بايدن: مهذب جدا... لماذا؟
27 شعبان 1431
طلعت رميح

وسط دوامات الصراع داخل النخب المتعاونة مع الاحتلال الأمريكي في العراق، حول تشكيل حكومة وتوزيع غنائم السلطة، حضر نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن للعراق بعد فترة طويلة من الانقطاع عن الزيارة منه ومن غيره من المسئولين الأمريكيين، خلال مرحلة تميزت بخفوت الدور الأمريكي السياسي والإعلامي العلني. وقد التقي بايدن بأطراف تلك المجموعات المتطاحنة أو لنقل المتشاكسة واحدة تلو الأخرى، وناقش مع كل من قابل شأن تشكيل الحكومة.

العارفون بطبائع الامور، يعلمون ويعلنون، أن قرار تشكيل الحكومة –وربما تأخيرها كذلك -بل وحالة التطاحن بين النخب المتعاونة مع الاحتلال، هو قرار أمريكي بالدرجة الاولى وأن القوة العسكرية الأمريكية وجيوش منظمات المرتزقة العاملين تحت يافطة الشركات الامنية، لا يتواجدون في العراق لمجرد التسكع في الشوارع، بل لفرض وانقاذ المواقف والآراء والمصالح الأمريكية في العراق. واذ جاءت زيارة بايدن وسط اوضاع وأجواء متوترة ومضطربة، فقد لاحظ المتابعون أنه بدا هادئا ومهذبا جدا.... جدا، في تصريحاته ولقاءاته، كما بدا حريصا بشكل لافت علي أن يظهر بمظهر المساعد للخروج من المأزق، لا صاحب الأمر على أحد، ولا صاحب القرار في أن يتحالف طرف مع طرف آخر. سلوكه بدى أقرب إلى الدور الذي يؤديه مبعوثي الأمم المتحدة، وربما الجامعة العربية، عند زيارة مناطق الأزمات بذل المساعي الحميدة لحلها.

لقد بدا بايدن مختلفا عن ما كان عليه في زياراته السابقة وفي تصريحاته وسلوكه بشكل عام، إذ يذكر الجميع له، أنه صاحب القرار المقدم إلى الكونجرس الأمريكي بضرورة تقسيم العراق، كما هو الرجل الذي تعرف عنه الصراحة إلى "درجة......"، إذ هو من كان حريصا من قبل، على ان يبدو في موضع الحاكم والمتحكم في العراق خلال تصريحاته ولقاءاته السابقة، امتدادا ال صراحته في الاعلان بفخر عن انه صهيوني.
لم اذن بدا بايدن علي تلك الحالة الجديدة عليه علي الاقل في تلك الزيارة للعراق ؟وماذا تعكس حالته المهذبة تلك ؟!

 

علاوى والمالكي
في حقيقة ما يجري في العراق من خلافات وصراعات، فنحن نشهد صراعا علي الولاء للاحتلال وتقاتلا بين المتعاونين علي من يحظى بتمثيله في حكم العراق، او بدقة نحن امام نخبة متعاونة ومرتبطة بالاحتلالين الأمريكي والإيراني، يتصارعان بينهما كواجهة نفوذ لكل من الدولتين في العراق، وفي المرحلة الراهنة يتصارعان علي نسب التمثيل في السلطة السياسية والحاكمة في العراق، وأن ما يزيد تعقيد الامور داخل تلك النخب، هو أن كل مجموعة من مجموعات كل تحالف، تسعى لتكون هي –دون غيرها من حلفائها-صاحبة الحظوة لدى المحتل او لدى دولتي الاحتلال، إذ يتنافس كل من تحالفي المالكي والحكيم على الولاء لإيران، في ذات الوقت تتنافس المجموعات المكونة لكل تحالف من هذين التحالفين، مع المجموعات الاخرى المتحالفة معها، لتكون هي الأقرب لإيران والأكثر تلقيا لدعمها بطبيعة الحال.

وواقع الحال، أن هذه الحقيقة لم تعد "تقولا" أو تعبيرا عن رأي أو جملة في تحليل ما يجري، بل هي صارت أمر معترف به من قبل تلك النخب نفسها، خلال عمليات الصراع "والتقاتل" الإعلامي والسياسي قبل المعركة الانتخابية وفي أثنائها وبعدها، إذ اتهم كل طرف الأطراف الأخرى بالولاء لقوي خارجية، خاصة كل من إيران والولايات المتحدة، كما جرت أمور علنية محددة على صعيد التدخل الإيراني في لعبة الانتخابات وقرارات اللجنة المشرفة عليها، حتى استدعت صدور تصريحات وردود واسعة . لقد كان التدخل الإيراني سافرا لا واضحا فقط، وكانت الملاحظة الأدق هي أن من ارتبطوا بإيران كانوا حريصين في إيضاح ولائهم من خلال زيارات إيران، ولقاءاتهم مع مسئوليها، ومن خلال إنفاذ الطلبات الإيرانية التي كانت ترد في بعض الأحيان خلال تصريحات لمسئولين إيرانيين للصحافة والإعلام.

وفي المقابل كان لافتا أن المرتبطين بالاحتلال الأمريكي كانوا حريصين للغاية، علي عدم اظهار ارتباطهم بالولايات المتحدة، بل كانوا مصرين علي الظهور بمظهر الرافض للتدخل الخارجي – ومن قبل إيران بشكل محدد –وفي ذلك قاوموا أي محاولة لربطهم بالاحتلال الأمريكي مستندين الي خطة أمريكية قامت علي "إخفاء طبيعة العلاقة والولاء ". ولذا صمتت التصريحات الأمريكية بشأن العراق طوال معركة الانتخابات، وتوقفت الزيارات من قبل مسئولين أمريكيين إلى العراق خلال تلك الفترة، بل حتى السفير الأمريكي في العراق بدا حريصا علي عدم الظهور خلال تلك الفترة، أو الالتقاء العلني مع أي من أطراف اللجنة السياسية، وهو لم يصدر تصريحات حول ما يجري، رغم كل التعقيدات التي تعيشها تجربة الاحتلال وسلطته.

لكل هذا يبدو بايدن مرتاحا خلال زيارته للعراق، إذ جرى تركيز الانظار علي الدور الإيراني فيما يجرى، بصورة أقوى من الدور الأمريكي- وأمريكا هي المحتل الأصلي-ولأن المجموعات الأكثر ارتباطا بالولايات المتحدة قد حققت "تقدما تصويتيا " على خلاف الانتخابات السابقة عام 2005. والأهم من ذلك فإن بايدن بدا مهذبا في تصريحاته وحريصا على إبداء عدم تدخل الولايات المتحدة فيما يجري، لإيهام الرأي العام العراقي، بأن "حكومة العراق "ذات سيادة، وأن الولايات المتحدة لم تعد تتدخل في الشأن العراقي الداخلي، وأن من يتدخل في العراق هو قوى إقليمية فقط، وقد جاء ضمن هذا السياق – وبشكل تكراري- صدور إعلانات أمريكية عن أن كل ما يجري في العراق، لن يؤخر سحب قطاعات قتالية أمريكية. لقد تكررت تصريحات أمريكية بهذا المعنى، خلال أعمال التفجير الضخمة التي شهدتها شوارع العراق، وخلال عمليات الانتخاب والعمليات الجارية لاختيار المواقع القيادية في حكم العراق (المحتل)، إذ صدرت تصريحات أمريكية لا تؤكد فقط علي عدم التدخل فيما يجري، بل كان التأكيد البارز أيضا، هو أن الولايات المتحدة ستتعامل مع أي حكومة "سيشكلها العراقيين" وأنها غير منحازة لأي طرف من الأطراف المتصارعة، وستمضى قدما في سحب قواتها، وكان أمر قواتها قد حسم، ولم يعد لها من دور، وأنها جمعت اغراضها استعدادا للرحيل، بل ربما يجرى الإيحاء بأن أفراد تلك القوات يجلسون متململون في انتظار طائرات تقلهم إلى الديار، وقد تأخرت.

 

حرف الأنظار
لكن البعد الأهم فيما يجري كله، هو أن العراق شهد تطبيق مخطط كامل خلال المرحلة الماضية، يستهدف حرف الأنظار عن القضية الأصل وهي قضية احتلال العراق، إذ صار التدخل الأمريكي والإيراني يقاس بمقياس الدول العادية، لا الدول المحتلة.
فالحديث عن التدخل أو عدم التدخل في العمليات الانتخابية وتشكيل الحكومة، هو محاولة لتجسيد حالة غير موجوده، إذ البلد المحتل، هو في الأساس لا حكومة له، وكل سلطة تتشكل فيه هي سلطة يشكلها الاحتلال وتخضع له كليا، فلا استقلال ولا سيادة في ظل الاحتلال، ولذلك فحين يجرى الحديث عن تدخل، فالمستهدف هو تثبيت "حكاية" وجود دور للداخل على نحو سيادي، يتدخل في شأنه دول الخارج، ليكون الحكم في العراق مثله مثل الحكومات العربية الأخرى التي تجرى تدخلات في شئونها الداخلية التي هي شأن سيادي. أي أن حكومة العراق هي من تحكم العراق والآخرون يتدخلون في شئون البلاد.

والوجه الآخر لهذا المخطط، يتمثل في عملية إحلال مخططة للعملية السياسية وخلافاتها بديلا لصراع المقاومة والاحتلال، إذ جرت اعمال انتخابات وخلافاتها ثم الخلافات والصراعات حول النتائج ومن بعد مناورات تشكيل الحكومة بهدف الإيهام بأن ما يجرى حقيقي وأن العراق في صراع على حكم. والمعنى الضمني هو حرف النظر عن المقاومة العراقية ودورها في مواجهة الاحتلال وباعتبارها تخوض المعركة الأصل. هنا التقت إرادة كل المشاركين في اللعبة الجارية، سواء الولايات المتحدة أو إيران أو المجموعات المتعاونة مع الاحتلال، إذ كل تلك الاطراف تتشارك وتتناغم خططها تجاه عدو واحد، هو المقاومة، على اعتبار أنها النقيض لكل تلك الأطراف وجودا ودورا.

ذاك هو البعد الأصلي، والخيط الواصل والناظم لكل العلاقات والصراعات والخلافات بين كل الاطراف المسيطرة علي لعبة الحكم واللعبة السياسية وعملية تشكيل الاجهزة التنفيذية في العراق.
فاذا كان بايدن "بدا منضبطا " في تعبيراته ، ليبدو بمظهر غير المتدخل في اللعبة السياسية، فالهدف هو الإيهام بأن هؤلاء المشاركين فيها هم ممثلو الشعب العراقي، وليس المقاومة. هو يريد ايصال رسالة لشعب العراق، بأن ثمة ممثلين لهم في حكم بلادهم، وأن المقاومة ليست ممثلهم.. الخ

والحال كذلك بالنسبة لإيران، اذ هي تريد القول بأن العراق الحالي بقواه السياسية المتنافسة والمتناحرة، هو العراق الذي يبنى مستقبله وفق تلك الكيفية، وأنه عراق قطع شوطا لا يمكن التراجع عنه في علاقته مع إيران، وأن العلاقات العراقية الإيرانية قد جري تأسيسها من جديد ولا إمكانية العودة إلى ما كان عليه العراق. وفي ذلك هي تقف مواقفنا كليا رافضا لفكرة ودور المقاومة الواقعية التي تنشد إعادة تثبيت استقلال العراق وعودته إلى دوره التاريخي في مواجهة النفوذ الإيراني.
اما القوي المتعاونة مع الاحتلال التي تعلم أن المقاومة هي نقيضها كليا، وأن حكم المقاومة للعراق يعني أول ما يعني نهاية وجود دور تلك الفئات المتعاونة مع الاحتلال الإيراني والأمريكي، فهي تخوض الصراع بينها أو بين بعضها البعض، وعينها مثبتة على أمر أساس، هو أن تبدو ممثلة للشعب العراقي، ونفي وانهاء دور وتمثيل المقاومة لهذا الشعب.

 

خط النهاية
لكن لكل هذا الذى يجري خط نهاية، تبدو التطورات الراهنة بإجماليتها خطوة كبيرة في الوصول اليه، إذ النتاج الكلي لكل ما يجري هو أن اللعبة السياسية قد انفضح امرها علي نحو لم يعد ممكنا لها، ان تحقق الاهداف التي يطمح لها رعاتها وكل المشاركون فيها (إلا أعمال النهب والسرقات الجارية في الوقت الراهن )،وأن بديل المقاومة قد تعزز كحل وحيد، لدى فئات أوسع من الشعب العراقي.

واذا تصورنا ان الشعب العراقي قد وجد ضرورة في المشاركة بالتصويت في لعبة الانتخابات، فهو لم يفعل ذلك لقناعته بها، وانما على طريقة تعامله مع المتاح في ظل الظروف القهرية، وها هي النتائج المتحققة فيها تعيده مره أخرى إلى الفكرة الأصل، وهي أن المقاومة وحدها هي الحل الكلي للأزمة. صحيح أن المشاركة في عملية التصويت لم تأت تخليا عن فكرة المقاومة، وإنما جاءت في الأصل، ارتكانا إلى أن وجود المقاومة هو العامل الحاسم في نهاية المطاف، وأن وجودها وصمودها هو "الحامي" للمصالح العليا للعراق، إلا أن ما جرى منذ بداية الانتخابات وخلال عملية الصراع بين النخب المشاركة فيها، قد أوصل تلك اللعبة إلى خط النهاية وحسم الخيار الاستراتيجي كليا لصالح المقاومة، خاصة أن المتصارعين قد لجأ بعضهم إلى تحريك بعض قطاعات الشارع العراقي، الذى هو سلاح لا يمكن لأحد التحكم فيه من بعد.

تبدو الأمور في العراق قاب قوسين أو أدنى من الانطلاق إلى مرحلة ووضع جديد، حين يتأكد لأهل العراق أن انسحاب قدر كبير من القطاعات القتالية الأمريكية قد تم، ففي ذلك تخفيض لمستوى ضغط القوة العسكرية الأمريكية علي الأرض، بما يفتح آفاقا جديدة للحركة. وإذا كانت المقاومة العراقية هي من أجبر قوات الاحتلال – باعتراف يشبه الإجماع في العراق وخارجه – فإن الالتفاف الشعبي حول المقاومة سيشهد تطورا دراميا-كما يقال -ما بعد انسحاب القدر المقرر من القطاعات القتالية الأمريكية، وتقوقع القوات القتالية داخل معسكراتها، على نحو أكبر مما هو حاصل الآن.

لن ينتهي الاحتلال بطبيعة الحال، لكن سلطة القهر لقوه الاحتلال لن تكون كما هي علي الأرض – وإن بقيت القوة الأمريكية علي حالها من الجو – ولذلك سيشهد الصراع على الأرض عوامل دفع شعبية لحالة وفكرة ودور المقاومة.
وهنا تبدو المقاومة العراقية مطالبة بتطوير خططها الاستراتيجية للتعامل مع المتغيرات الحالية...ولذلك حديث