12 ربيع الأول 1433

السؤال

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي بارك الله فيكم، ونفع بكم: توفيت والدتي رحمها الله، وتحمَّلتُ مسؤولية إخوتي، منذ كان عمري 15 سنة، كوني الابنة الكبرى، فاعْتَدْتُ على أن أكون مسئولة عن إخوتي, أنا الآن في سنِّ الزَّواج، وأصبحت في صراع مع نفسي، لا أدري هل أقدم الزَّواج على دراستي، ورعاية إخوتي أم العكس؟؟. علماً أنَّ والدي غير متزوج، وإخوتي الآن قد كبروا، فأصغرهم في الحادية عشرة من عمره، ولكنِّي في نفس الوقت لا أستطيع تركهم، فلابد من متابعتهم وتوجيههم، أحياناً أقول إنِّي في بداية عمري، ولا بأس من تأجيل الزَّواج إلى بعد إنهاء المرحلة الجامعية، ولا زلت متردِّدة بين البقاء لرعاية والدي وإخوتي، أو الزَّواج مبكراً !! أشيروا علي بارك الله فيكم.

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه...
ألخِّصُ لك - أختي الفاضلة - جواب استشارتك في النِّقاط الآتية:
أولاً: أشكركِ على ثقتك، بموقع المسلم، ومتابعتك له، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا أهلاًّ لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق..آمين.
ثانياً: لا نشعر بقيمة، وأهمية من حولنا، إلا حين نفقدهم، وأكبر خسارة يشعر بها المرء، هي فقدان الأمِّ؛ لأنَّها هي التي تكسب الحياة معنى، وهي الحصن الذي نختبئ خلف أسواره؛ لنحتمي من كل ما يخيفنا، حتَّى من هواجسنا، ولا يمكن لأحد أن يتحكَّم بالأقدار، فالبعض قدَّر الله عليه، أن يفقد أمَّه، صغيراً كان أم كبيراً، وتذكَّري أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ كلَّ شيءٍ مقدر، قبل خلق السَّموات والأرض بخمسين ألف سنة، اجتهدي في التَّأمل في مضامين القضاء والقدر .وتذكَّري أنَّ هناك من هم أشدُّ منك ظروفاً، وأنَّ لديك من النِّعم ما يستوجب الشُّكر، وأنَّ المؤمن كلُّ أمره له خير .واحمدي الله على ما مَنَّ عليك من نعمة الاهتمام بإخوانك ووالدك، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر.
ثالثاً: لا تنشغلي كثيراً في التَّفكير بذكريات الماضي، فما مضى فات، وعليك بالترَّكيز في الوقت الحالي، وفكِّري فيما تستطيعين القيام به، ولا تحمِّلي نفسك أكثر من طاقتها .إذا جاءك الزُّوج المناسب فعليك بالزَّواج، ويمكن أن تشترطي، أن تكوني قريبة من الأهل .
رابعاً: عليك أن تدركي أن الله هو الحافظ، وهو المصرف للأمور، وبالتَّالي فقلقك على إخوانكِ، ينبغي ألا يكون متجاوزاً للحدود المعقولة .تعاوني مع إخوانك في شؤونكم، ولا تتحملي المسؤوليَّة وحدك، فلكلٍّ مسؤوليته في جانب من الجوانب، وعليك أن تقومي بدورك، وهم يقومون بدورهم .واستعيني بالله، وتوكلي عليه، وأكثري من دعائه، وطلب التَّوفيق منه .
خامساً: والدكم سيتزوج مستقبلاً لا محالة، ولذلك أقترح أن تسعوا في زواج أبيكم، من امرأة تخاف الله، وتقدر ظروفكم، ويا حبَّذا لو كان من خالتكم، أخت أمِّكم، إن وجدت، لأنَّ الخالة بمنزلة الأمِّ، فعن البراء بن عازب قال: صالح النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الحديبية، على ثلاثة أشياء: على أنَّ من أتاه من المشركين ردَّه إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، فلما دخلها، ومضى الأجل. خرج فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم!! يا عم!! فتناولها علي، فأخذ بيدها فاختصم فيها: علي، وزيد، وجعفر، قال علي: أنا أخذتها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» . وقال لعلي: «أنت مني، وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي» . وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» متفق عليه. فإذا كانت خالتكم موجودة، فالحلُّ الأمثل لمشكلتكم، هو زواج والدكم منها، وتحلُّ محلَّ أمِّكم، وتعوضُكم شيئاً من حنان أمِّكم، وعطفها، ورعايتها. وإن لم تكن موجودة، فابحثوا عن امرأة صالحة، ومناسبة، ترعى شؤون إخوتك، تحت إشراف والدك، والله الموفق.
سادساً: ليكن طلب العلم، ومواصلة الدِّراسة الجامعيَّة، هو همُّك الوحيد، وشغلك الشَّاغل، وهدفك المنشود، فلا مساومة، ولا مجادلة، ولا أنصاف حلول، مع العلم والتَّعليم، لأنَّ عدواً متعلِّماً خيرٌ وأفضلُ من صديقٍ جاهلٍ، وقد قال أحد العلماء:
لا تسيء بالعلم ظناً يا فتى إنَّ سوء الظنِّ بالعلم عَطَب
وهذا حق، فإنَّنا قد جرَّبنا ورأينا، أنَّ كلَّ من أساء ظنَّاً بالعلم، وتخلَّف عن سبيل حملة العلم، ودرس، ثمَّ ترك، ولم يستمر في العلم؛ إلا كان أمره إلى غير كمال، فالعلم به كمال الرُّوح، وبه كمال الاعتقاد، وبه كمال العمل، وبه كمال انشراح الصَّدر، وبه كمال رؤية الأشياء، وبه كمال الأمل في ألا يتصرف شيئاً إلا على وصف الشَّريعة. لهذا أوصيك ونفسي، بالمحافظة على مواصلة تعليمك الجامعي، مهمَّا عصفت بك ظروف الحياة، وتلوَّعْت من غُصصها وأنكادها، فما دمْت في طريق العلم، فأنت على خير عظيم.
في ختام إجابتي: أتوجه إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يغفر لوالدتك، ويرحمها رحمة واسعة، وأن يجمعكم معها في الفردوس الأعلى من الجنَّة، إنَّه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدَّعوات.