استثمار الأوقاف
10 رجب 1434
د. أحمد بن عبدالعزيز الصقيه

ليس خافيًا على المتأمِّل اعتناءُ المسلمين بالأوقاف ورعايتُهم لها في ظاهرةٍ حضاريةٍ لا تخطئها العين، شارك فيها غالب أفراد الأمة على اختلاف قدراتهم؛ إذ لم تكن إقامة الأوقاف قاصرةً على الأثرياء فحسب، بل أسهم فيها كل قادر وِسْع ما يطيق، حتى رُوِي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرةٍ إلا وقَف». في صورة رائعة لاستجابتهم لِمَا دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... ومنها: الصدقة الجارية».

 

 

وهذا القطاع المهم بمقاصده الكبيرة إنَّما شُرِع لتحقيق التكافل في الأمة، وتحصيل الأجر والثواب لأفرادها، في عنايةٍ بالغةٍ بالمجتمع وأبنائه، وهذا جعله يؤدِّي دورًا مهمًا في تحقيق الرخاء والازدهار ودعم المؤسسات العلمية والاجتماعية والطبية وغيرها في المجتمع المسلم منذ عصور قديمة، ما حقَّق تفاعلاً نشطًا مع حركة التنمية فيه.

 

 

والوقف وهو بهذه الرتبة من الأثر البالغ في نهضة الأمة والإسهام في صناعة حضارتها، لا يمكن أن يحقِّق الغاية المنشودة منه إلا بالعناية بمقصدٍ من أهم مقاصد تشريعه، ذاك المقصد الكبير يتعلق باستدامة المنفعة من خلال الإفادة من وسائل الاستثمار المتنوعة، وصوره المتعددة. علمًا بأنَّ الإضرار بالأوقاف ليس قاصرًا على الاعتداء عليها فحسب، بل إنَّه يمتد ليشمل إيصاد الباب في وجه تثميرها وتنميتها، ما جعل دورَها يضعف في بعض صور الأوقاف في واقعنا المعاصر. كما يُلحَق بذلك ما يقع من تضمين بعض الواقفين أوقافهم شروطًا تُفرِّغها من مضمونها ومقصد تشريعها، في صورة ضَيِّقة للمهمة التي يجب أن تقوم بها الأوقاف. ويتزامن هذا كلُّه مع ما نشهده أخيرًا من تطور كبير وسريع في أدوات الاستثمار وطرقه، مع قيام تكتلات اقتصادية متنوعة، ووقوع تحولات مالية متجددة، حتى صارت وسائل الاستثمار فنًّا تُخصِّص له البيوت المالية العلماء المتفرغين.

 

 

لما كان الأمر كذلك عاد هذا الابتكار المتسارِع في علم أدوات الاستثمار وأوعيته على الأوقاف الخيرية، فاستدعى ظهور صور جديدة يجب أن تُواكِب هذا التجدُّد في الأوعية والأشكال الاستثمارية، ولاسيما أنَّ الإشكال الأكبر لم يعدّ في إنشاء الأوقاف وإقامتها بل في تمويلها ووسائل تثميرها واستمرار إنتاجها. مستصحبين هنا أنَّ واجب الحكومات لا يقتصر على تقديم التنمية فحسب، بل يجب أن يمتد واجبها إلى إدارة عملية التنمية، ما زادَ في أهمية تطوير مؤسسات القطاع الثالث ذات الطابع الخيري، التي امتازت بالسبق لابتكار الشخصية الاعتبارية المستقلة، ومنها الأوقاف. وغَنِيٌّ عن البيان أنَّ الاهتمام بإدارة الخير واجبة كالعناية بإرادته، لتجتمع الأمانة مع القوة، ولتؤدي الأوقاف واجبها المنوط بها، ولتظهر آثارُها الحميدة ماثلة للعيان كما أريد لها.

 

 

وصفوة القول أنَّ مَن استطلع ماضي الأوقاف وما أسهمت فيه من صناعةٍ لحضارة شامخة، وحفاظ على المجتمعات من أن تسقط تحت وطأة الجهل والحاجة والعَوَز، وربط بين طبقات المجتمع الغنية والفقيرة، من استطلع ذلك ظهر له بجلاء وبرز له بوضوح إمكانُ الإفادةِ الفاعلة منها في هذا الزمان أكثرَ من ذي قبل؛ إذ صار إمكان الانتفاع بها أكبر من خلال تنوع وسائل تمويلها واستثمارها، وتعدُّد مصارفها، ووفرة الخير بيد الخيِّرين الذين يرومون إنشاءها ودعمها.

 

 

وسأشير في هذا المقال إلى استثمار الأوقاف، والصور المعاصرة في تطوير الاستثمار الوقفي بما يتناسب مع روح العصر وينضبط بضوابط الشرع.

 

 

من أجمل ما قاله الطاهر بن عاشور: «وإنَّ من أكبر مقاصد الشريعة: الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوهٍ جامِعَةٍ بين رعي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص»، إلى أنَّ قال: «وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية».

 

 

اشتملت الشريعة بكمالها على ما يصلح للناس ويحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، في قواعد سعي الشارع الحكيم إلى انتظام معايش الناس واستقامة أمورهم.

 

 

ومن تلك التشريعات ما جاء في باب التبرعات من أحكام الوقف الذي يمتاز بكونه من الصدقة الجارية التي لا ينقطع ثوابها حتى بعد موتِ موقفها، وكذا صور استثمار الأموال المبحوثة في باب المعاملات، التي يمكن من خلالها أن تنمى الأوقاف بأنواعها.

 

 

وفيما يحثّ الشرع على الاستثمار من خلال الأمر بتحريك المال والنهي عن القعود والتواكل والحثّ على السعي في الأرض وعمارتها، وتشريع أحكام الاستثمار. وهذا مطلق في كلِّ مال، ويدخل فيه مال الأوقاف دخولاً أوليًا.

 

 

ولا شكَّ في أنَّ أفضل ما يُتَعَبَّد به بعد الفرائض من سائر النوافل ما كان نفعها متعديًا، كالأوقاف وسائر التبرعات، فكيف بمن يسعى لاستثمارها لتكون ذات نفع أعظم، ولاسيما أنَّه لا يتأتى المحافظة على الوقف، فضلاً عن إنمائه، إلا مِن خلال استثماره، وقد تقرّر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

 

 

وأجدها هنا فرصة لأؤكِّد أهمية أن تُسبق المشاريع الوقفية بدراسات مستوفية من مختصين تتعلق بالجدوى الاقتصادية للاستثمار، ويتبعها تقويم دوري لكل فرصة استثمارية. وهناك العديد من المراحل التي يمكن اتباعها لتحليل الجدوى الاقتصادية لمشاريع الاستثمار الوقفي تتعلق بالدراسة والتنفيذ والإنتاج، وإخضاع هذه المشاريع لنظم رقابة مالية وإدارية دقيقة.

 

 

ويجب أن أُنَبِّه إلى ملاحظة ارتباط دراسة الجدوى بزمن معين؛ فلا بدَّ من ملاحظة الفرق بين وقت دراسة الجدوى وزمن التنفيذ للمشروع لئلَّا يؤدي تأخر تنفيذ المشروع عن الدراسة إلى تغير النتيجة. ويُوصى هنا أن تكون استثمارات الأوقاف موازية ومكملة لاستثمارات القطاع الأهلي والخاص لا منافسة لها؛ لكي لا تضر بها من جهة، ولا تتعطل هي عن أداء دورها الاجتماعي من جهة أخرى.

 

 

ومع ما يحقِّقه الاستثمار الأمثل للأوقاف من الثقة في الأوقاف وثمرها، وفي ذلك حثٌّ ظاهر على الإنفاق في مثل هذه الوجوه الخيرية، ما يؤدِّي بالتالي لتحقيق مشاركة بناءة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية.

 

 

هنا لا بدَّ من التأكيد على وجوب الموازنة الدقيقة بين المخاطر والأرباح من خلال السعي إلى تحقيق أعلى مستوى من الأرباح، مع اجتناب الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة.

 

 

ومن الضروري ملاحظة العائد الاجتماعي مع الربح المالي؛ إذ ملاحظة العائد الاجتماعي هو من التثمير الأمثل للوقف.

 

 

وقد تقرَّر في الشريعة تقديم مصلحة الجماعة على الأفراد كما هو مقرر في قاعدة: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وقاعدة يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. وملاحظة الحق العام قاعدة ليست خاصة بالوقف بل تنطبق على كل أوجه استعمال الحق في المجتمع المسلم وفقًا لما جعل من القيود السلبية على الملكية الخاصة والتي تتحقق بها مراعاة مصلحة الجماعة.

 

 

ومن أجمل ما يشير إليه الفقهاء؛ ما يؤكد تنمية الأوقاف: أنَّ عمارة الأعيان الموقوفة أول واجب على الناظر، وهي مقدَّمة على الصرف إلى المستحقين سواء نص عليه الواقف أم لم ينص، وذلك لأنَّ عمارة العين الموقوفة سبيل لحفظها الذي به يحصل دوام الانتفاع منها لتكون صدقة جارية. كما أنَّ العمارة- وهي من الاستثمار- إن لم تكن مشروطة نصًّا فهي مشروطة اقتضاءً، لأنَّ المقصود بالوقف التأبيد، ولا يتحقق إلا بذلك.

 

 

ولا بدَّ من التنبيه هنا إلى أنَّ فتح باب الاستبدال مطلقًا بلا ضوابط يؤدي إلى فساد الأوقاف والتمكين من الاعتداء عليها، كما أنَّ القول بمنع الاستبدال مطلقًا يؤدِّي إلى الحال ذاتها من فساد الأوقاف وضعفها مع ما فيه من ظلم للواقف والموقوف عليه، وبناءً عليه فمآل الرأييْن واحد، والنظر للمآل من قواعد الشريعة، ولذا فلا بدَّ من الحكم بالاستبدال وفق ضوابط تحقق المصلحة الشرعية في ذلك، وهذا يتفق مع الأوضاع الاقتصادية التي تقتضي مثل ذلك في زمن تتسارع فيه وسائل الاستثمار.

 

 

أختم هذه المقالة عن استثمار الأوقاف وتنميتها بِحثِّ الجهات التشريعية على وضع النظم التي تحفظ الأوقاف وتنميها، وتوسع نشاطاتها، وتمكِّن من إسهام الناس فيها، مع إحكام الرقابة التي تتابع تطبيق الضوابط الموضوعة للاستثمار وحثّ الواقفين على وقف أنفس الأموال لما يحققه من دوام الوقف واستمراره وأن يضمن الواقفون أوقافهم شرط الاستثمار، لما لذلك من أثر في تنمية الأوقاف.

 

 

واللافت للانتباه إليه أنَّ تطوير شروط الواقفين ونمذجة الوثائق الوقفية يُمكِّنان من توسيع مصارف الوقف؛ إذ قد يُنَبّه الباحثون إلى إحياء المندثر من الأوقاف من دون التأكيد على تصحيح وثائق الأوقاف الجديدة عند ابتداء وقفها، علمًا بأنَّ تصحيح ذلك يحقق نفعًا كبيرًا للواقف والوقف والموقوف عليهم. مع التأكيد على توسيع صور الموقوفات، وصور الاستثمارات ووسائل تمويلها. وتنويع أشكال الأوقاف التي يحتاجها المجتمع: كالوقف على دور التعليم ومعاهد التقنية والمؤسسات البحثية ومراكز الإعلام وقنواته الجادة النافعة والمستشفيات والمصانع والمعامل وغيرها مما تزداد الحاجة إليه، وهذا كله يسهم في نهضة الأمة وتعليم أفرادها وقضاء حوائجهم، كما يحقق مساعدة دائمة للمحتاجين من طريق إحداث فرص عمل متنوعة.

 

 

ويُؤكد أيضًا على توسيع الصور المعاصرة لاستثمار الوقف وفتح الباب للصيغ ذات الجدوى الاقتصادية الأكثر ملاءمة كاستثماره بالمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك لمؤسسة الوقف وذلك بشراء الوقف نصيب شريكه الممول.

 

 

وكذا يجب الإفادة من صور الوقف الجماعي والمشاع عبر وقف الأسهم في الشركات، سواء من خلال المشاركة في إنشائها أم تملكها بعد إنشائها وقيامها أم من طريق المضاربة في صناديق تتولى ذلك، باستثناء الصناديق ذات المخاطرة المرتفعة. كما يمكن الاستفادة من الصناديق الاستثمارية لتكون أوعية وقفية، سواء من خلال إنشاء هذه الصناديق الوقفية أم باعتبارها وسيلة تستثمر فيها أموال الوقف أم استثمار الوقف بمشاركته لغيره بالإنتاج والمضاربة بالأصول الثابتة أم عبر الإجارة التمويلية أم من خلال المرابحة للآمر بالشراء أم البيع بالتقسيط أم السلم وغيرها من صيغ الاستثمار.

 

 

ومما يوصى به هنا إيجاد أجهزة رقابية للمؤسسة الوقفية تكون ذات قدرة عالية من جهة درايتها، ومن جهة سلطتها ليحصل بها تحقيق الضوابط التي ترسمها المؤسسة الوقفية. والتأكيد على إخضاع أية عملية استثمارية لدراسات وافية للجدوى، وإتباعها كذلك بتقويم دوري لتلك العملية الاستثمارية. وتفعيل الحوافز للمشاركين في استثمار الأوقاف، وذلك من طريق تحديد أجور العاملين وتطوير ذلك في شكل يسهم في دعم الاستثمار الوقفي. كما يقترح أن تقوم الجهات التشريعية برسم العقوبات الرادعة لمن يقوم بالاعتداء على الأوقاف أو استثماراتها القائمة.

 

 

ولا بدَّ من السعي الجادّ إلى تطوير وسائل رعاية الأوقاف وتنميتها وإعداد الدراسات اللازمة لذلك ودعم البحوث والدراسات التي تعتني بالجانب التطبيقي وحثّ الباحثين على الإسهام في علاج كثير من قضايا استثمار الأوقاف.

 

 

وفي الختام لا بدَّ من إبراز الصور الناجحة من الاستثمارات الوقفية، التي يحقق نشرها دعمًا من خلال دعوة وحثّ عدد كبير من الواقفين لإقامة مثلها أو المساهمة في إنشائها، بعد اطلاعهم على آثارها الحميدة وثمارها المباركة.