هل تكون التجربة البرازيلية نموذجًا استرشاديًّا لمصر؟
1 رجب 1434
مركز نماء للبحوث والدراسات

- تقرير عن دراسة نشرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية حول التجربة البرازيلية وإمكان استفادة مصر منها.

 

تقديم
يحق للبرازيليين أن يفتخروا ويتذكروا جيدًا نهاية سنة 2011م؛ حيث أُعلن رسميًّا أن البرازيل أصبحت سادس أكبر اقتصاد على مستوى العالم، متقدمة بذلك على بريطانيا، وحققت نموًّا بلغ 2.7 بالمائة، حسب ما أعلن عنه وزير المالية البرازيلي، مقابل تحقيق الاقتصاد البريطاني نموًّا بنسبة لم تتجاوز 0.8 بالمائة. إنجاز يأتي بعد سنة من ولاية الرئيسة الحالية "ديلما روسيف"، وكان ثمرة لنجاح برنامج اقتصادي إصلاحي طموح، شهدته البرازيل طوال ثماني سنوات، هي فترة حكم الرئيس السابق "لويس ايناسيو لولا دا سيلفا" الشهير بـ "لولا".
الدراسة التي نقدم أهم نتائجها وخلاصاتها نشرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وتسعى إلى تسليط الضوء على تجربة النهضة الاقتصادية البرازيلية في عهد الرئيس السابق "لولا دا سيلفا"، الذي تقلد الحكم من سنة 2003م إلى سنة 2010م، وهي أيضًا محاولة لفهم سياساته الاقتصادية التي نقلت البرازيل من هوة الإفلاس إلى قمة التقدم الاقتصادي خلال ثماني سنوات فقط.
كيف استطاعت تلك السياسات التأثير في حياة ملايين البرازيليين؟ وكيف نقلتهم من مصافِّ الطبقات الفقيرة إلى الطبقة الوسطى؟ ومن أين بدأ "لولا" بالضبط، بالنظر لمراحل تطور الأوضاع الاقتصادية قبل وصوله إلى الحكم؟ وما أهم المشكلات الاقتصادية التي واجهها "لولا" وعمل على حلها؟ وأي أثر لأيديولوجية "لولا" اليسارية على أدائه بالحكم؟ ثم ما البرنامج الاقتصادي الذي انتهجه "لولا"؟
هذه الأسئلة وغيرها حاولت الدراسة إيجاد أجوبة لها؛ لتطرح تحليلاً للطريقة التي وظف بها التقدم الاقتصادي لدعم السياسة الخارجية، ولتخلص في النهاية إلى الدروس المستفادة التي يمكن الاسترشاد بها خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر، عقب ثورة يناير.

 

مراحل تطور الأوضاع الاقتصادية البرازيلية
عرف النظام السياسي في البرازيل تحولات كبيرة منذ بداية الحكم العسكري في البلاد سنة 1930م، عندما تولى الجنرال "غيتويلو فارغاس" الحكم، ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية، وتراجعت الديمقراطية والحرية، وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل. وفى منتصف السبعينيات تولى الجنرال "إيرنستو غيسيل" ومن بعده الجنرال "جون بابتيستا فيغوريدو" رئاسة البلاد حتى منتصف الثمانينيات، وسار كلاهما في طريق التحول التدريجي نحو الحكم المدني، وشهدت البرازيل عشر سنوات انتقالية بين نظامين سياسيين، أولهما عسكري استبدادي قمعي، وثانيهما مدني مؤسسي ديمقراطي، وتعاقب على الحكم منذ 1985م رؤساء مدنيون، وكان أولهم "خوسيه سارنى" وآخرهم الرئيسة الحالية "ديلما روسيف". ومنذ 1985م وحتى 2011م، أي خلال 27 عامًا من الحكم المدني الديمقراطي، عقب انتهاء الحقبة القمعية العسكرية، برز اسم الرئيس "لولا دا سيلفا" الذي تولى رئاسة البلاد لمدة ثماني سنوات (2003-2010م)، حيث تقدمت البلاد خلال تلك الفترة تقدمًا كبيرًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

 

ويمكن الحديث عن ثلاث مراحل مر بها الاقتصاد البرازيلي:
المرحلة الأولى: هي سبعينيات القرن العشرين، حيث تبنت الحكومات العسكرية سياسات رأسمالية دافعت فيها عن مصالح رجال الأعمال وأصحاب الشركات، دون الاكتراث بالطبقات الفقيرة، كما عمدت إلى الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعها التنموي، مما خلف ديونًا اقتصادية كبيرة شكلت عبئًا على الأجيال اللاحقة.
المرحلة الثانية: هي ثمانينيات القرن العشرين، واجهت فيها الدولة أزمة الديون (Debt crisis)، خاصة بعد السياسات الاقتراضية المتهورة التي انتهجتها الحكومات العسكرية، وتميزت فترة الثمانينيات بعدة محاولات للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة، كما شهدت تراجعًا في معدلات النمو.

 

المرحلة الثالثة: وتتمثل في تسعينيات القرن العشرين، وكان الجيش آنذاك قد تراجع تمامًا عن الحياة السياسية، ونجح الانتقال السلمي والتدريجي، وانتقلت السلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، وانتهجت الحكومات المدنية خلال عقد التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، وتبنت سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسات السوق، وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرير الاقتصادي.
محاولات كاردوسو لإصلاح الاقتصاد البرازيلي

 

قدم الرئيس الأسبق للبرازيل "كاردوسو" (1995-2002م) محاولات عديدة لإصلاح الاقتصاد البرازيلي، ووضع خطة "الريال" التي كان هدفها دمج الاقتصاد المحلى في الاقتصاد العالمي. واتجهت محاولاته الإصلاحية نحو تبني سياسات السوق الحر والاستدانة الخارجية، حيث ارتفع الدين الخارجي من 150 إلى 250 مليار دولار خلال فترة رئاسته، وقد أدى هذا التضخم في الدَّين إلى أزمة انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي، سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب. كما اتجهت سياسات "كاردوسو" أيضًا نحو طرح سندات الدَّين الداخلي بفوائد مرتفعة، مما شجع المستثمرين على التخلي عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية حتى ارتفع الدَّين الداخلي بنسبة 900 بالمائة. وقبيل انتهاء فترة رئاسته، سعى "كاردوسو" سعيًا مستميتًا للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وراح يتعهد باتخاذ خطوات للتصدي لانعدام الثقة. وفى أغسطس من نفس العام رد الصندوق بأنه على استعداد لإقراض البرازيل قرضًا بـ30 مليار دولار، ولكن عقب الانتخابات الرئاسية ومعرفة توجهات الرئيس الجديد. وهكذا ترك "كاردوسو" الحكم مخلِّفًا وراءه مشكلات اقتصادية كبرى.
طبيعة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية عند وصول "لولا" للحكم في 2003م

 

ترى الدراسة أن "لولا" بعد وصوله إلى الحكم واجه العديد من المشكلات، منها:
مشكلات اقتصادية: ومنها على وجه الخصوص: مشكلة انخفاض قيمة "الريال" البرازيلي أمام الدولار الأمريكي، والتضخم، وارتفاع مستويات الدَّين العام سواء الخارجي أو الداخلي، والنقص الحاد في توصيل الكهرباء إلى مساحات شاسعة من البلاد.

 

مشكلات اجتماعية: ومنها: مشكلة التسرب من التعليم، وتردي أحوال المدارس بشكل عام، وانتشار الجريمة المنظمة وخاصة تجارة المخدرات، شأنها في ذلك شأن معظم دول القارة، ومشاكل الجوع، والبطالة، والفقر الحاد، والتفاوت الشديد بين طبقات المجتمع، والذي كان ينقسم إلى طبقتين: إحداهما شريحة رفيعة جدًّا من الأغنياء، مقابل شريحة أخرى عريضة من الفقراء، بينما تكاد تكون الطبقة الوسطى غير مرئية على الإطلاق، وذلك في مشهد صارخ للتفاوت الاقتصادي، وانعدام شبه كامل للعدالة الاجتماعية.

 

وبسبب الفقر لجأت الدولة مرارًا للاستدانة من الخارج؛ لتوفير الاحتياجات الأساسية، وأدت زيادة هذه الديون بالبلاد إلى أزمة ثقة قوية حجبت عنها الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وتناقصت المشروعات الاستثمارية، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات الفقر، مما يعني مجموعة من الحلقات المغلقة التي تجعل الحلول تؤدي في أغلب الأحيان إلى مزيد من المشكلات وتردي الأوضاع الاقتصادية. ويمكن القول بأن الرئيس "لولا" تسلم مقاليد حكم دولة تُشرف على الإفلاس، لعدم قدرتها على سداد دَين خارجي كبير، وتعاني من أزمة ثقة حقيقية حالت دون حصولها على قروض جديدة بدعوى عدم قدرة الاقتصاد الوطني على السداد.

 

"لولا" الاشتراكي بين الواقع وما كان متوقعًا منه
في بداية حكم "لولا دا سيلفا"، سادت حالة من الخوف والترقب بين أوساط رجال الأعمال والمستثمرين المحليين من أن يتبنى الرئيس الجديد سياسات اقتصادية يسارية، ولفهم هذه المخاوف التي ساورت الطبقة الرأسمالية في البرازيل، تشير الدراسة بصورة موجزة لحياة هذا الرجل الدرامية.

 

تجرع "لولا" شخصيًّا الفقر منذ أن كان طفلاً؛ فقد كان الابن السابع لعائلة تتكون من ثماني أطفال تسكن في الريف، تركهم والدهم لتتولى أمهم إعالتهم بمفردها، وهو الأمر الذي أدى به إلى ترك التعليم ليعمل في مهن متواضعة بداية من ماسح للأحذية، ثم فقد أحد أصابعه أثناء عمله المضني في مصانع للتعدين. وبالنظر إلى خلفية هذا الرجل الدرامية، كان من المتوقع أن يتجه إما لانتهاج سياسات اشتراكية عنيفة، بل وانتقامية من أصحاب المصانع ورجال الأعمال وأصحاب رءوس الأموال بشكل عام، أو أن يغرق في الفساد في محاولة لتحقيق مكاسب شخصية بحتة، ولعل هذين هما النموذجان الشائعان في المنطقة العربية على مدار العقود الماضية. لكن ما حدث كان أمرًا مختلفًا تمامًا؛ فقد كان من الواضح أن "لولا" -بعد سنوات طويلة من العمل النقابي، والدفاع عن حقوق العمال، والحياة وسط طبقة الفقراء، والنضال من أجل حياة أفضل لهم منذ الستينيات- قد وصل إلى درجة من النضج عند دخوله انتخابات 2002م وهو في السابعة والخمسين من عمره، مما جعله يدرك أن للأغنياء أيضًا حقوقًا، وللطبقة الرأسمالية مصالح ومطالب. وتبنى هذا الرجل "سياسات يسارية"؛ لحل معضلة الفقر البرازيلي، ولإنجاز تقدم قوي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، كما انتهج "سياسات ليبرالية" تفوق كل أحلام شريحة الرأسماليين؛ لحماية صناعتهم واستثماراتهم، لدرجة جعلت هذه الطبقة أكثر تأييدًا لحكم لولا من الطبقتين الوسطى والفقيرة.

 

كيف حققت البرازيل تلك المعجزة الاقتصادية؟
ما الذي توفر للبرازيل لتحقق تلك المعجزة؟

 

تعتبر البرازيل -في نظر معدي الدراسة- "أرض المتناقضات"؛ تختلط فيها ناطحات السحاب مع دور الصفيح، ومناخيًّا توصف بأنها أكبر مستودع للتنوع الحيوي في العالم، وديموجرافيًّا يعيش على هذه الأرض شعب تَشكَّل من أعراق وأصول متباينة: 54٪ بيض، و39٪ ملوَّنين، و6٪ زنوج، و1٪ مهاجرين عرب، كما أن عدد السكان الأصليين الذين بقُوا على نقائهم ولم يختلطوا بأي من الشعوب القادمة يصل إلى نحو 200 ألف نسمة، أي ما يعادل 0.1 بالمائة من إجمالي السكان، ورغم ذلك يظل المجتمع متجانسا عرقيًّا. وتمتلك البرازيل قدرات طبيعية كبيرة من حيث الأراضي الزراعية الشاسعة، والأنهار الكثيرة، والثروات الطبيعية مثل: النفط والمعادن الوفيرة، بالإضافة إلى القوة السكانية التي تقترب من 200 مليون نسمة، وإلى جانب كل ذلك امتلكت مناخًا ديمقراطيًّا سليمًا بدأ أولى خطواته في 1985م، وأخذ في النمو والاستقرار على مدار سنوات. وعند وصول "لولا" إلى الحكم في 2003م، كانت البرازيل لديها خبرة 17 عامًا من التجربة الديمقراطية بعيدًا عن تدخل المؤسسة العسكرية، هذا المناخ الديمقراطي أفرز إرادة شعبية قوية ورغبة عارمة لدى البرازيليين لتحقيق النجاح والنمو والتقدم رغم الفقر الشديد، وفى النهاية توفر للبرازيل زعيم برتبة رئيس، لديه خبرة حقيقية بمشكلات الدولة والشعب، والأهم أن لديه إرادة للنجاح وتحقيق النمو والتقدم وهدفًا وحيدًا وهو مصلحة البرازيل.
سياسة "لولا" الاقتصادية لتحقيق النمو ومعالجة الفقر

 

تنفيذ برنامج للتقشف:
نفذت البرازيل برنامجًا للتقشف وَفقًا لخطة صندوق النقد الدولي بهدف سد عجز الموازنة، والقضاء على أزمة الثقة. وعند تولي "لولا" الرئاسة لم يتراجع عن هذا البرنامج الذي كان قد بدأه سلفه "كاردوسو"، وأعلن أن سياسة التقشف هي الحل الأول والأمثل لحل مشاكل الاقتصاد، وطلب دعم الطبقات الفقيرة له والصبر على هذه السياسات، وأدى برنامج التقشف إلى خفض عجز الموازنة وارتفاع التصنيف الائتماني للبلاد، ومن ثَم ساهم ذلك بقوة في القضاء على انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي. وبناءً عليه تلقت البرازيل نحو 200 مليار دولار استثمارات مباشرة من 2004م وحتى 2011م. بالإضافة إلى ذلك، دخل ما يقرب من 1.5 مليون أجنبي للإقامة في البرازيل في 2011م، وعاد نحو 2 مليون مهاجر برازيلي إلى البلاد. وأدت هذه الاستثمارات إلى رفع الطاقة الإنتاجية للدولة، وهو ما يعني توفير فرص عمل جديدة، ومن ثَم المساهمة في حل مشكلة الفقر. وبعد أن كان صندوق النقد يرفض إقراض البرازيل في أواخر عام 2002م أصبح بعد ثماني أعوام من العمل في برنامج "لولا" الاقتصادي مدينًا للبرازيل بـ14 مليار دولار.

 

تغيير سياسات الإقراض:
من أجل توفير تسهيلات ائتمانية، تم تخفيض سعر الفائدة من 13.25 بالمائة إلى 8.75 بالمائة، وهو ما سهل الإقراض بالنسبة للمستثمرين الصغار، و أدى ذلك إلى تسهيل إقامة المشاريع الصغرى، وتوفير فرص عمل، ورفع مستوى الطاقة الإنتاجية والنمو، مما ساهم بشكل عام في حل مشكلة الفقر، وتشير الأرقام إلى أن نصف سكان البلاد زاد دخلهم خلال العقد الأخير بنسبة 68 بالمائة.

 

التوسع في الزراعة واستخراج النفط والمعادن:
اعتمدت البرازيل على تصدير المنتجات الخام في السنوات الأولى من حكم "لولا"، وقبل الأزمة العالمية في 2008م، استفادت البلاد من ارتفاع أسعار المواد الخام في الأسواق العالمية، وهو الأمر الذي أدى إلى سد العجز في ميزان المدفوعات الذي كان يعاني منه الاقتصاد البرازيلي قبيل عام 2003م.

 

التوسع في الصناعة:
اتجهت السياسات الاقتصادية إلى الاهتمام بشقين للصناعة؛ الأول: هو الصناعات البسيطة القائمة على المواد الخام مثل: تعدين المعادن، والصناعات الغذائية والجلدية والنسيج، والثاني: الصناعات التقنية المتقدمة، حيث خطت البلاد خطوات واسعة في العقد الأخير في صناعات السيارات والطائرات، فمثلاً، تُمثِّل طائرات شركة "إمبراير" 37٪ من أسطول شركات الطيران الإقليمية في أمريكا، وقد تم إنشاء هذه الشركة من قبل النظام العسكري في 1969م، ولكنها ظلت شركة خاسرة، حتى تم خصخصتها في 1994م في عهد الرئيس الأسبق "كاردوسو"، ومن ثَم أخذت في التقدم، ولكنها حققت نجاحًا كبيرًا ومتميزًا في السنوات الأخيرة.

 

 

تنشيط قطاع السياحة:
ظلت البرازيل -بما تمتلكه من طاقات طبيعية نادرة ومذهلة- مؤهلةً وبقوة لاجتذاب أفواج سياحية كبيرة، وشهدت البرازيل في الفترة السابقة نموًّا ملحوظًا في هذا المجال، وابتكرت نوعًا خاصًّا من السياحة يُعرف بسياحة "المهرجانات"؛ فهي تمتلك تراثًا شعبيًّا شديد الخصوصية، ونجحت في الترويج لخصوصياتها، كما نجحت في استقبال 5 ملايين سائح سنويًّا، وهو ما ساهم في إنعاش الاقتصاد وتحقيق المزيد من النمو.

 

الطرق المباشرة لحل مشكلة الفقر (الإعانات الاجتماعية):
تميز البرنامج الإصلاحي للرئيس "لولا" بخطة الإعانات الاجتماعية المباشرة، وبدأ برنامج الدعم المباشر منذ منتصف التسعينيات، أي في عهد "كاردوسو" قبل وصول "لولا" للحكم، ولكنه استمر في متابعة هذا البرنامج، ويعود له الفضل في توسيع نطاق المنفعة من هذا المشروع، وضخ طاقة أكبر وأموال أكثر فيه. وكان إجمالي الإنفاق على البرنامج يصل إلى 0.5٪ من إجمالي الناتج المحلي بتكلفة تتراوح بين 6 و9 مليار دولار. ويقوم البرنامج على أساس إعطاء معونات مالية للأسر الفقيرة بقصد رفع مستواها وتحسين معيشتها، على أساس أن تُعَرَّف الأسر الفقيرة بأنها الأسرة التي يقل دخلها عن 28 دولارًا شهريًّا. وتربط هذه المعونات بشروط صارمة تشمل: التزام الأسرة بإرسال أطفالها للتعليم، والالتزام بالحصول على الأمصال واللقاحات للأطفال بشكل منتظم. وحقق هذا البرنامج نتائج متميزة خلال العقد الماضي، فقد وصل عدد المستفيدين إلى نحو 11 مليون أسرة، وهو ما يعني 64 مليون شخص بما يعادل حوالي 33 بالمائة من الشعب البرازيلي.

 

ويمكن القول -حسب الدراسة- أن برامج "لولا" لم تقضِ على الفقر تمامًا، ولكنها حركت ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى منطقة "الطبقة الوسطى الجديدة"، حيث تقول مؤسسة "سيتيليم" -المتخصصة في أبحاث المستهلكين- بأنه صعد أكثر من 23 مليون شخص من الطبقتين (د)، (و) إلى الطبقة (ج)، وهى الطبقة التي يتراوح دخلها من 457 إلى 753 دولارًا شهريًّا.

 

التوجه نحو التكتلات الاقتصادية:
لم تكتفِ البرازيل بالعمل على استخدام السياسات الاقتصادية الداخلية للنهوض بالاقتصاد البرازيلي، وإنما أيضًا خَطَتْ خطوات متميزة على مستوى السياسات الاقتصادية الخارجية، واعتمدت على منظمة "الميروكسور"، وهى بمثابة السوق المشتركة لدول الجنوب، وتشكلت باعتبارها اتفاقية للتجارة الإقليمية بين كل من: البرازيل، والأرجنتين، وباراجواي، وأوروجواي، وذلك في 1991م، وبعضوية غير كاملة لفنزويلا، وبوليفيا. وتعد اليوم رابع أكبر قوة اقتصادية في العالم. وشكلت البرازيل مع روسيا والصين والهند مجموعة (البريكس) سنة 2009م، ثم انضمت لهم جنوب إفريقيا في 2010م، وهو تجمع لخمس دول تعد صاحبة أكبر اقتصاديات على مستوى الدول النامية، حيث يعادل الناتج الإجمالي المحلى لتلك الدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة.

 

يمكن القول أخيرًا بأن إتباع سياسات التقشف أدى إلى استعادة الثقة في الاقتصاد البرازيلي، ومن ثَم زيادة الاستثمارات والإنتاج، وتشجيع الصناعة والزراعة والسياحة، وهو ما أدى لاتساع فرص العمل وزيادة الدخل للبرازيليين. ومن جهة أخرى ساعدت برامج الإعانة الاجتماعية بشكل مباشر على الرفع من مستوى الدخل وتحسن المستوى المعيشي للطبقات الفقيرة، ومع تحسين دخلهم أصبحت هذه الطبقات تمثل قوة شرائية كبيرة ساعدت في ازدهار المشروعات الإنتاجية الوطنية، وظهر ذلك بوضوح خلال فترة الأزمة العالمية في 2008م، حيث كانت البرازيل أقل دول العالم تأثرًا بالأزمة، وحققت آنذاك نموًّا بلغ 5.1 بالمائة.

 

ترجمة النجاح الاقتصادي إلى مكاسب سياسية
مع وصول الرئيس السابق "لولا" إلى الحكم في 2003م، لم يقتصر برنامجه الرئاسي على إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد فقط، بل أيضًا كان له برنامج شديد الطموح فيما يخص السياسة الخارجية، واستخدم "لولا" ببراعة شديدة النجاحات الاقتصادية التي استطاع تحقيقها في فترة رئاسته الأولى للحصول على مكاسب في مسار السياسة الخارجية. ومن جهة أخرى، وجه سياسته الخارجية النشيطة لتحقيق مكاسب اقتصادية جديدة، وهكذا بالتوازي. وكان برنامج "لولا" للسياسة الخارجية يقوم على أساس القيام بعمل دبلوماسي نشيط، ليس فقط على المستوى الإقليمي داخل قارة أمريكا الجنوبية، ولكن على المستوى الدولي، ويقوم على أساس احترام البرازيل للسيادة الوطنية للدول، والحفاظ على علاقات تتسم بالسلمية مع كافة دول العالم، بل وأيضًا مع طرفي العداء، بمعنى أن البرازيل التزمت بعلاقات ودية جدًّا مع الولايات المتحدة، وكذلك مع إيران، على الرغم من الصراع الدائر بين الدولتين، وشهدت فترة رئاسة "لولا" تطورًا ملحوظًا في العلاقات البرازيلية الإيرانية، حيث استطاعت الدبلوماسية البرازيلية أن تلعب هذا الدور ببراعة كبيرة، والحفاظ على مسافات متساوية مع جميع الفرقاء، ولكن مع الاحتفاظ بدور فعال، وليس مجرد التواجد على هامش المشهد الدولي.

 

وأصبحت البرازيل في السنوات القليلة الماضية، أحد الدول المقرِضة للبنك الدولي بعد أن كانت مدينةً له. وفي مشهد آخر، وبعد تحقيق البرازيل لنموها الاقتصادي الكبير، والذي تزامن مع التدهور الحاد الذي أصاب دول الاتحاد الأوروبي؛ نجد البرازيل تقوم بشراء السندات الحكومية البرتغالية في محاولة منها لمساعدتها. وصرح "لولا" قبيل خروجه من الرئاسة بدعمه لفقراء أوروبا، ورفضه فرض برامج التقشف عليهم، وسعى بذلك لكسب دعم دولي له في قضية الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن باعتباره قطبًا اقتصاديًّا وسياسيًّا دوليًّا صاعدًا.
الدروس المستفادة من تجربة "لولا" الاقتصادية في البرازيل

 

استعرضت الدراسة عددًا من الدروس المستقاة من تجربة الرئيس "لولا" الاقتصادية في البرازيل، ومن بين تلك الدروس نذكر:
أولاً: ضرورة توفر الرؤية الواضحة، والإرادة السياسية القوية، والصدق والشفافية في التعامل مع الجماهير؛ حيث تُرجمت الرؤية إلى برنامج عمل يتشكل من مجموعة من السياسات التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف. وقد واجهت "لولا" صعوبات كبيرة في بداية فترته الأولى، وكان أهمها ضرورة التزامه ببرنامج التقشف، لكن الدرس الحقيقي المستفاد من هذا الموقف هو أن صدقه وإعلانه بكل شجاعة لشعبه أنه لا مفر من الالتزام بهذا البرنامج للخروج من الأزمة الاقتصادية، وتوجهه بشكل مباشر إلى الشعب ليطلب دعمه في تنفيذ برنامجه الاقتصادي؛ هو ما كتب له النجاح. وعلى النقيض فقد اتبعت الحكومات المصرية المتعاقبة بعد الثورة أسلوب المغالاة في إعطاء الوعود بتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال اتخاذ إجراءات فورية مثل: رفع الحد الأدنى للأجور، والالتزام بتعيينات حكومية على نطاق واسع، وغيرها من السياسات التي لم تُتخذ في إطار رؤية شاملة وبرنامج مدروس للنهوض بالاقتصاد المصري، بل لم تكن أكثر من مسكنات هدفها الأول والأخير هو تهدئة الشارع المصري وكسب رضائه، ولم يمتلك أي من المسئولين في السلطة شجاعة الحديث بصدق عن حقيقة الممكن والمتاح تقديمه لتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفقر، وغيرها من المشكلات العُضال التي يعانى منها المجتمع المصري. وترى الدراسة أنه كان من الأجدر أن تُعالج تلك المشاكل وَفقًا لبرنامج محدد، وليس بالطريقة التي تمت لكسب تأييد شعبي مؤقت.

 

ثانيًا: ما تحقق من إنجاز اقتصادي كبير على أرض الواقع في البرازيل، لم يكن ليتم في غياب ذلك المناخ الديمقراطي الراسخ، ولم يكن للرئيس "لولا" أن يحقق هذا التقدم الاقتصادي في ظل غياب الديمقراطية أو حتى في أثناء سنوات التحول الديمقراطي الأولى. وتَخلص الدراسة إلى أنه لا ينبغي التصور أن أي رئيس أو حكومة قادمة في مصر، يمكن أن تمتلك عصًا سحرية لتحقيق النمو الاقتصادي الفوري وفي الوقت نفسه إتمام عملية الانتقال الديمقراطي.

 

ثالثًا: تُقدم التجربة البرازيلية تصورًا عن حل المشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والفقر، يرتكز على مراعاة حقوق الطبقات الغنية، ليس فقط باعتبارهم جزءًا من مواطني الدولة لهم كافة الحقوق، وإنما أيضًا من باب أن حماية حقوق المستثمرين ورجال الأعمال المحليين والأجانب، يؤدي إلى انتعاش الأسواق وزيادة فرص العمل، وهو ما يصب في النهاية لصالح النمو الاقتصادي بشكل عام، وتحسين حالة الطبقات الفقيرة بشكل خاص، مع التأكيد أنه لا يمكن إغفال ضرورة وجود برامج للإعانة الاجتماعية إلى جانب قرارات مباشرة من الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور؛ لضمان ألا يصب النمو الاقتصادي فقط في مصلحة الأغنياء، ومن ثَم يؤدي إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء كما حدث في معظم دول العالم منذ التسعينيات؛ حيث ظهرت وانتشرت "الأفكار الليبرالية الجديدة" التي قدمتها "مدرسة شيكاغو"، والتي تبنتها العديد من دول العالم الثالث، وعلى أساسها مصر التي تبنت منهج "الخصخصة" وسياسات السوق الحر، وفي النهاية عاشت مصر خلال العَقدين الماضيين حالة من تآكل الطبقة الوسطى، ونزوح الملايين إلى مرتبة الطبقة الفقيرة، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء بدرجة مستفزة، حتى أصبحت العدالة الاجتماعية والحصول على العيشة الكريمة أحد مطالب ثورة يناير. والمهم هنا في مصر -حسب الدراسة- هو عدم الوقوع في خطأ الانقلاب التام إلى النقيض، واللجوء إلى تَكرار أخطاء التأميم، والردة عن اقتصاديات السوق الحر برمته، وإنما ترشيد تلك السياسات وتنقيتها من شبهة الفساد.

 

رابعًا: في درس آخر يتعلق ببرامج الإعانات الاجتماعية، قد قدم برنامج (بولسا فاميليا) تجربة تستحق الدراسة والتَكرار، فهو لم يكن برنامج لإعطاء أقساط مالية لمساعدة الفقراء فقط، وإنما كان برنامجًا مشروطًا؛ حيث إن المواطن لا يحصل على هذه الإعانة في حالة عدم التزامه بإرسال أولاده إلى المدارس، أو عدم التزامه بإعطائهم الأمصال الوقائية، وكان الهدف من البرنامج هو مساعدة الأسر حتى تستطيع أن تترك الأطفال يتعلمون ولا يجبروهم على ترك الدراسة من أجل العمل؛ بهدف تحويل مسار أبناء الفقراء حتى لا يكون الفقر والمرض وراثيًّا وطبقيًّا.

 

وتتساءل الدراسة: كم تحتاج مصر إلى مثل هذا النموذج من برامج الإعانة المشروطة! فعلى الرغم من عدم وجود إعانات حكومية تذكر في العهد السابق، إلا أنه لا يمكن إغفال دور الجمعيات الخيرية الإسلامية والمسيحية والشبابية التي انتشرت في مصر انتشارًا بالغًا، حتى إن هناك قطاعًا لا بأس به من المصريين يحصلون على طعامهم ودوائهم وملبسهم بالكامل دون أدنى عمل أو وظيفة، من خلال إعانات شبه ثابتة من هذه الجمعيات، لكن ظلت هذه الطبقات تورث الفقر والمرض والجهل من جيل لآخر، بل وتتسع بسبب إقبالها الكبير على الإنجاب.

 

خامسًا: الاهتمام بتطوير الإنتاج المحلي، سواء الزراعي أو الصناعي، وفي الوقت نفسه إتباع سياسات اقتصادية تكون من شأنها رفع القدرة الشرائية المحلية، لحماية الاقتصاد الوطني من أن يكون عرضة للأزمات الاقتصادية العالمية والتي تعصف بالاقتصاد العالمي اليوم. وتقول الدراسة بأن المجتمع المصري -الذي يقترب في عدد سكانه من 90 مليون نسمة- من الممكن أن يمثل طاقة إنتاجية كبيرة ومتنوعة، بالإضافة إلى كونه سوقًا واسعًا، ولا يمكن إغفال أن هذا هو ما جعل البرازيل تكون أقل دول العالم تأثرًا بالأزمة المالية العالمية الأخيرة، والتي وصلت ذروتها في 2008م.

 

سادسًا: في درس آخر، ربما يكون أقرب إلى السياسة الخارجية، يتعلق بضرورة الوقوف على حقيقة قوة الدولة اقتصاديًّا، بمعنى عدم الدخول في صراعات خارجية قد تكلف الدولة مزيدًا من الأعباء في مرحلة النهوض؛ فمن المهم جدًّا في البداية أن تصب كافة الجهود على حل مشكلات الداخل، ثم في وقت لاحق تستخدم هذه النجاحات الاقتصادية لمزيد من النجاح في السياسة الخارجية. ولعل فنزويلا قدمت نموذجًا على نقيض نموذج البرازيل، على الرغم من انتماء كل من الرئيسين "لولا" و"شافيز" إلى التيار اللاتيني اليساري، بما يحمله من سخط على سياسة الولايات المتحدة في القارة الجنوبية، إلا أن "لولا" عرف قدراته وإمكانياته وسعى لتحسين أوضاع شعبه، وهذا لم يمنعه في النهاية من اتخاذ مواقف مخالفة للمصالح الأمريكية، مثل: حملته الكبيرة لجمع أكبر تأييد لقضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو حتى مساعيه الدبلوماسية الثنائية مع تركيا لإيجاد مخرج لإيران من أزمة ملفها النووي.

 

سابعًا: وأخيرًا، يجدر الإشارة إلى أن التجربة البرازيلية لم تكن فقط تجربة "لولا دا سيلفا"، أو سلفه "كاردوسو"، أو خليفته "ديلما روسيف"، بل هي تجربة نجاح ما كان لها أن تَحدث لو لم تتوفر لها إرادة شعبية حقيقية ووعي جماهيري لأهمية النهوض، فالشعب البرازيلي بطبقاته الفقيرة هو مَن تحمل أعباء سياسات التقشف حتى تعافى الاقتصاد البرازيلي، وهو الذي يُنتِج ويُصدِّر رغم وجود عصابات المخدرات، كما أنه هو من استطاع تقديم عروض ناجحة وقوية وصادقة، مكنت البرازيل من الحصول على تنظيم أهم حدثين رياضيين في العالم، وهما "بطولة كأس العالم" في 2014م بعد منافسة قوية مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى "الألعاب الأوليمبية" في 2016م، والتي فازت بها "ريو دي جانيرو" بعد منافسة قوية مع "مدريد"؛ لتكون بذلك أول دولة في أمريكا الجنوبية تقام بها "الأولمبياد" في التاريخ.

 

وتتساءل الدراسة من جديد: كم تحتاج مصر اليوم -بعد ثورة أسقطت نظامًا سياسيًّا أفسد مصر ماليًّا واقتصاديًّا فسادًا بالغًا- إلى مثل هذه الرُّوح والعزيمة الشعبية للخروج من عثرتها الاقتصادية!