مؤتمر إعمار غزة والابتزاز السياسي!
7 ربيع الأول 1430
د. أسامة عثمان

كان المفترض في أولئك المؤتمرين في شرم الشيخ, وعلى رأسهم العرب أن يقروا بأن الأولوية الآن هي لاستنقاذ المنكوبين من أهل غزة الذين وقعوا ضحايا عدوان همجي, لم يلقَ ما يستحقه من الإدانة, ولم يتحمل أية تبعات حتى الآن جراء جرائمه المستطيرة.

 

 

ولكنهم يراكمون بهذه الحالة المأساوية التي خلَّفها العدوان "الإسرائيلي"- المدعوم دوليا, وإلى حد بعيد إقليما- مزيدا من الأوراق الضاغطة؛ ليجعلوا من هذه اللحظات العابرة, وسيلة لفرض مواقف خطرة, واستراتيجية دائمة, بالمساومة بين الإعمار, والاعتراف ب"إسرائيل" من الحكومة التي تدير غزة, والحركة التي تحتضنها.

 

 

مما يثير الاستهجان, حقا, والاستنكار ذلك الربط التعسفي بين الإعمار, والمصالحة, وحتى الربط بينه وبين الاعتراف بالكيان الغاصب؛ وقد أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية, هيلاري كلينتون : قبل انعقاد المؤتمر أن المساعدات لغزة مرتبطة بالتزام الفلسطينيين بالشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية التي تضم كلا من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
كما ربطت بين القبول بحكومة الوحدة الفلسطينية, والاعتراف ب"إسرائيل" قائلة إن جهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية لن تشكل تقدماً ما لم ترض حركة حماس بالشروط الدولية لعقد محادثات سلام مع "إسرائيل"، تفضي إلى حل على أساس الدولتين.

وقد تابعتها السلطة في ضرورة "اعتراف حكومة الوحدة الوطنية بحل الدولتين"  فأي ابتزاز أعظم من هذا؟! وأي سلام هذا الذي يرجونه, ويسعون له, تحت حراب الضغوط والمساومات على أرواح الناس, ومعاناتهم,

علما أن حكومة حماس لا تمانع في بدائل عملية تمكن من إنجاز الإعمار كتشكيل لجنة عليا, أو تولي الجامعة العربية هذه المهمة.

 

يبدو المشهد السياسي المتعلق بغزة الآن محتقنا, ومشتبكا, فقد علقت القضايا المتعددة المستويات والأصعدة بعضها ببعض, ابتداء بالجندي الصهيوني الأسير شاليط, مرورا بمسألة التهدئة, وهي مسائل يمثل الطرف الآخر فيها العدو الصهيوني, ثم قضية المصالحة مع حركة فتح, أو السلطة في رام الله, وصولا إلى انتزاع اعتراف من حماس ب"إسرائيل"!

 

فحكومة العدو تصر على الربط بين ملفي التهدئة وشاليط؛ لتقديراتها أن " المجتمع الدولي" وعلى رأسه أمريكا لم تغير من مواقفها من حركة حماس ما لم تلتزم بشروط الرباعية إياها. وهي تعلم أن اتفاقا حول إطلاق أسرى فلسطينيين في هذا الوقت يسهم في مزيد من القوة لحركة حماس, في مقابل التراجع البيِّن التي منيت به السلطة في رام الله, إثر العدوان على غزة والصمود البطولي الذي رد العدوان خائبا, وقد زاد موقف السلطة حرجا بعد توجه "إسرائيل" نحو حكومة يمينية تظهر تطرفها, وترفض الاستمرار بما انخرطت به حكومة كاديما, وقد كان هذا هو السبب الذي دعا ليفني إلى استمرار رفضها الدخول في ائتلاف مع نتنياهو, كما أعلنت, وصرحت: أن هذه الحكومة ستكون بلا برنامج سياسي, وليست ليفني طبعا بأفضل حالا من نتنياهو, ويمينه المتطرف! ولكنه اختلاف الأساليب, ولغة الخطاب, والأولويات, دون المس بجوهر الرؤية الصهيونية المعروفة.

 

 

والسؤال: هل من يريد أن يحقق (سلاما) واعترافا متبادلا يحققه بمثل هذه الطريقة؟! وفي مثل هذه الظروف, وعلى خلفية العدوان والمعاناة؟!

لو كانوا, أمريكا, و"إسرائيل" ودول الرباعية الأخرى جادين في حل يتصف بأدنى درجة من "المعقولية" هل كانوا يبدؤون بالطرف المنكوب, ويضربون صفحا عن الممعن قتلا لأي أمل في حياة طبيعية, وهي دولة الاحتلال الماضية دون توقف في الاستيطان, مع حكومات اليمين, وغير اليمين, وقبل أنابوليس, وبعده, وقبل ميتشل في تقريره الأول, وبعد أن قرر الإقامة الدائمة في القدس!

 

وقد كشف تقرير "إسرائيلي" أن وزارة الإسكان "الإسرائيلية" بصدد توسيع النشاط الاستيطاني ولديها خطط لمضاعفة عدد المستوطنات في الضفة الغربية. وتنوي الوزارة إقامة ما لا يقل عن 75 ألف وحدة سكنية جديدة، منها 15 ألفا و156 وحدة صادقت حكومة الاحتلال على بنائها بشكل نهائي.

 لا يحتاج أي منصف إلى مزيد نظر ليرى ما يجري على الأرض, وأين تتجه الأمور عمليا في قضم الأراضي, وتهجير العرب من أوطانهم ومدنهم, كما يحدث في سلوان, وما يكيدونه للمسجد الأقصى!  ولا يحتاج إلى تقصٍ, وبحث ليرى أمام ناظريه هذا الجدار الذي يستبطن خوفا وانطواء, واستبعادا لأي سلام من جانب الكيان المحتل. 

 

ما دلالة الإصرار على الاعتراف ب"إسرائيل"؟

أولا: تدرك "إسرائيل", وزعماؤها أن السلطة ومن يؤيدها لا يمثلون إلا أقلية لا تستحق أن تقدم لها الدولة الغاصبة أية تنازلات؛ لأنها لا تضمن سائر قطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج, ولا تمثله.

 

ثانيا: تسعى أمريكا والدول الغربية, مع الكيان الغاصب إلى إظهار إخفاق النهج المقاوم, والوجه الإسلامي, تحت ضربات الواقع, ومتطلباته التي يوجهونها ويتحكمون بها, بمعونة أنظمة عربية وإقليمية تحكم حصارها, وتحرم غزة من أية ظروف طبيعية, منذ فازت حماس بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي, 2006م.

 

ثالثا: لا يُعتقد أن تلك الدول الماكرة التي تسمي نفسها المجتمع الدولي, وتختصر الشرعية الدولية في مواقفها الظالمة والمنحازة, لا يُعتقد أنها تجهل الأسباب العَقَدية التي تمنع حماس, أو غيرها من قوى الأمة من الاعتراف ب"إسرائيل" في أرض الإسراء والمعراج, كما لا يُعتقد أيضا أنها تجهل الأسباب التي جعلت الشعب الفلسطيني يحتضن هذه الحركة وحركات المقاومة بالرغم من الأثمان المادية الباهظة التي دفعها, ويدفعها باحتساب للأجر عند الله, وتحدٍ, وإصرار, على الحفاظ على الحقوق وعدم الانزلاق إلى دَرَكات التفريط, والتنازل.

 وعلى ذلك فإن أمريكا ومن معها من دول المطامع والاستعمار, كبريطانيا وفرنسا وغيرهما, تدرك عمق تلك المعاني لدى الأمة الإسلامية, والشعب الفلسطيني, وهي تعلم أن "المشكلة" ليست في حماس, ولا في غيرها من حركات المقاومة بقدر ما هي في العقلية الإسلامية والوجدان؛ فلذلك ماذا ترجو من حماس, لو اعترفت, ولا أراها تفعل, فإنَّ كل الذين انتموا إليها وناصروها سينفضون عنها, وستعود, لا قدر الله, كما عادت منظمة التحرير الفلسطينية؛ فحماس ليست اسما وزعماء, لكنها نهج, وفكر وعقيدة! فهل يحاربون العقيدة؟!
أم أنهم كما قال الشاعر القديم:

كناطحٍ صخرةً, يوماً, ليوهنها     فلم يَضِرْها وأوهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ

بل هم, والله  ينطبق عليهم قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [ الأنفال: 36]