9 ذو القعدة 1433

السؤال

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندي استشارة بسيطة، يا شيخ!.. أيُّهما أولى: أن يكون همُّ الشَّخص وشغله الشَّاغل همَّ الأمَّة الإسلاميَّة، ورفعتها، والدِّفاع عنها، ولو أدَّى الأمر إلى التَّقصير في صلة رحمه.. أو العكس، بحيث يكون همُّ الشَّخص وشغله الشَّاغل، هو الأقارب والأسرة، وسبل التَّرابط بين أفراد الأسرة، والإصلاح فيما بينهم، ويكون مقصِّراً في مصلحة الأمَّة الإسلاميَّة؟.
جزاكم الله خيراً..

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه...
ألخِّصُ لك أخي الفاضل جواب استشارتك في النِّقاط الآتية:
أولاً: أشكرك على ثقتك، بموقع المسلم، ومتابعتك له، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا أهلاًّ لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق..آمين.
ثانياً: تذكُر أخي أنَّك في حيرة من أمرك: هل تهتم بأمور المسلمين العامَّة، وتهمل أمورك الخاصَّة؟. أم تهمل الأمور العامَّة، وتهتم بأمور الخاصَّة؟. تأمَّل معي هذا الحديث النَّبوىَّ الشَّريف، كي نستخرج منه حلاً لحيرتك، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟. قال: الصَّلاة على وقتها. قلت ثمَّ أيٌّ؟. قال: برُّ الوالدين. قلت: ثمَّ أيٌّ؟. قال: الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري. انظر إلى ترتيبه صلَّى الله عليه وسلَّم للأولويات، وتعليمه لأصحابه لهذا الفقه العظيم، فأقترح عليك أن تنظِّم وقتك، وأن تضع أولويات لأعمالك، وقدِّم الأهمَّ فالأهمَّ، وكن إنساناً متزناً، وسطاً في تعاملك، واعياً في تصرُّفك، قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من اشتغل بغير المهمِّ ضيَّع الأهمَّ.
ثالثاً: عرَّف شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله العبادة فقال: "العبادة اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظَّاهرة والباطنة كالخوف، والخشية، والتَّوكل، والصَّلاة، والزَّكاة، والصِّيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام". فالعمل الصَّالح كلُّه داخل في العبادة، وأفضله ما تعدَّى نفعه، وكان في وقته المناسب، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وفي بعض الظُّروف والأحوال يكون أفضل للعبد أن يتقرَّب بأعمال الخير، وإغاثة الملهوف من أن يقوم اللَّيل ويصلِّي النَّوافل.
قال ابن القيم رحمه الله: والأفضل في كلِّ وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، وصاحب التَّعبُّد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٍ بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبُّع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبُّده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبوديَّة، كلَّما رفعت له منزلة، عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتَّى تلوح له منزلة أخرى.
رابعاً: رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو قدوتنا وأسوتنا، كان له أهل وقرابة، وصاحب الدَّعوة والرِّسالة، ووليُّ أمر المسلمين العام، ومع هذا كلِّه قام حقَّ القيام بذلك، ولم يقصِّر في شيء منها، بل كان مثالاً يحتذى، وقدوة ترتجى، ومنهجاً يسلك، فهو في بيته زوج لطيف خدوم، يكنس البيت مع أهله، ويخيط ثوبه، ويخسف نعله، ويكون في مهنة أهله كما ذكرت لنا ذلك أمُّنا عائشة رضي الله عنها، وهو في المسجد إمامٌ وخطيب ومعلِّم وداعية إلى الخير، وفي ساحات الجهاد والنِّزال مقدام تهابه الأعداء، يقول عليٌّ رضي الله عنه في وصف إقدامه: " كنَّا إذا حمي الوطيس اتقينا العدوَّ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو أقربنا إلى العدوِّ " فحاوِّل أن تحزم أمرك، وتقدِّم في أعمالك الأولى فالأولى، واستعن بالله في قضاء أمورك كلِّها، وتوجَّه إليه بالدُّعاء بالتَّسهيل والتَّيسير، فهو نعم المولى ونعم النَّصير.
ختاماً: أقول لك أخي: لا شكَّ ولا ريب أنَّ صلة الرَّحم، والقيام على رعاية الأهل، والسِّعيَ في إصلاح ذات البين، من أقرب القربات، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 114]. وكذلك الاهتمام بأمر المسلمين عامَّة، والدَّعوة إلى الله، من أعظم الأعمال الصَّالحة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. فحاول الجمع بين الحسنيين، والتَّوفيق بين الاثنتين، فإنَّه في أغلب الأحيان، لا تعارض يحدث بينهما، فإن تعارضا، وغُلبت الرُّوم، ولم تستطع القيام إلا بأحدهما، فقدِّم الأقربين، فأبو طلحة رضي الله عنه عندما تبرَّع ببستانه لعامَّة المسلمين، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (اجعله لفقراء أقاربك) رواه البخاري، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (كفى المرء إثماً أن يضيِّع من يقوت) رواه أحمد، وأبو داود.
مع العلم أنَّه تقدَّم المصلحة العامَّة على المصلحة الخاصَّة في وقت المحن والشَّدائد والنَّوازل والمصائب العامَّة، ومن أفضل المواقف في السِّيرة العطرة، موقفه صلَّى الله عليه وسلَّم في صلح الحديبية، حينما جاءه وفد من قريش لعمل الصُّلح والهدنة، ورضي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشروط قريش المجحفة من أمثال من أسلم من المشركين فليرجع إليهم، ومن كفر من المسلمين فلا يرجع إلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فضَّل المصلحة العامَّة للدَّعوة على المصلحة الخاصَّة، فكان هذا الصُّلح فتحاً كما سمَّاه الله تبارك وتعالى في سورة الفتح، وعمر رضي الله عنه أوقف حدَّ السَّرقة عام الرَّمادة، بسبب الجوع والمسغبة التي ألمت بالمدينة المنورة، فقدَّم المصلحة العامَّة على المصلحة الخاصَّة بسبب النَّازلة. فالله لا يكلِّف نفساً إلا طاقتها وقدرتها، فابذل ما تستطيع في خدمة دينك، وأمَّتك، وأهلك، وقرابتك، وأخلص العمل في كلِّ خطواتك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.