أنت هنا

الغائب في الحوار
8 ربيع الأول 1429

تؤدي الرسالة الغرض منها إذا كانت حروفها متكاملة، وكذا الصورة إذا كانت عناصرها حاضرة فاعلة، وإذا غاب أو غيب أحد عناصر الحوار وركنه النافد الفيصل، فقد حكم المتحاورون على حوارهم بالضبابية أو التيه، ولعله من المناسب أن أطرح هنا أسئلة كمقدمة مقتضبة للغائب أو المغيب في الحوار:
1. لماذا الحوار؟
2. ومع من الحوار؟
3. وفيما الحوار؟
4. وما هي طرائقه؟
5. وما هي أهلية المحاور؟
6. وما هي موازين التصويب عند الاختلاف أو الخلاف؟
7. ومن له حق رفع الخلاف, والإلزام بالحق للمخالف؟

في نظري أن كل سؤال تمثل إجابته عنصراً فعالاً في إنجاح الحوار، وأن توافر هذه الأركان السبعة يحقق الأهداف السامية التي تجعل الحوار مثمراً ونافعاً، وفي اعتقاد ي أن كل ذلك من البداهة بمكان عند العقلاء، غير أن فريقاً من المحاورين ممن يغردون خارج السرب لا يحلوا لهم ذلك، أملاً أن يسمع لهم صوت أو تمرر لهم فكرة مشبوهة، وصدق الله تعالى حيث يقول: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً" [الكهف 56].

أيها العقلاء: أصحيح أن يتحاور فريقان فيما ليس موطن خلاف أصلاً. ولماذا الحوار فيه أمن باب معرفة الحق، فليس هذا مكانه إذ محله السؤال لمن أحال الله إليه من أهل العلم كما قال تعالى: "فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [النحل: 43] إن الحوار في البدهيات والمعلوم من الدين بالضرورة مما الحق فيه في قول واحد وما عداه باطل، سفه وطيش.

أيها العقلاء: إذا كان الخلاف سنة بشرية، فما هي الموازين التي يقاس بها أدلة الفريقين وما هي أدلة الترجيح الحقيقية التي ترجح أحد القولين، إن الناظر في مسيرة الحوار يدرك أن فريقاً لا يسلم بالوحي كمصدر تحاكم، وأخر يسلم به مرحلية ولكنه لا يسلم بالراجح من تفسيراته العلمية لأئمة أهل السنة والجماعة، عقلاني النزعة أحياناً وأحياناً نفعي ذرائعي ينتقي ما يتوافق وشهوته وشبهته الخفية، وفريق لا في العير ولا في النفير يترقب الكمرا وفناجين الشاي، وفريق جاد صادق ناصح بيطار بأساليب الخطاب ومعاقد الأدلة ودلالاتها.

إن غياب الموازين الشرعية التي هي منهج أهل السنة والجماعة عن منتديات الحوار والتي مكان بسطها ليس هنا، يجعل الرؤية ضبابية أو يدخل الحوار في التيه، ولعله مراد أهل العلمنة والتغريب والتوجه اللبرالي المقيت.

أيها العقلاء: ليس من الحكمة أن يقذف بالباطل في المحافل ثم يتجافى الحوار عن بيان عواره، والحكم عليه بما أنزل الله تعالى، إن أهل الأهواء يفرون من ذلك خوفاً من دمغ طروحاتم المشبوهة كما قال تعالى: "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ". [الأنبياء: 18].

أيها العقلاء: ما من حوار إلا والحق في قول واحد، وما عداه باطل، أو كلا القولين صحيح واختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات، أو كلا القولين صحيح وأحدهما أرجح من الأخر، إنه إذا كان من المسلم عند أهل الإيمان أن الوحي هو الحكم، فإن الوحي يحكم به الراسخون في العلم المشهود لهم بالعدالة والضبط، كما قال تعالى: "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" [النساء: 83]. إن الذين لديهم القدرة على ذلك متوافرون قائمون بما أمر الله تعالى من النصح لمن وجبت له وغيابهم أو تغييبهم عن معاقل الحوارات من شأنه زيادة تردي الحوار وفتحة أبواب الشر على مصراعيه أمام أهل الزيغ والفساد.

أيها العقلاء: حذار حذار من أهل الزيغ الذين يخوضون في المتشابه مما استأثر الله بعلمه يضربون بعضه ببعض ويشبهون على الناس دينهم الحق الذي ارتضى الله تعالى لهم، والذي أعز الله تعالى هذه البلاد وأهلها به فجمع به شملهم ووحد به كلمتهم وأرهب به عدوهم وأفاض به النعم عليهم، واسمعوا إلى قول الحق تبارك وتعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران: 7-8].

وختاماً:
أقول لمن أرادها عوجاً: بان الصبح لكل ذي عين، وظهرت الحقيقة لكل متابع، أن البررة بالراعي والرعية غيركم، وأن ما تخفيه صدوركم من الغل والحقد والخلاعة والمجون، والعلمنة والتغريب والتبعية، ظهر في لحن أقوالكم، وأن ما أملتهم سوقاً رائجاً لقيحكم ودماملكم أوصد الأبواب في وجوهكم.
وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.