القيصر" المنتخب" الذي كسر أنف أوروبا
5 رجب 1439
أمير سعيد

إن أردت أن تزجر طفلك حين يتمادى في أخطائه، فلا تصرخ بوجهه أو تعنفه أو تضربه، فقط أغلق جهاز استقبال الانترنت!

 

لا يحتاج بوتين أن يمطر الأوروبيين بصواريخه ونيرانه كما يفعل في الغوطة وإدلب؛ فبوسعه أن يشيح بوجهه ووجوههم إلى صمام الغاز الذي أمكنه أن يجرد الأوروبيين من أوراق كثيرة كانت لديهم في الماضي.

 

نمط الحياة الغربي المترف نوعاً ما، والميل إلى البعد عن المناوشات العسكرية، والتراجع الاقتصادي والاهتمام به، والانكفاء على الداخل، وتراجع المساندة الأمريكية، جميعها أسباب تضاف إلى السبب الأهم لتفوق الروس على الأوروبيين، وهو الصناعة العسكرية الهائلة والمتطورة، والاستعداد لخوض الحروب وتحمل الخسائر البشرية.

 

وكلها أسباب صبت في وعاء تغول الروس وتوسعهم عسكرياً وسياسياً على حدود أوروبا، وتجرؤهم أمنياً واستخبارياً أيضاً في قلبها إلى الحد الذي أهان كرامة البريطانيين وحلفائهم في حادثة محاولة اغتيال جاسوس مزدوج في مدينة بريطانية.

 

القيصر الذي يتربع على عرش روسيا مستنداً إلى غالبية كاسحة تبلغ نحو 77% في الانتخابات الرئاسية مكنته من تولي عرش الكرملين للمرة الرابعة (وإن كانت الانتخابات غير نزيهة بالمرة)، وإلى قوة إمساكه بالسلطة، وإلى إنجازات محسوبة له، لم يبالِ بردود الأفعال البريطانية على انتهاك استخباراته للأعراف الدولية وإقدامها على محاولة قتل جاسوس روسي تلو آخر يسلم قياده للاستخبارات البريطانية؛ فهو يدرك يقيناً أن ليس بوسع بريطانيا التي سلت نفسها من الاتحاد الأوروبي أن ترد على هذا الانتهاك بالقدر نفسه أو بما يلائمه، ولا حتى لو كانت ما زالت إحدى أركان هذا الاتحاد.

 

فالاتحاد الأوروبي يعاني من مشاكل عديدة، في مقابل دولة روسية قوية جمع شملها الرئيس بوتين وجهازه الاستخباري الذي يمسك بتلابيب الحكم باقتدار، ومدت نفوذها في مواقع استراتيجية عديدة.

 

والآن، هي لم تعد معنية كثيراً بمن يهنئ بوتين بالفوز حتى لو لم تهرول إليه مهنئة معظم دول الاتحاد الأوروبي، وغير عابئة باكتشاف ضلوعها في جريمة الشروع في قتل العميل سيرجي سكريبال العقيد السابق في المخابرات العسكرية الروسية، والذي جندته المخابرات البريطانية وأصبح عميلًا مزدوجًا وابنته خلال سيرهما في إحدى المدن البريطانية، ولقد كان متاحاً لدى الروس استخدام وسيلة أخرى غير فاضحة غير تلك التي استخدم فيها غاز لا يصنع عادة إلا في روسيا!

 

روسيا لم تعد تخشى شيئاً من الأوروبيين، وقد جربت من قبل بريطانيا نفسها في عملية اغتيال العميل الروسي السابق، والذي فشا أسرار جهازه الاستخباري لنظيره البريطاني، ألكسندر ليتفينينكو، الضابط الروسي السابق في خدمة الأمن الفيدرالي الروسي (إف إس بي)، والذي أعلن إسلامه قبل موته، قبل اثني عشر عاماً في بريطانيا بعد أن كشف عن تورط الاستخبارات الروسية في كتابه تفجير روسيا "Blowing up Russia" في تفجيرات روسية لتحريض الشعب على الحرب على الأقليات المسلمة عبر إلصاق التهم بالاستقلاليين الشيشان؛ فردود الأفعال البريطانية دون اللائق بدولة عظمى سابقة، ولهذا كانت محل انتقادات عريضة من ساسة بريطانيين توقعوا أيضاً أن تكون ردة فعلها على حادثة سكريبال فاترة أيضاً بحسب محرر الشؤون الدبلوماسية في بي بي سي جيمس لاندل، ولربما لن تتعدى طرد دبلوماسيين من الروس كما فعلت بعدم تسميم العميل السابق الكسندر ليتفيننكو، أو بالكثير تجميد أصول مواطنين روس أو منع منح التأشيرات ومقاطعة مباريات كأس العالم المرتقبة العام الجاري في روسيا.

 

لكن بالنهاية روسيا تفعل ما تريد، وتتحمل في سبيل ذلك أثماناً، وتمضي في طريقها؛ فلقد جعلت مهمة جواسيس أوروبا لديها صعبة حتى لو احتموا ببلدان غربية وحصلوا على جنسياتها، ولقد ضمت جمهورية القرم الاستراتيجية المهيمنة على البحر الأسود، بعد قضمها من جمهورية أوكرانيا. دون أن يستطيع الأوروبيون أن يفعلوا لحليفتهم شيئاً، ونشرت جنودها وميليشياتها في شرق أوكرانيا، وكادت أن تنتزع تركيا من الحلف الأطلسي، ونسجت معه تحالفاً متصاعداً مقلقاً للأوروبيين، على المستويين الاقتصادي (مشروع السيل التركي للغاز)، والعسكري (صفقة منظومة إس 400 الدفاعية، والشروع في المساهمة في بناء مشروع تركيا النووي الطموح)، حدا بالاتحاد الأوروبي أن يبطء من مناوشته للأتراك وأن يحاول استمالة "العدو" التركي، ومدت نفوذها بقواعد عسكرية قوية في سوريا، حتى المتوسط، ونقلت مشروع محور طهران بيروت المفيد لها من دائرة التخطيط إلى حيز التنفيذ المحكم.

 

وإزاء كل هذا لم تزل أوروبا مترددة، غارقة في مشاكل تشكيل الحكومات الائتلافية الضعيفة (كألمانيا)، وأسئلة الوحدة الأوروبية المزلزلة (بركيست) البريطانية، واحتمالات تفكك مناطق إسبانية وبريطانية وإيطالية وبلجيكية.. الخ؛ فيما القيصر الروسي يتوسع حول أوروبا بقوة السلاح وبرافعة سلطة قوية لا تأبه للديمقراطية ومنعطفاتها الخطيرة كثيراً.

 

لقد برهنت روسيا على أن الاستراتيجيات الناجعة ربما تحتاج إلى سلطة قوية لا تتوقف كثيراً عند المزاجات الشعبية، وأن المشاريع الكبيرة تعوزها تضحيات لا تعوقها النظرة الأوروبية إلى قيمة المواطن وحياته! هذا وإن كان سيئاً إلا أننا لابد أن نعترف أنه سيأخذ العالم باتجاه أكثر سلطوية وشمولية تأسياً بالنموذج الروسي الذي تفوق جزئياً على الأوروبيين في أكثر من مجال رغم فقره وتخلفه الصناعي غير العسكري، في وقت سيبرهن الأوروبيون بتراجعهم في أكثر من مجال على مرحلية الحقبة الديمقراطية الليبرالية ومحدوديتها الزمنية.

 

وها هو القيصر "المنتخب" شكلياً يمضي في ولايته الرابعة معززاً بقوة الإنجازات الشعبوية، مستنداً إلى دور أكثر فعالية للروس في الساحة الدولية، ومتطلعاً إلى إحياء إمبراطورية الاتحاد السوفييتي بطريق متطورة وأوفر "براغماتية" واستعداداً للقبول بالتحالف مع "أعداء" تقليديين كتركيا وباكستان.

 

ولئن كان بوتين قد كسر أنف أوروبا غير مرة؛ فقد قصم ظهرنا حقيقة في سوريا، وإذا كان من حاجة لبناء استراتيجية أوروبية موحدة بفكر جديد؛ فإن الضرورة لمشروع حضاري إسلامي متكامل للنهضة الشاملة أولى بكثير وأكبر أهمية لإعادة الأمة الإسلامية على خارطة سبق أن رسموها قروناً.