياسي سريع في السودان وعلمنة الحكم ليرتبط مع بقية دول البحيرات العظمى في إطار تحالف قوى يضم أوغندة وأثيوبيا وإرتريا والكونغو والسودان الجديد.<BR>- التحكم في منطقة حوض النيل لإخضاع الدول عليه للسياسات الأمريكية <BR>- وقف المد الإسلامي وانتشاره في أفريقيا :- فقد صرحت أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في 5 / 1 / 98 : أن ترك هذه المنطقة (تقصد شرق أفريقيا) دون توجيه إستراتيجي أمريكي من شأنه أن يؤدى إلى نتائج في مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق الأفريقي وفى حديث لوزير الخارجية السوداني مصطفى عثمان إسماعيل نشر مؤخراً (إن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تصنع عدوا لتخيف به الآخرين وآلياتها الإعلامية والسياسية تصب في هذا الاتجاه ومن ثم فهي تدعو الأطراف الأخرى في ضوء ذلك للاعتماد عليها وأمريكا تصور السودان الآن على أنه العدو).<BR>- عمل نموذج صالح للتطبيق في الشرق الأوسط بعد احتلالها للعراق حيث تنوي أمريكا فرض ما يعرف بالديموقراطية الفيدرالية على دول المنطقة .<BR>في ضوء هذه الأهداف السابقة بدأت أمريكا في رسم السياسات التي تمكنها من الوصول إلى هذه الأهداف :<BR>- تقليل الاعتماد على دول الجوار نظراً لتشتتها وتشرذمها. <BR>- محاولة إضعاف الدور المصري في السودان وممارسة الضغوط على النظام المصري لرفع يده من القضية السودانية.<BR>- تحريك الأساطيل الأمريكية تجاه السودان واستخدام أساليب القصف الصاروخي لضرب منشآت حيوية كما حدث في ضرب مصنع الشفاء في الخرطوم.<BR>- إرسال المبعوثين إلى الجنوب كما حدث في زيارة عضوي الكونجرس إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون ثم عودتهم ومطالبتهم الإدارة الأمريكية بالتدخل. <BR>- التحرك نحوإيجاد مناطق معزولة ضد الطيران السوداني على غرار شمال وجنوب العراق تمهيداً لانفصاله. <BR>- تعيين مبعوث خاص بالسودان وذلك للتركيز على هذه القضية والدلالة على أنها بؤرة الاهتمام الأمريكي.<BR> <BR>ولكن بعد انتهاء الحرب الأمريكية على العراق أصبحت هناك عدة نظريات أمام الإدارة الأمريكية لتغيير الوضع الجيوسياسي للمنطقة :<BR>الإبقاء على الوضع الحالي للأنظمة في الخلط بين الأنظمة والكيانات، والتي سادت في حقبة النصف الأخير من القرن العشرين، بحيث كان بعض الحكام يمزجون بين حتمية استمرار النظام السياسي القائم ووحدة الكيان الوطني.<BR>تجزئة المنطقة العربية إلي كيانات عرقية وطائفية<BR>الفيدراليات الديمقراطية ومقصود به أوطان منقسمة على أسسٍ عرقية أو دينية أو مذهبية ثمّ تجميع للقطع المبعثرة في صيغٍ فيدرالية ديمقراطية وسيكون الوجود العسكري الأميركي القوي في منطقة الخليج وداخل العراق مستقبلاً بمثابة قوة ضاغطة (ومساعدة أحياناً) لضمان حقوق الأقليّات في المنطقة وللوصول إلى الصيغ الفيدرالية الديمقراطية .<BR>وتبدو كل المؤشرات السياسية ومجرى الأحداث المتعلقة بالسودان تصب في هذا الاتجاه .<BR><br>