أنت هنا

البريطانيون يحزمون حقائبهم
6 شعبان 1428

رأيناه رافعاً هامه إلى السماء، مزهواً بقوة دولة ورثت إمبراطورية لم تكن تغرب الشمس عنها، يستضيف الرئيس الأمريكي أو يستضيفه الأخير احتفاء بالنصر المدعى، ولم يكن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير يدرك في غمرات النشوة باكتمال احتلال أفغانستان والعراق في عام ونصف العام أنه سيدفع ثمن مغامرته انسحاباً سياسياً فاضحاً في أعقاب إخفاق مزمن لقواته في كلا البلدين المسلمين.
قد كانوا وجنودهم "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"؛ فارتفعت الأنوف كبراً واعتداداً، فإذا المقاومة العظيمة تراغم تلك الأنوف وتكسر تلك الإرادات وتمحو هذه الأحلام وتنكس هذه الرؤوس والأعلام.
إنها أمثولة النضال والمقاومة حين تؤتي أكلها، فتتنادى جيوش الغزاة أن ارحلوا فما حصدتم إلا الهشيم ولا زرعتم إلا الشوك، إذ أضحى الوضع صعب على الاحتلال الأنجلوأمريكي في كل من البلدين المسلمين، بما جعل الأنباء تتواتر بقوة عن ضرورة القيام بتحرك انسحابي سريع لوقف نزيف الخسائر في صفوف البلدين المعتديين؛ فقد نشرت صحيفة الإندبندنت أون صنداي البريطانية اليوم على ثلاث صفحات موضوعاً لافتاً حول الوضع البائس للجنود البريطانيين في جنوب العراق، حيث نقلت الصحيفة عن أحد القادة العسكريين البريطانيين قوله إن "القيادة الميدانية أعلمت رئيس الحكومة البريطانية جوردن براون بضرورة سحب الجنود الـ5500 من جنوب شرقي العراق،لأنهم لن يستطيعون تحقيق أكثر مما قاموا به حتى الآن"، وبشكل أقل تحفظ أشارت الصحيفة إلى أن بعض الضباط الكبار في الجيش البريطاني "يعتقدون بأنهم قد يجبرون على الانسحاب تحت القصف إلى الكويت أو على الأقل إلى ميناء أم قصر في العراق"، ناقلة عن أحد الضباط البريطانيين قوله إن "التاريخ العسكري سوف يحكم على ما يجري في البصرة على انه خطأ فادح إذ ستؤدي هجمات المسلحين إلى طرد البريطانيين من جنوب العراق".
الصوت الحادي بالانسحاب وصل صداه إلى داخل المؤسسة العسكرية العتيدة في بريطانيا، ما أزعج الأمريكيين في الجبهة الشمالية، وهو ما رصدته صحيفة الصنداي تايمز في تقرير لمراسلتها من واشنطن سارة باكستر ان ستيفن بيدل، حين نقلت عن أحد المستشارين العسكريين لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش تحذيره للأخير من أن القوات البريطانية في العراق سوف تجبر على الانسحاب "بطريقة بشعة ومحرجة". على حد ما ورد في الصحيفة.
وما تردد في الشأن العراقي، يناظره قلق أكبر في أفغانستان، وتعززه أرقام كشفت عنها هذا الصباح صحيفة الأبزورفور البريطانية، حيث دقت ناقوس خطر عسكري قادم في أفغانستان برصدها نحو 700 جندي بريطاني من أصل 1500 هم إجمالي جنود الاحتلال البريطاني قد أخضعوا لعلاج لأسباب قتالية في أفغانستان خلال الشهور الأربعة الماضية، مؤكدة استقاءها هذه المعلومات من مصادر عسكرية رفيعة المستوى.
ولعل هذه المعلومات غير بعيدة عن راصد تطور المقاومتين العراقية والأفغانية، إلا أن البعيد ربما كانت هذا التزامن غير البريء للصحافة البريطانية التي أزاحت كلها الستار عن هذا المشهد المخزي لقواتها العاملة في العراق وأفغانستان بما لم تكن تصنعه من قبل بهذا الوضوح وبهذه الشفافية النسبية، وهو ما يعني أن الصحافة البريطانية ربما أنها تقوم بعملية التمهيد الشعبي لانسحاب وشيك من العراق وأفغانستان أو تود أن ترسل رسائل خارجية لحلفاء قريبين أو خصوم متحفزين..