الوعي في فكر نبي الإسلام
1 شعبان 1432
د. خالد رُوشه

الوعي كلمة تعبر عن حالة عقلية ونفسية يكون فيها المرء بحالة إدراك لذاته ولمحيطة الخارجي , ويتعلق بذلك إدراك الأحوال المعاصرة، و العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على العالم ، والأفكار المنتشرة ، وتصور السبل للعيش من خلال ذلك وكيفية تحقيق مشروعه ورسالته في ضوء كل تلك المعطيات .

 

والفكر الإسلامي عبر ثوابته وأصوله يتصف بهذا التعريف للوعي ويحيط به ويدركه , من خلال معرفة للذات البشرية تمام المعرفة بقدراتها وصفات قوتها وضعفها , وعلم التكوين البشري من حوله ومشكلات البشر , والقوى الفاعلة والمؤثرة في مواقع القرار في العالم الذي يحيط به , واستخدم كل ذلك في البحث عن أفضل السبل لرعاية الأمة الإسلامية ومصالحها ودفع المفاسد والأضرار عنها , وبناء حاضرها وترتيب مستقبلها
 

 

وعلى الرغم من صعوبة الأجواء التي نشأت فيها دعوة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وقسوتها , إلا أنه كان مدركا لكل ما يحيط بها , وعالما بالمرحلية التي يمر بها في كل خطوة من خطواته , فلم نره يوما مغامرا طائشا يندم على سلوك تعجل فيه , ولم نره يوما مستكينا مترددا حائرا يطمع أعداؤه في إفنائه والقضاء عليه , بل كان محركا للأحداث أجمعها , مستفيدا من أخطاء أعدائه , صاحب تصورات جديدة في الإدارة والتنظيم والتخطيط .
 
وعلى الرغم من قلة عدد رجاله الذين بدأ بهم دعوته , وضآلت عدتهم مقارنة بعدد عدوه وعدته , إلا أنه لم يضع نفسه يوما موضع المباغَت في موقف من المواقف , بل كان هو الذي يمسك بأطراف الواقع من حوله وبني منظومة الأمن والنصر لهذه القلة من أصحابه .
لقد كان حليما حكيما , يكثر الاستماع والتفهم والإدراك , ذكيا عبقريا , يحسن التفسير والاستيعاب , فيضم المعلومة الصغيرة بجانب أختها حتى تتضح له معالم خفية وتستبين له رؤى مستترة ..

 

·       وعي القيادة
الوعي صفة لازمة لكل قائد , والقائد فاقد الوعي دوما عرضة للمؤامرات والانقلابات , وبلاده عرضة للاحتلال والاستعمار والاستغلال , وكم سمعنا بقادة أفنوا جيوشهم , ودخلوا حروبا خاسرة , أنهت وجودهم وأضعفت أممهم , وكم سمعنا بقادة تخاذلوا وجبنوا عن حروب لو ثبتوا فيها لكان النصر فيها حليفا لهم ..
إن القيادة فن لا يحسنه كل أحد , إنما هي خليط من الموهبة الفطرية والصفات الخاصة مع العلم والتجربة والمثابرة والقدرة , ثم يُصهر كل ذلك في بوتقة يحسن هنا أن نسميها بوتقة ( الوعي ) بالذات وبما يحيط , إنها القدرة على التأثير في الواقع والناس , وتوجيه المقدور والإمكانات لنيل أعلى ما يمكن من النصر والإنجاز ..
لقد عبر التاريخ الإسلامي عن وعي رسول الإسلام بدوره كقائد ووعي خلفائه الراشديين المهديين من بعده ووعي النبي صلى الله عليه وسلم ههنا, يتمثل في محاور كثيرة من أهمها وضوح الهدف في كل خطوة من خطواته , فصاحب الرسالة , يحمل أمانة , ولم يكن ليفرط في ذلك في لحظة من اللحظات , بل قرأ على الناس آيات أنزلت عليه في بداية دعوته تقول : " ياأيها المدثر , قم فأنذر , وربك فكبر وثيابك فطهر, والرجز فاهجر " وهي تعني نداء خاصا له أن : قم فمارس ما أمرت به من رسالتك , وادع إلى ربك وكبر مقامه , وطهر قلبك وباطنك , ثم طهر ظاهرك وجسدك من كل خبث ونجس من الدنيا ومتاعها وشهواتها , واهجر كل عبودية من دون ربك ..
 كما لم يكن قط يتماهى مع دعوات التنازل فيما يخص العقيدة والأهداف , حتى عندما يكون في ذلك التنازل مصلحة مظنونة أو بريق مدعو , فالعقيدة هي محور دعوته وتوحيد العبودية لربه هو مقتضى رسالته , ولذلك لما دعاه أعداؤه القرشيون أن يعبدوا الله ربه عاما بشرط أن يعبد هو ما يدعون من آلهة وأوثان عاما آخر , قرأ عليهم ما أنزل عليه من آي القرآن : " قل يا أيها الكافرون , لا أعبد ما تعبدون , ولا أنتم عابدون ماأعبد ولا أنا عابد ماعبدتم ولا أنتم عابدون ماأعبد , لكم دينكم ولي دين ".
  كذلك الوعي فيما يخص المعرفة الدقيقة والشاملة بقوة فريقه الذاتية , من حيث العدد والعدة , والإمكانات والظروف , ومدى طاقتهم وقدراتهم , حتى لا يبنى خطته في لحظة من اللحظات على معطيات خاطئة أو ناقصة فيتعرض للفشل .
كما وعى الأخطارالتي ينتظر أن تواجهه , والعقبات التي ربما تعترض سبيله ومن ثم أعد لها ما يناسبها من خطط ..
 كما يراعي ما يمكننا أن نسميه المرونة , والخطة البديلة , تحسبا لاختلاف الظروف وحتى لا يصدم بالمواقف ويفاجأ بالعقبات , وامتاز بتمكين فكرة المرحلية في تحقيق الأهداف , فما هو مطلوب حتما قد لا يكون قد حضر وقته , فمن الممكن تأجيل بعض الأهداف لضرورة الحصول على هدف عاجل قد وجب .

 

 ·       هجرة إلى الحبشة ثم هجرة للمدينة .. نموذج ليقظة الوعي ..
تمثل الهجرة للحبشة نقطة لامعة جدا لأعلى درجات الوعى عند صاحب الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم , فعندما اشتد التضييق والإيذاء على أصحابه من أعدائهم في بداية دعوته , وهم قلة مستضعفون , فخشي عليهم وعلى الدعوة الوليدة  , ولم يكن السبب التخلص من الإيذاء فحسب ولكن الأمر كان أبعد من ذلك وأعمق , وإلا لهاجر الضعفاء والعبيد , كأمثال بلال وخباب وصهيب وعمار وغيرهم, ولكننا لو تأملنا في المهاجرين لوجدنا معظمهم من السادة من أبناء البيوت العريقة , ومعظمهم لم يكن يناله كثير تعذيب ولا ضرر مقارنة بما يحدث للمستضعفين , فالمهاجرون أبناء لسادة القوم مثل الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وأبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وأبي طالب بن عبد المطلب وسعيد بن العاص , وهؤلاء هم سادة قريش وصفوتها , ولهذا أوجعتهم وآلمتهم هذه الهجرة ابتداء , ومن ثم كان اختيار المهاجرين وفق قاعدة معلومة ومحددة سلفا وليس عملا عشوائيا بحال..
 وحرص صلى الله عليه وسلم ان يشارك بأبنائه في الهجرة , فالقائد لا يلقى بأتباعه في الأزمة ويخرج منها سالما , بل سافرت معهم ابنته رقية وزوجها عثمان بن عفان .

        قد كان الهدف الأول من هجرة الحبشة هو إقامة قاعدة أخرى للدعوة في مكان غير مكة ,تحسبا لاحتمالية تعرض القاعدة الأولى له في مكة لخطر الاجتياح أوالإبادة .

ولهذا لم يرجع هذا الوفد بعد الهجرة للمدينة مباشرة , لأن الخطر كان لايزال قائما , وإنما رجعوا بعدما تم صلح الحديبية , وبعد أن اطمأن القائد على دولته , وأنها ارتبطت بصلح آمن مع اكبر أعدائها , وبعد تنامي قوتهم , فابتعد عنهم خطر الإبادة الجماعية فعندئذ عاد الوفد .

 

وقد كان اختيار الحبشة كبديل لمكة لأسباب , أولا : البعد المكاني فالحبشة في قارة أخرى فمكة في آسيا , والحبشة في القرن الإفريقي , ويفصل بينهما البحر , أي إنها بعيدة تماما مكانيا عن مكة فلا سلطان لأهل مكة عليها ولا يستطيعون إجبار ملكها على ردهم , ثانيا : أهل الحبشة نصارى , والنصرانية الحقة أقرب إلى الإسلام من الشرك , أي إن هناك قاعدة مشتركة يمكن الالتقاء عندها , وأيضا لكونهم نصارى فهم لا يذهبون إلى مكة للحج فلا يمكن لأهل مكة أن ينالوا أحدا منهم بشر بسبب قبولهم لوجود المسلمين عندهم أو إيوائهم , وثالثا : الحبشة نظام ملكي , لا يعترف بالقبيلة ويعتقد في نفسه انه افضل من النظام القبلي وأرقى , ومن ثم لن يكون لأهل مكة التأثير عليه , وفي المقابل الجزيرة كلها نظام قبلي يخضع للنفوذ القبلي لأهل مكة , رابعا عدل النجاشي ملك الحبشة , وهو الأهم والذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقال لهم : " إنبأرض الحبشةملكالايظلمأحدعنده ، فالحقوا ببلادهحتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه"[1] , فالعدل هو أقصى ما تتمناه أية أقلية , فكان المكان مكان عدل بحق ولم يظلموا عند هذا الملك حتى عادوا .
كذلك مثلت هجرة المدينة قمة الوعي في اختيار الزمان والطريق والمعاون والاسلوب والسرية والإخفاء والتمويه مع الاحتفاظ بالمبادىء وأداء الأمانات والتوكل على الله " إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا "

 

 ·       وعي البناء ..
قد يتحدث المؤرخون كثيرا عن مراحل بناء الدول , وعناصر ذلك البناء , إلا إنهم غالبا ما يغفلون عن أهم عناصره وهو الإنسان , الإنسان الذي تقوم على أساسه الأمم وتنهار , وهوالركن الفاعل في أي حضارة تريد البقاء , وما من حضارة تهمل الإنسان إلا حملت في ذاتها مقدرات سقوطها وفشلها مهما تقدمت ..
وهذا العنصر هو مااختار صاحب الرسالة أن يبدأ به , لقد بنى الإنسان , وعلى أساسه بنى دولته , واختار أن يبدأ صناعة ذلك الإنسان من داخل مصنع قلبي نفسي وهو المسجد .
 فابتدأ ببناء المسجد كأول بناء في الدولة الإسلامية وأول عمل قام به المسلمون في المدينة , فهو المعبد ودار التعليم ودار الاستشفاء ودار المشاورة وإبداء الشكاوى وحل الأزمات وتقسيم الخصوصيات والماديات .

 

 * وعي في بناء لبنات المجتمع ..
كانت المدينة عند الهجرة قليلة الموارد , وبعد الهجرة وفد عليها أضعاف عدد سكانها ليقيموا مع أهلها بصورة دائمة..
        فكان لابد من بناء اجتماعي محكم لتلافي ما يتوقع من مشكلات , وكان لابد على القائد أن يعي هذا الأمر , ويضع حلا للمشكلة قبل حدوثها .
وبالفعل ابتكر صلى الله عليه وسلم نظاما اجتماعيا فذا ما سبق إليه , يحتوي تلك الأزمة الاقتصادية الاجتماعية , بل ويدعم البناء النفسي لعملية العقد الاجتماعي في دولته , هذا النظام الذي نقصده هو نظام ( المؤاخاة ) ..
 بهذا النظام لم يكن هناك أي مسلم لا يعرف له أخا , وقد ظهرت نجاحات عدها المؤمنون فضائل ربانية تدل على توفيق الله لهذا النظام , فكان المهاجري يسعى بجهده ألا يكلف أخاه فوق طاقته , فيعمل بكد وتعب وجد واجتهاد , كي لا يكون عالة على أخيه , وكان الأنصاري يسعى بكل جهده أن يحسن ضيافة أخيه , ويكرمه حتى ولو على حساب نفسه .
 لقد قامت حضارة الإسلام على جيل مثل هذا الجيل , الذي رفض الكسل والعجز , ورفض التبعية والتطفل والإحسان , وأقسم على الإيجابية في الفعل والأثر .
 وزاد عدد المهاجرين على عدد المؤمنين من أهل المدينة ( الأنصار ) فأكمل صلى الله عليه وسلم المؤاخاة بمؤاخاة المهاجرين مع بعضهم البعض , فيقول انس بن مالك " أنرسول الله صلى الله عليه وسلمآخىبينأبيعبيدةبن الجراح وبين طلحة "[2] وكلاهما مهاجري .
 وأدى هذا النظام الى تماسك المجتمع الإسلامي أمام كل الهجمات التي شنت عليهم وأرادت تفريق شملهم وتشتيت قوتهم وعلم المؤمنون أن أهم قوة يتطلبها المجتمع المؤمن بعد قوة الإيمان هي قوة الوحدة والإخاء .

 

 * وعي في تحقيق العدل ..
القضاء هو محور إصلاح العلاقات بين أفراد الأمة , ولسنا هنا نتحدث عن عدالة الإسلام كصفة من حميد صفاته , ولا كفريضة شرعية من فرائض شريعته , بل نتحدث عنه كركيزة أساسية من ركائز الحكم .
 قد وعى إليه صلى الله عليه وسلم جيدا ونفذه على أتم وجه , فجعل قيمة العدل قيمة لا يمكن التنازل عنها في بنائه للدولة , وخاصة أن الدولة منقسمة أصلا إلى فئتين أصحاب الأرض , والوافدين ,  و أية محاباة لطرف على طرف ستؤدي حتما إلى انهيار الدولة , والى تفجر صراع داخلي فيها وقد تصل إلى حرب طائفية ..
 والذي يعصم من ذلك كله هو إقامة العدل بين أبنائها , فلا جريمة ولا عقوبة بغير نص وعند وجود الجريمة فلابد من تطبيق القانون في غير تجاوز ولا محاباة لأي أحد كائنا من كان , ولا ترفع العقوبة إلا بطلب وعفو من المجني عليه , أو من أهله بعد موته , فلم يفتح باب للواسطة والمحسوبية المقيتة التي تهدم أركان الدولة  .

 

 وقد كان كثيرا ما يعلم أصحابه العدل ويقرأ لهم ما أمره ربه به في آيات قرآنه : "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون "  فكان عادلا مع الكبير والصغير والقريب والبعيد والضعيف والقوي .
ولم يسمح بالتربح من وظائف الدولة بغير ما فرض له من راتب , وقد حسم هذا الأمر وأنهاه ,  فيقول أبو حميد الساعدي رضي الله عنه  " استعملرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم ، يدعى ابن اللتبية ،فلماجاء حاسبه ، قال : هذا مالكم ,  وهذا هدية . فقال رسول الله r (فهلاجلستفي بيت أبيك وأمك ، حتى تأتيكهديتكإن كنت صادقا ) . ثم خطبنا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( أما بعد ،فإنيأستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله ، فيأتي فيقول : هذا مالكم وهذاهديةأهديت لي ،أفلاجلسفيبيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ، والله لا يأخذ أحد منكمشيئابغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحملبعيراله رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ) . ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه ، يقول : ( اللهم هل بلغت ) . بصر عيني وسمع أذني [3]
وكان يعلم أصحابه العدل مع كل الناس حتى العبيد فيقول "منضرب مملوكه سوطا ظلمااقتصمنهيوم القيامة " [4]
 
وكان العدل ملازما له  صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ، فهو يكره التميز على أصحابه , بل يحب العدل والمساواة معهم , وتحمل المشاق والمتاعب مثلهم , فيقول عبد الله بنمسعود رضي الله عنه : كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميليرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكانت اذا جاءت عقبة -دور- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : نحن نمشي عنك، قال : (ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الأجرمنكما) [5]

 

 
* وعى بنفسية الأفراد و مشكلاتهم ..
تعامل الفكر الإسلامي مع الأصحاب والأعداء من منطلق فهم عميق لشخصياتهم , فقد كلف مصعب بن عمير رضي الله عنه بحمل اللواء يوم يدر , فالراية كانت فخرا للعرب , فمن يحمل الراية يحمل ثقة قائد الجيش , ببسالته وشجاعته وإقدامه وقدرته على الصمود في احلك المواقف فحمل الراية شهادة تقدير له , فمصعب من قبيلة بني عبد الدار , وقبيلة مصعب عند تقسيم الوظائف منذ زمن طويل كانت مكلفة بحمل اللواء , ولا يحمله لقريش كلها في أي حرب من حروبها الا بنو عبد الدار , وأسلم مصعب , وقامت حرب تلو الأخرى , ولو لم يسلم مصعب لكان من حملة اللواء في جيش أهل مكة – أعداء الإسلام - وبالفعل كان الذي يحمل اللواء أبناء قبيلته , فأعطاه رسول الله اللواء كي لا يشعر أن الإسلام قد افقده مكانة كانت له في الجاهلية , ولا يشعر أن بني عمومته وهم حملة اللواء للجيش المقابل افضل منه , فهو مكرم مثلهم , ومقدم مثلهم , وحامل الواء مثلهم , ويفوقهم بالإيمان .
 ان هذه الرسالة التي قد لا يفقهها الا صاحبها, رسالة لا تصدر إلا ممن من خبر النفس البشرية واستوعب مسالكها وعلم إلى أي مدى توصل صاحبها .
 وفي يوم فتح مكة عاد صلى الله عليه وسلم ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل , وقد أمر أن يحبس العباس أبا سفيان بن حرب - ولم يكن قد اسلم - في مكان ضيق , ليرى الجيش كله , وذلك فيما يشبه العرض العسكري , وبالفعل كلما مرت قبيلة سال من هذه يا عباس فيخبره حتى خارت قواه , وعلم أنه مهزوم
 ولما أسلم أعز فرسان مكة خالد بن الوليد متأخرا , وكان فارسا مغوارا , و قائدا ذا حنكة وخبرة دهاء , وبعد ثلاثة اشهر من إسلامه جاءت غزوة مؤته , فأمره الرسول r ان يخرج في الجيش !
وكان عدد الجيش ثلاثة آلاف , والنية الخروج لقتال الروم احد اكبر قوتين عسكريتين في العالم في ذلك الوقت , وحدد الرسول قائدا لهم ولم يكن خالدا , بل كان زيدا بن حارثة , أحد الموالي الذين كانوا في مكة فهل يقبل خالد ذلك ؟ لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الاختبار كي يعلم جديته , وإخلاصه للإسلام رغم أن خالدا بشهادة الجميع انه افضل قائد عسكري عرفه التاريخ العربي ( فقد خاض مئة معركة لم يهزم في أحدها ) , هل يقبل ابن الوليد بن المغيرة احد اكبر سادات مكة أن يكون تابعا مأمورا وأميره هو من الموالي ؟!
 وقبل خالد , وحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيب القادة , فقال : إن قتل زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب , ولم يذكر خالدا أيضا قم قال : فإن قتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحه , احد الشعراء من الأنصار , انه اختبار شديد إن نجح فيه خالد , واشتد الاختبار فقال رسول الله فان قتل فليختر المسلمون منهم رجلا , انه لم يذكر خالدا حتى بعد أن قال إن قتل ثلاثة أمراء وكأن خالدا ليس في الجيش !!
 فهل يتحمل ذلك الفارس القائد أن يكون تابعا لثلاثة أمراء هم أقل منه كفاءة وخبرة وشهرة وقدرة ؟ وحتى لم يذكر اسمه بعدهم ؟! وتحمل خالد , وأثبت أن ولاءه للإسلام أعظم من ولائه لنفسه , وأنه قد تغيرت أفكاره , وتبدلت أحواله , وقد هذب أخلاقه الإسلام , وبالفعل قتل الأمراء الثلاثة , واخذ الراية رجل , ودفعها لخالد , فأبي .. فقال له والله ما أخذتها إلا لك , وقام الرجل خطيبا في الجيش يحثهم على اختيار خالد , فاستجابوا له واجتمعوا عليه ,
وقاد خالد الجيش في خطة عسكرية باهرة للعودة للمدينة , العودة بثلاثة آلاف من بين براثن مائتي ألف من جنود الروم , ولم يقتل من المسلمين إلا إثنا عشر رجلا ..
لقد كان من اثر تلك التربية انه عندما , توفي عزل من قيادة الجيش في يوم آخر, قبل ذلك بنفس راضية , برغم أنه كان قد فتح الشام والعراق وغيرهما , واستمر يقاتل جنديا في صفوف المسلمين ولم يتبرم ولم يضجر ولم يعترض , حتى توفي رضي الله عنه .

 

 * وعي في مخاطبة الملوك والزعماء
بعد ست سنوات فقط من هجرته سرا متخفيا من أعدائه , يحدث ما يشبه المعجزة بكل المقاييس , فيرسل محمد r إلى الملوك والرؤساء في العالم من حوله داعيا إياهم إلى الإسلام , ولكنه تخير أولا من يرسل له , فاختار النصارى , لأنهم أهل كتاب , يؤمنون بالله واصل دينهم الحق يتفق مع الإسلام , ولهذا من الممكن أن ينطلق من أرضية واحدة مشتركة وهي عبادة الإله الواحد , فأرسل إلى النجاشي رسالة قال فيها : ( من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏   فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى‏ )[6]
 فكتب إليه النجاشي بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا اله الا هو أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا ( الغشاء بين النواة والتمرة ) انه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به الينا وقد قرينا ابن عمك وأصحابه , فاشهد انك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين " [7]
وكتــب إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية‏:‏
(‏بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏

 

        واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏.‏ فلما دخل حاطب على المقوقس قال له‏:‏ إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك‏ , فقال المقوقس‏:‏ إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه‏ , فقال حاطب‏:‏ ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به‏ , فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه‏ , ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء , والإخبار بالنجوى، وسأنظر‏ , وأخذ كتاب النبي r فجعله في حُقِّ من عاج ، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية ، فكتب إلى رسول الله r ‏:‏
(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد‏:‏ فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك‏)‏‏[8]
 رسالته إلى ملك الروم هرقل : ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏ ‏[‏آل عمران‏:‏64‏]‏‏.‏
 وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
[‏أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك‏]‏‏.‏

 

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك‏.‏ ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية‏)‏‏.‏
وكتب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق‏:‏ (‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك‏)‏‏.‏
 وبتتبعنا لتلك الرسائل نلحظ وعيا بالغا عند محمدr في معرفته بطرق خطاب الملوك وبما يناسبهم ويؤثر فيهم , كما نلاحظ أنه يحدثهم من منطلق كونه نبيا يعرض عليهم الإسلام أولا لأنها المهمة والغاية الأولى له , كما نلاحظ انه يعرض عليهم الاتفاق أولا على العقيدة أن " لا اله الا الله " , وهو في رسائله كلها لا يطلب منهم شيئا من الدنيا ولا الملك ولا الاستضافة عندهم , ولا أية منفعة خاصة , بل يفتح لهم أبواب الآخرة ثم يبين لهم مدى تسامح رسالته التي جاء بها فيطلب منهم - إن لم يسلموا ألا يحولوا بين شعوبهم وبين الإسلام - , لقد فاجأهم بأسلوبه الذي ما اعتادوه من العرب , أسلوب تملؤه العزة والأنفة وتملؤه الثقة في النصر والظهور , وقد غلفه بكل ذوق وأدب وتقدير إنساني , وأكد عليهم أنه حلقة تكمل حلقتي موسى وعيسى عليهما السلام .
=============

 [1]السلسلة الصحيحة   3190
[2]مسلم   2528
[3]البخاري 6979
[4] صحيح الترغيب  3607
   [5] مشكاة المصابيح 3838
[6] زاد المعاد , ابن القيم 3\60
[7] هداية الحيارى , ابن القيم 1\35
[8] زاد المعاد 3\61

 

المصدر/ مركز التأصيل للدراسات والبحوث