أنت هنا

بين السياحة والعسكرة
8 جمادى الأول 1429
د. عبداللطيف عبدالله الوابل

الدولة القوية هي التي تبني أمتها على أسس عقدية واضحة وتحدد لها معالم وأهداف وإستراتيجيات تخدم هذه العقيدة ومصالح أمتها المعتبرة. فالدولة القوية هي التي تعتمد على قوتها العقدية والعسكرية والأخلاقية والاقتصادية في مواجهة الأعداء والأزمات الداخلية والخارجية. إنها الدولة التي تحترم شعبها وتعطيه حريته المتلائمة مع عقيدته. فهي تتألم لألمه وتعيش لإسعاده وبالمقابل فهو يكافؤها بنفس الشعور فهو يتألم لألمها ويتعب لحمايتها فهما لحمة واحدة وجسد واحد.
إن القارئ السياسي لحالة كثير من دول عالمنا الإسلامي والعربي ليلحظ عوامل التفرق والاختلاف بين كثير من الأنظمة وشعوبها تدب بشكل سافر وتهدد أمن وسلامة هذه البلاد. فهناك الأنانية المفرطة عند كثير من الأنظمة للاستئثار بكل شيء بل والسعي للفصل بين عقيدة الأمة وشريعتها وبين واقعها وهذا أمر أصبح مكشوفاً للعيان سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وفي هذا المقال سأركز على مثال واحد وهو السياحة. فقد تحولت كثير من هذه الدول إلى مرتع سياحي لكل من هب ودب. فقد أصبحت السياحة هي همها الأكبر وشغلها الشاغل بحيث انقلبت المفاهيم السياسية والاقتصادية فبدلا من أن تكون السياحة أحد عوامل التنمية الاقتصادية تحولت لتصبح هي القوة الرادعة للعدو والمرتكز الاساسي للقوة والتقدم والحضارة تماماً كالأبراج الأسمنتية. ومن ثم ظهر مفهوم جديد وهو عسكرة السياحة.
وليت هذه السياحة ضبطت بضوابط الشريعة التي تتحاكم لها شعوب المنطقة وهي المرجع الأساس للأمة فهي أمة مسلمة لها عقيدتها وشريعتها المتميزة. ولكنه وللأسف فقد فتحت السياحة على مصراعيها حتى أصبحت شعوب الدول الكافرة تجد أبواب الفساد والانحلال بصوره المختلفة في كثير من هذه الدول. بل لقد بلغ السفه ببعض هذه الدول أن تخصص منتجعات سياحية لجنود صهيون للاستجمام بعد تلطيخ أيديهم بدماء المسلمين ويقوم على خدمتهم في هذه المنتجعات أبناء وبنات المسلمين فيا لها من مصيبة!!!
إن هذا السباق المحموم بين هذه الدول المسلمة في مسألة السياحة قد أفرغ كثيراً من هذه البلدان من الأخذ بأسباب القوة والحماية والمنعة فضاعت جيوشها وبددت ثرواتها فلم تعد قادرة على حماية مقدراتها وشعوبها فتحولت إلى رهينة للقوة الأمريكية والأنياب الإيرانية وهكذا جنت على نفسها وعلى شعوبها فأصبحت مكشوفة الظهر للصهاينة وخالية من معاني قوة الردع عدا أن يكون لها قدرات هجومية وجاءت الأزمات لتكشف ضعف كثير من هذه الدول عسكريا وعدم قدرتها على حماية مكتسباتها الاقتصادية والاجتماعية فأين ذهبت ميزانيات هذه الدول الدفاعية. ومن المسؤول عن هذا الضعف؟ أهي الحكومات بفسادها أم الشعوب بصمتها أم حكومات الاستعمار بمكرها وكيدها وتخطيطها.
ويزداد الأمر سوءاً حين يصل الانحراف في المفاهيم وليس فقط في التطبيق العملي الفاسد فيظن بعض من يقف وراء هذه المشاريع السياحية المنفلتة والفاسدة والمفسدة أنه قد حقق إنجازاً تاريخياً لأمته وأنه يعد في صفوف القادة الأوفياء لدينهم ووطنهم مع أنه يرى أن كثيراً من بلدان المسلمين قد تحولت إلى رهينة للأعداء بسبب هذه السياسات الحمقاء التي يقررها أصحاب الشهوات والأهواء ممن لا اهتمام لهم بضوابط الشريعة أو مصالح الأمة ويظن بعض أولئك أنه بعسكرته للسياحة وتوابعها وفرضها بصورتها المخالفة للشريعة على الشعوب قد وضع بلاده في مصاف الدول المتقدمة وما علم أنه بهذه السياسة الخرقاء قد حول بلاد المسلمين إلى كنتونات للفساد والدعارة والضعف، وسوقاً للمخدرات، ومن ثم فالنتيجة معروفة الانهيار والسقوط، وصدق الله سبحانه إذ يقول: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: من الآية27]، وغالباً ما تُبارك الدول الكافرة هذه السياسات لأنها تخدم مصالحها في إضعاف المسلمين وإفساد دينهم ولذلك حذر الله عز وجل من عداوتهم فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73]، وقال أيضا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [آل عمران:149].
وفي ظل هذا الفساد المحموم الذي أفسد عقول وقلوب وأبدان كثير من أبناء وبنات المسلمين، فتلك سياحة منحرفة وهذه قنوات فاسدة مفسدة تدعو إلى الرذيلة ليلاً ونهاراً، وتلك أنظمة تحاصر أعمال الخير والإصلاح. في ظل هذا الواقع المظلم تطل علينا دولة إيران "الفرس" وقد استعدت وخططت عشرات السنين لعسكرة الأبدان والعقول والقلوب بالعقيدة التي تؤمن بها. فلقد أسست ترسانة عسكرية قوية حتى أصبحت الآن على وشك دخول النادي النووي ولديها جيش عرمرم ومخططات سرية في معظم بلاد أهل السنة ويكفي أن تعلم أيها القارئ أن إحدى الصحف العربية نشرت خبراً مفاده أن تنظيم ما يسمى "حزب الله" في لبنان لديه أكثر من 15 فرع سري في دول العالم الإسلامي.
وزيادة في التخطيط والاستعداد لساعة الصفر المنتظرة فقد فتحت إيران جامعاتها ومعاهدها لمن أراد التعلم من أبناء السنة ليتحولوا في لحظة ما إلى قنابل موقوتة في بلادهم ويكفي أنها تستقبل ثلاثة آلاف منحة فقط من اليمن سنوياً فكم إذا هي تستقبل من سوريا والعراق ومصر ودول المغرب العربي وجمهوريات آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية وقارة أفريقيا، بل ومن دول الخليج، في الوقت الذي ترفض فيه بعض الجامعات في بعض البلاد الإسلامية استقبال أبناء الوافدين الموجودين في بلادها، بل وتضايق التبرعات للمسلمين في العالم الإسلامي وتنكفئ على نفسها في حالة من الضعف والخوف والانهزامية. وكما قيل: "ضيعت الصيف اللبن".
لقد كان بإمكان كثير من الدول الإسلامية عامة ودول الخليج خاصة أن تصبح في مصاف الدول المتقدمة والقوية لو أن قادتها خططوا للمستقبل بشكل صحيح وأدركوا مخططات الأعداء ومكرهم واستثمروا مكانة بلادهم الإستراتيجية في العالم الإسلامي. إن العمق الإستراتيجي الذي تملكه دول الخليج وغيرها من الدول العربية والإسلامية قادر على استثمار هذه المكانة لبناء قوة تكاملية عسكرية وسياسية واقتصادية لمواجهة أعداء اليوم وأعداء الأمس. لكن الانبطاح لأهل الشر والفساد والعلمنة وطاعة الكافرين وإيثار الشهوات ضيع عليهم فرصة سانحة لعلها تعود لو فقهوا اليوم وتداركوا الأمر قبل الندم وفوات الأوان.
فما هو الفرق بينهم وبين إيران التي دخلت حرباً طاحنة مع العراق مدة ثمان سنوات واستطاعت أن تبني نفسها وشعبها وتواجه أكبر دوله وهي أمريكا بقوة وصرامة وثقة مهما تقاطعت المصالح أحيانا واختلفت أحيانا أخرى فهناك شد وجذب والكل يسعى لتحقيق أكبر ما يمكن من مصالح وتحقيق أكبر قدر ممكن من ميراث الفريسة المنتظرة. لقد كان لقضية البحارة البريطانيين واختطافهم ومن ثم أسرهم في إيران رسالة واضحة للعرب ولأهل الخليج خاصة. فهذا الكاتب والخبير في الشؤون الإيرانية ومؤلف كتاب: "إيران اليوم" (دليب هيرد) يعلق على نشر إيران صور البحارة في قناتها "العالم" الناطقة باللغة العربية وليس في قنواتها الرسمية الناطقة باللغة الفارسية فيقول: "إنها تحمل رسالة للعرب مفادها أن إيران ليست مثلهم فهي تملك حماية حدودها وليست أرضها مرتعا للغرب وأساطيله وقواته. في كل يوم نسمع إنتاج صاروخ جديد أنتج وتقدماً عسكرياً في إيران أما في الخليج فلا نسمع إلا بصفقات الأسلحة تدفع عليها ملايين الدولارات وكأننا فقط سوق استهلاكية يتحكم فينا عدونا كيف شاء ويعطينا ما يشاء ويمنع ما يشاء فلا نستطيع أن نصنع أو نعتمد على أنفسنا في حماية أنفسنا فهل سمعت يوما صاروخا أنتج في الخليج أو في بلاد العرب عامة ولو على قدر ما تنتجه المقاومة الصامدة في فلسطين أم أن قرار الحماية يصنع لدى أعدائنا فمتى أصبح الذئب راعياً للغنم!!!!
فهل تستيقظ حكومات وشعوب أهل السنة من سباتها وتترك عنها عسكرة السياحة الفاسدة وتتسلح بالقوة الرادعة الحقيقية ولا أقل من أن تبادر دولها إلى عسكرة شعوبها فكرياً وبدنياً على منهاج الشريعة الإسلامية وأولها العودة الصادقة إلى ربها ودينها وعقيدتها ثم الاستعداد العسكري للمنالزلة القادمة. فربما نزل الخطر بين عشية وضحاها فتكون شعوبها قادرة في أقل الأحوال على حماية أنفسها وأعراضها. فلا زالت كثير من دول أهل السنة تملك - بحمد الله - مقومات القوة وأسبابها ولا سيما وأن الخطر يداهمها من كل جانب ولم يعد في الوقت بقية فعقارب الساعة لا تتوقف ونشاط إيران والغرب الكافر على أشده ولسان حالها يهدد ليلا ونهارا وما لم تستيقظ دول الخليج وتصلح ما لديها من فساد وانحراف وانتشار للشهوات التي قضت على كل خير وفضيلة وأفقدتها قوة شبابها وإلا فإن مصيرها سيكون مصير العراق وشعوبها سينالون مصير كثير من شعوب العالم الإسلامي كما في العراق والصومال والسودان وغيرها ممن نرى صور مأساتهم ليلا ونهارا. ومن خذل أخاه في موطن يحب فيه نصرته خذله الله في موطن هو أحوج ما يكون إلى نصرة الله وحفظه فوامعتصماه يا حكومات وعلماء وعقلاء وشعوب دول الخليج، النجاة النجاة، والحذر الحذر، والحزم الحزم قبل خراب الديار وانعدام الأمن والأمان فكما ورد في الحديث: "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني" واسمعوا واعظ ربنا في كتابه حيث يقول: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات:50] فلا حافظ لهذه الأمة إلا ربها ولا يتم حفظه لها إلا بعودتها الصادقة وتوكلها الحق عليه سبحانه هو حسبنا ونعم الوكيل.