قبل فوات الأوان.. ما يمكن تداركه من حزب أردوغان
8 ذو الحجه 1436
أمير سعيد

لا يعد إلقاء دروس على أصحاب تجربة ثرية من الحكم وانعطافاته وجباله وسهوله لمدة تزيد عن 12 عاماً واجه فيها أصحابها الكثير من العقبات والأزمات وتجاوزوها بقدرٍ عالٍ من الحكمة، أمراً لائقاً، لاسيما إن جاء من بعد مئات الأميال، لكن بعض الملاحظات جديرة بأن يدور النقاش حولها، خصوصاً إذا ما تركت أثرها الواضح على استقامة التجربة ونجاحها الممتد.

 

 

 

 

 

 

وإذ أقام حزب العدالة والتنمية التركي مؤتمره الاعتيادي الخامس في ظروف غير اعتيادية؛ فإن ما خرج من أروقته قد وشى بأن قادة الحزب عازمون على تصحيح أخطاء رأت دوائر الحزب الاستراتيجية أنهم قد وقعوا فيها، بما أدى إلى تراجع الحزب نسبياً في الانتخابات البرلمانية السابقة، واضطراره إلى دخول في معضلة الانتخابات المبكرة واحتمالاتها المقلقة.

 

 

 

 

 

 

 

في مؤتمر الحزب، بدا أن حزب العدالة والتنمية قد راجع أسباباً أدت إلى تراجع شعبيته، منها إصراره على عدم إشراك النواب المخضرمين ذوي الشعبية في انتخابات 7 يونيو الماضي بعضهم غابوا التزاماً بلائحة الحزب الداخلية، وبعضهم لأسباب أخرى، وهو إصرار تبين أنه مجانب للصواب، وأن القدرة على العطاء لا ينبغي أن تحدها لائحة داخلية يتعين وضعها على محك التقويم والدراسة، أو حسابات ظرفية لم تقد إلى تحقيق نجاح. وقد عاد الحزب للاستعانة بأسماء قديمة لامعة لخوض الانتخابات منها علي باباجان وتنر يلدز للترشح في الانتخابات المقبلة، وقد لوحظ أن الأول حين أعلن عن ترشحه، تأثرت البورصة إيجابياً بسبب الثقة في خبرته الإدارية والاقتصادية، كوزير اقتصاد ناجح جداً خلال معظم فترة حكم العدالة والتنمية، وأما الثاني فهو وزير طاقة وموارد معدنية قدير حقق الكثير من النجاحات خلال فترة وزارته. 

 

 

 

 

 

 

 

ومنها، ترفعه عن التقارب مع أحزاب وتوجهات أخرى من "الإسلاميين" الأتراك، كحزب السعادة الذي ينتمي إلى فكر رئيس الوزراء الأسبق البروفيسور نجم الدين أربكان، والذي كان لديه تطلعات حددها رئيس المجلس الأعلى أوغوزهان أصيل تورك له بقوله: "إن هدفنا ليس كسب 15 أو 20 نائبا في البرلمان، بل أن نستطيع أن نقوم بحركة سياسية فعالة في المجلس"، وهو تطلع يبدو أنه يصطدم برغبة العدالة والتنمية في توحيد الرؤية الإصلاحية "الإسلامية" داخل البرلمان في حزبه، ما حداه إلى أن يصادم هذه الرغبة عند حزب "السعادة"، ويفاوضه على حيز أقل من المقاعد يمكن أن يترشح بها أعضاء السعادة على قائمة العدالة والتنمية (حصل السعادة على 900 ألف صوت، وهي رغم كبرها لم تتح له تمثيلاً داخل البرلمان، وقد كان يحتاج لكي يشكل كتلة مستقلة أن يترشح على قائمة العدالة ويحصل على 20 مقعداً فأكثر ثم يغادرها داخل البرلمان).

 

 

 

 

 

كذا، فإن توجهات الجناح شبه "الليبرالي" داخل العدالة والتنمية، والذي فترت حماسته مع إبعاد رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول وآخرين عن التأثير داخل الحزب وفي وضع استراتيجيته وسياسته، وانعكست هذه الحماسة الفاترة على قطاع شعبي عريض وجد أن السياسة الأردوغانية آخذة في الصدام مع الغرب، في الخارج، والقوى الموالية له في الداخل على نحو ينذر بدخول البلاد في صراعات من شأنها أن تقوض المشروع النهضوي للعدالة والتنمية. وقد بدأت هذه الفجوة تتسع بين الاتجاهين منذ فترة ليست قريبة، لكنها ظهرت أكثر منذ أحداث حديقة غزني حين تجاوز الخلاف في تقدير الموقف الغرف المغلقة بين أردوغان وغول.

 

 

 

 

 

 

ومن حيث المبدأ؛ فإن العدالة والتنمية لا ينبغي له التطلع إلى عقد شراكات أو تحالفات انتخابية أو ائتلافات حكومية مع تيارات أخرى إلا حالما يستنهي جهده في رأب الصدع وتأليف القلوب وتجسير الهوات مع سائر القوى الإسلامية والمحافظة الممكنة في تركيا، ومن هؤلاء حتى بعض قواعد تيار فتح الله كولن، ممن لم يتلوثوا بالتآمر ضد الفكرة الإصلاحية ويتخندقوا مع الكتلة العلمانية وينتهوا إلى أوامر أجهزة الاستخبارات الغربية لاسيما الأمريكية. فمن بين قواعد جماعة الخدمة مخلصون في إرادة الخير لتركيا وأهلها ودينها، ولا يصح وضع الجميع في سلة واحدة فيضيع على الحزب قوة انتخابية عريضة لا يمكن تعويضها بسهولة. هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التفاصيل، فربما ثمة ما يعوق هذا ويتشاطر الطرفان - أو ينفرد أحدهما بـ -المسؤولية عن هذا، لكن حين يُرى احتمالات لتقارب مع الحركة القومية أو غيرها؛ فإن هذا الملف يتوجب ألا يجد طريقه للنقاش سريعاً، ومن ثم خلوصه إلى إجراءات، قد يكون بعضها بالفعل قد وجد طريقه للتنفيذ.

 

 

 

 

 

والحق أن مما يحمد للحزب تحت إدارة المفكر الاستراتيجي البارز أحمد داود أوغلو سرعته إلى إجراء إصلاحات فورية عقب ظهور نتائج الانتخابات، وهي ما انعكس جلياً في المؤتمر الأخير، حيث أُنجزت دراسات ونظر إليها رئيس الحزب بعين الاهتمام فبدل بعض مساعديه الذين تعرّضوا للنقد العميق، غير أنه من المبكر الحكم على مدى نجاعة وكفاية تلك الإصلاحات والمراجعات.

 

 

 

 

 

 

كذلك؛ فإن من بين أبرز أسباب تراجع حزب العدالة والتنمية في انتخابات يونيو الماضي هو تهاون حكومة الحزب في فرض الأمن وضبط الأمور في مناطق الأكراد ما أدى لوقوع الأكراد تحت ضغوط حقيقية من حزب العمال الكردستاني الإرهابي من أجل انتخاب مرشحيه (مرشحي حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي غير الرسمي له)، وهي ضغوط تتباين ما بين الإكراه وطرد مندوبي الأحزاب الأخرى وتهديد مسؤولي اللجان والتزوير الفعلي، لاسيما في القرى التي لا تخضع لسلطة حقيقية للدولة التركية، وهذا بغض النظر عن مدى قدرة حكومة داود أوغلو على تحقيقه؛ فإنه كان يتعين اتخاذ إجراءات حاسمة للتقليل من هذا إن لم يتيسر إيقافه تماماً حتى لو أدى إلى تعطيل إجراء الانتخابات في بعض الدوائر غير الآمنة إذا ما سمح القانون التركي بهذا.

 

 

 

 

 

 

الأهم في الملف التركي وفي غيره، ليس فقط تحديد مدى نجاعة حل المشكلة الكردية من عدمها، وليس في قدرة الحكومة على تحقيق التنمية والسلام في الإقليم الكردي وحده، وإنما في النظر إلى القضية من زاوية فكرية أيضاً، ودراسة الحالة الدعوية في الإقليم وغيره، إذ إنه قد كان مناسباً في بداية حكم العدالة والتنمية أن تصبح النهضة والتنمية وإطلاق الحقوق السياسية وغيرها مدخلاً وركناً أيضاً في ترسيخ "الأيديولوجيا" لكن بعد 13 عاماً يصبح التصويت لأحزاب شديدة التطرف في علمانيتها كالشعب الجمهوري، وبقاء الحزب في موقعه البرلماني تقريباً متمتعاً بتأييد الملايين أمراً يدعو للقلق، ومثيراً لجدل طويل حول عمل الدعاة الأتراك ونشاطهم في مناطق الأكراد السنة والغرب السني أيضاً، حيث إن تفكيك الأفكار المتغربة والمتهافتة لم يحصل بعد بدرجة كافية، وهذا يلقي بظلال داكنة على فكرة التدرج البطيئة التي قد تصطدم يوماً ما بعودة الأمور إلى سابق عهدها إن غادر حزب يتبنى الفكرة الإصلاحية مقاعد الحكم.. هذا الملف، على أهميته جدير بالنقاش والدارسة بكل تأكيد، لكن نقاشه والخلوص إلى توصيات لا يمكن أن يستحيل نتائج ملموسة خلال شهر واحد أو يزيد، يفصلنا عن الانتخابات المبكرة. إنما هذا ملف يتعين أن يتبوأ موقعه في صدارة مشهد المراجعات التركية.

 

 

 

 

 

أما الأهم آنياً؛ فمراجعة عاجلة جداً للأداء الدعائي للحزب، والذي يمكنه لو أدار المعركة الدعائية مع خصومه جيداً أن يضع الحقيقة واضحة لكل ذي عينين من الأتراك، والتي تتجسد بأبرز ما فيها في أن:
-    حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي الحالية مبعثها الأساس هو عدم تشكيل حكومة أغلبية للعدالة والتنمية، وأن عدم التصويت له يدخل البلاد في نفق مظلم سياسياً واقتصادياً.
-    الأحزاب الأخرى لم تبد أي قدر من المسؤولية في تشكيل حكومة ائتلافية؛ فالشعب الجمهوري يريد حجماً أكبر من حجمه الحقيقي في البرلمان في الحكومة الائتلافية، والشعوب الديمقراطي لا يبدي أي مرونة مع أي حزب ما عدا الشعب، والحركة القومية لا تريد أي حل حتى الانتخابات المبكرة!

 

 

 

 

 

-    برامج الأحزاب الحقيقية غير المعلنة هي إسقاط أردوغان وعدم تشكيل حزبه للحكومة، وليس أي شيء آخر يمثل إصلاحاً أو رؤية أخرى اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية، وعليه تركزت الحملات الانتخابية على هذا وحسب.
-    اتفاق حزبي الشعوب الديموقراطي والحركة القومية هو شبه مستحيل لتناقض أساسيهما، وأن اجتماعهما لو حصل فهو تجسيد لكفر كل منهما بأساس تكوينه الأيديولوجي والبرامجي، وهذا يعني أن ينتخبهما على هذا الأساس إنما ينتخب عدماً أو إفكاً.
-    مسؤولية تراكم كل الديون والإخفاقات السابقة خلال عقود سابقة إنما يقع على عاتق حزب الشعب الجمهوري، وأن انتخابه يعني استكمالاً لفشله السياسي والاقتصادي، وازدرائه لحقوق الإنسان والحريات.
-    التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي إنما هو تصويت مباشر للإرهاب برعاية غربية (ألمانية أمريكية) وشرقية (إيرانية سورية)، وليس تنافساً برلمانياً "حضارياً".

 

 

 

 

يقوم العدالة والتنمية بجهود حثيثة من أجل التأكيد على هذا، لكنه لحد الآن لا يبدو أنه قد حقق نسباً عالية من التغيير وفقاً لمتوسطات بيانات استطلاعات الرأي الحالية، لذا، يظل بحاجة لتوضيح أكبر لهذه الصورة للشعب التركي.. لابد من تحقيق نجاحاً أعلى بكثير لدى الأتراك في "معركة الوعي"، التي تسقط فيها شعوب كثيرة في العالم بسبب آلة إعلام ضخمة كثيراً ما تتمكن من عقول البسطاء..