الأزمة الأوكرانية مؤشراً على نظام عالمي جديد؟
10 جمادى الأول 1435
أحمد عجاج

ماذا سيفعل أوباما؟ وكيف سيرد الاتحاد الأوروبي على الاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا؟ لم يتأخر الجواب عن هذين السؤالين كثيراً. اعتبر أوباما ان ما فعلته روسيا انتهاك واضح للقانون الدولي، ورأى الاتحاد الاوروبي ان على روسيا ان تجنح الى السلم! هذان الردّان من اهم قوتين على وجه الأرض يعبّران بوضوح عن عمق الأزمة التي وصل إليها عالمنا، ويشيران الى اننا ندخل مرحلة جديدة من العلاقات الدولية تتسم في احسن حالاتها بالغموض، وفي افضلها بالتساهل مع مبدأ احتلال ارض الغير بالقوة تحت مسمّيات واهية كانت تستخدم كما قال وزير الخارجية الاميركية كيري خلال القرن التاسع عشر عندما كانت الحجج القانونية تنحصر في دعوة الحكومة الشرعية للتدخل او لحماية حقوق الانسان (الأقليات).

 

إن اية مراجعة موضوعية لرئاسة اوباما، ولسلوك الاتحاد الاوروبي، توصلنا الى ان هذين الردّين كانا متوقعين، وأن بوتين كان على دراية بذلك، ولذلك اقدم على عمل عسكري لم يسبق ان رأينا مثله إلا بعد اجتياح الرئيس العراقي السابق صدام حسين لدولة الكويت. اكد اوباما خلال فترتي رئاسته انه يؤمن بالديبلوماسية، وأن الحلول العسكرية غير مرغوبة، وأن على اميركا ألا تكون شرطي العالم، وأن الجهود يجب ان تنصبّ على الداخل الاميركي لتحريك الاقتصاد وتحسين الظروف المعيشية للمواطن الأميركي. هذه الرؤية دخلت التنفيذ فوراً عند تسلم مهماته، فكان انسحابه السريع وغير المفهوم من العراق لدرجة انه لم يستطع ان يتوصل الى اتفاقية مع رئيس الحكومة المالكي تضمن ليس لأميركا نفوذها بل مستقبلاً يحفظ توازن القوى في العراق وتطمئن جيرانه الذين اشتكوا منذ البداية من تبعات التدخل الأميركي في هذا البلد. وكما فعل في العراق لم يستطع اوباما البقاء في افغانستان، ولم يستطع هزيمة طالبان، فكانت سياسته الانسحاب المتدرج بحجة ان الجيش الافغاني سيكون قادراً على حماية امن البلاد، وكما فشل مع المالكي، كرر فشله مع الرئيس الافغاني كارازي الذي رفض التوقيع على اتفاقية مشابهة مع الولايات المتحدة تضمن وجوداً للقوات الأميركية في المنطقة.

 

الضعف الاميركي بدا اكثر وضوحاً في الازمة السورية عندما تراجع اوباما عن تعهدات قطعها للعالم بأنه لن يتسامح مع أي استخدام للأسلحة الكيماوية في سورية واعتبر ذلك خطاً احمر سيتحمل من يتجاوزه العقوبة اللازمة. وقد تجاوز الرئيس الأسد هذا الخط، وتراجع اوباما في اللحظة الاخيرة متمسكاً بحبل نجاة روسي سمح له بحفظ ماء الوجه والعودة الى قواعده سالماً بلا طلقة رصاص واحدة. وكما فعل مع سورية تفاوض في السر مع ايران وسمح لها بأن تحصل على نسب معينة من التخصيب لتصبح بذلك دولة قادرة على صناعة القنبلة النووية ساعة تشاء في المستقبل. هذا التراجع جعل حلفاءه في المنطقة كما يقول المثل يعدّون للعشرة، ويعيدون حساباتهم دفعة واحدة. ما فعله اوباما كان منسجماً مع تعهداته، إلا انه خسر في المقابل ثقة الحلفاء وبالتحديد في الشرق الاوسط وآسيا.

 

في آسيا لم يكن حصاد اوباما افضل وبالتحديد في مواجهة صعود الصين وما تشكله من أخطار على الدول المحيطة بها وبالتحديد اليابان. والغريب ان ادارة اوباما التي ورثت عن سابقاتها سياسة حض اليابان على مساهمة اكبر في الامن الاقليمي للمنطقة وذلك من خلال تغيير دورها السلمي الذي اتبعته بعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية سرعان ما شعرت تلك الادارة بالقلق الشديد عندما بدأت ترى نتائج ما كانت تدعو اليه. فعندما زار رئيس الوزراء الياباني شينزو اليميني مزار «ياشكوني» الذي يخلد ذكرى مجرمي الحرب اليابانيين، وصفت ادارة اوباما تلك الزيارة بأنها غير مسؤولة، واكتفت في المقابل بالتعبير عن اسفها عندما اعلنت الصين عن فرض منطقة دفاعية جوية فوق جزر سانكوك التي تسمى في الصين بـ دايوو المتنازع عليها مع اليابان. هذا التباين في الموقف الاميركي جعل اليابان تشعر بالخوف اكثر على مصيرها لأن الادارة الاميركية على ما يبدو غير مستعدة للإيفاء بتعهداتها؛ فدعا شينزو آبي الى مراجعة الدستور وبالتحديد المادة 9 التي تحظر على اليابان استخدام القوة لفض الخلافات الدولية، واشترى انظمة عسكرية حديثة، وأظهر انه مستعد لمواجهة الصين. هذا التحدي الياباني قابله تحدٍ صيني، وقابله خوف لدول المنطقة من صعود اليابان، ومن صعود الصين، وبالتالي اصبح الاعتقاد، كما في منطقة الشرق الاوسط، ان على كل بلد ان يحصّن نفسه ولا يعتمد على الولايات المتحدة.

 

وكما هي حال ادارة اوباما، فإن حال الاتحاد الاوروبي ليست افضل بكثير؛ فهذا الاتحاد الاوروبي هو بحق عملاق اقتصادي، لكنه عسكرياً يبدو عاجزاً ومشلولاً. هذا العجز ليس مرده الى ضعف في البنية والأسلحة العسكرية بل هو سياسي بامتياز تبدَّى واضحاً في ازمة البوسنة، وفي كوسوفو، وأخيراً في ليبيا. لقد اعتاد الاتحاد الاوروبي على العضلات الأميركية إلى درجة ان وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس اشتكى في مذكراته من خذلان الاتحاد الاوروبي لجورجيا عندما اجتاحها الروس وفصلوا بالقوة أبخازيا واستاسيا عنها واختار الاوروبيون في وجه العدوان الروسي خيار الحل السلمي! ويبدو ان اوروبا تعاني كما يقول الكاتب روبرت كايغن في كتابه «الحرب والجنة: أوروبا وأميركا في النظام العالمي الجديد» من عقدة كراهية الحرب بعد تجربتي الحربين العالميتين الأولى والثانية وتفضل السلام تحت اية ذريعة كانت؛ لذلك نجد قادة اوروبا يختلفون حول كل القضايا، ما عدا مسألة الاقتصاد، وكان بالتالي ردهم متوقعاً على الاجتياح الروسي الاخير لأوكرانيا. فأكبر قوتين في الاتحاد الاوروبي وهما بريطانيا وألمانيا تبين انهما لا ترغبان في التصعيد؛ بريطانيا على رغم الكلام الظاهر لا تشجع فرض عقوبات مالية واقتصادية سريعة لأنها ستضرر، وألمانيا لا تحبذ اللجوء الى الحصار الاقتصادي لأنها تعتمد على الغاز والنفط الروسي (40 في المئة من اجتياجها)، وبقية الدول الأوروبية مختلفة في ما بينها وبالتحديد بين دول اوروبا الشرقية الداخلة حديثاً في الاتحاد مثل بولونيا المتخوفة من الروس، وبين دول اوروبا الغربية الخائفة على اقتصاداتها. ودائماً كما اظهرت الأيام يرى قادة اوروبا ان الحل هو بالتفاوض، والمحفزات الاقتصادية، والمساعدات المالية، ولا يتحركون إلا في اللحظة التي تتهدد فيها مصالحهم الاقتصادية، او ينجرّون غصباً وراء القيادة الاميركية.

 

في مواجهة هذا العالم الغربي المتردد والخائف نشاهد في خضم الازمة الاوكرانية وما قبلها ملامح نظام عالمي جديد تقوده روسيا والصين وتتبعهما دول اخرى في العالم النامي؛ هذا النظام على رغم انه لم تكتمل ملامحه، إلا ان بعض خطوطه العريضة اصبحت واضحة ومن ابرزها اعادة رسم التحالفات وصياغة العالم على اسس تختلف عن تلك التي تأسس عليها بعد الحرب العالمية الثانية. في هذا النظام الجديد، ترى الصين وروسيا ان لا بد من وضع خطوط حمر للعالم الغربي، ولا بد من اعادة تغيير كل المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما... لأنها تأسست على فرضية عدم المساواة في التمثيل والتأثير.

 

في هذا العالم يصبح من حق روسيا والصين ان تكون لهما حدائق خلفية، وأن تكون لهما مناطق نفوذ، ومن حقهما ان يطاردا كل من يعتدي على حقوقهما. كما سنجد في هذا النظام الجديد دولاً صغيرة ومتوسطة تعيد تموضعاتها وتحالفاتها، وبذلك ندخل حقبة جديدة من العلاقات الدولية نشهد فيها انشطار العالم مجدداً ليس كما كان ابان الحرب الباردة على اسس ايديولوجية متعارضة بل حول رأسمالية واحدة يرى كل من هذين النظامين انه المطبق الحقيقي لها. في هذا النظام الجديد سيشهد العالم صراعاً وتنافساً على المصادر الطبيعية في عالم تتناقص فيه تلك المصادر، وستكون دول العالم الثالث مرة اخرى محل الصراع والخلاف، وسيحصد أهلها كما حصدوا في الماضي الحروب والمآسي.

 

 

المصدر/ الحياة اللندنية