أنت هنا

دور العلماء في قيادة الأمة
19 جمادى الأول 1428

منزلة العلماء في الأمة:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل – عليهم الصلاة والسلام – بقايا من أهل العلم، يدعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم قتيلٍ لإبليس قد أحيوه؟!، وكم ضالٍّ تائهٍ قد هدوه!، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين(1).

ويكفي في بيان شرفهم وعِظم مسؤوليتهم وأهمية دورهم ما وصفهم الله به في مواضع من كتابه بالخشية والرفعة والأمر بالرجوع إليهم، وما خصهم به النبي _صلى الله عليه وسلم_ من كونهم "ورثة الأنبياء"(2)، فحيثما وقعت الفتن واختلطت الأمور واحتاج الناس إلى المصلح والقائد ولم يجدوا أنبياء لله ورسله فليقصدوا ورثتهم الذين يقولون بقولهم ويدلُّون على هديهم، وليست تلك المنزلة لغيرهم، وإن سُئلتَ عن السبب فـ"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر: من الآية9)؟!

مَنْ هم العلماء المعنيُّون بالفضل والتشريف؟
إن "ورثة الأنبياء" هم الذين يرثونهم علماً وعملاً، ويقتدون بهم في السرِّ والعلن، ويلتزمون منهجهم في الغضب والرضا والمنشط والمكره، ولا يكونوا كمَنْ "يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ" (الحج: من الآية11)، أو كمن "أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" (الأعراف: من الآية176).

والعلم – الذي هو مصدر تشريف الله للعلماء – علمان ينبغي أن يجتمعا في العالم، وكذلك العمل، فأما العلم فعلمٌ بواقعه الذي يعايشه وعلمٌ بحكم الله الواجب فيه، وكذلك العمل يجب أن يكون عملاً بمقتضى العِلْمَيْن.

والعلم الذي سبب التشريف وعلة التكريم قد يكون سبباً لشقاء الدنيا والآخرة، وموجباً للذم والمهانة عند الله وعند الناس إذا لم يقترن به من العمل ما ينفع صاحبه وأمته من بعده، بل قد يكون صاحبه من أول مَنْ تسعَّر بهم النار(3).

ولذلك فإنّ من الأهمية بمكان التأكيد على أن مَنْ يجتهدُ فيما يطيق من العمل الصالح ونفع الأمة بما معه من العلم هو في أشرف المنازل وأسناها، حتى ولو لم يكنْ من المتبحرين في علوم الشريعة أو الخائضين في لجَّتها، ولهذا لما ذُكر معروف الكرخي في مجلس الإمام أحمد "فقال بعض من حضر: هو قصير العلم، فقال له أحمد: أمسكْ عافاك الله! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟!"(4).

ولعلَّ أهم صفات العلماء الربانيين الذي يُنتظر منهم أن يقودوا الأمة – ولاسيما عند الاختلاف والاضطراب – هي صفة "الخشية"، والتي جعلها الله من أخصِّ صفاتهم كما في قوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28)، ولذلك قال الإمام أحمد لابنه عبد الله لما سأله عن معروف هل معه من العلم شيء؟ قال: معه رأس العلم: الخشية(5).

ومردُّ ذلك أن أهل الخشية من العلماء هم الذين يصدرون فيما يقولون ويفعلون عمَّا أداه إليه اجتهادهم، دون مداهنةٍ لأحد أو خوفاً من أحد، ومن غير أن يتطلعوا لعرضٍ زائلٍ مهما بلغ، فإن مقتضى خشية الله في قلوبهم أن لا يلتفتوا إلى أهوائهم ولا أهواء غيرهم من الخاصة أو العامة.
ومتى ما كانت مواقف العالم كذلك كانت أقرب إلى الصدق والثبات، وأحرى أن تطمئن لها النفوس وتجتمع عليها القلوب.

تغييب دور العلماء:
إنه بقدر أهمية العلماء الربانيين وحاجة الأمة إليهم يتبين خطر غياب دورهم أو تغييبه، فإن الثغرة التي هم عليها لا يسدُّها غيرهم، ومن أجل تجنّب ذلك فإنني أؤكد على أمور مهمة، هي:
أنه يجب على العلماء أن يتقدموا لسدِّ الثغرة، وأن يتولُّوا زمام المبادرة بأنفسهم، وأن يكونوا قريبين من الناس قبل الفتن وفي أثنائها، وأن لا ينتظروا أن تأتيهم الفرص وهم قاعدون.

فإنهم متى ما تأخروا تقدم غيرهم ممن ليس أهلاً لسدِّ مكانهم، ولا بدَّ للناس من قادةٍ يرشدونهم ويوجِّهونهم "حتى إذا لم يجد الناس عالماً اتخذوا رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا"(6).

لا بد من الاحتساب مِنْ قِبَل العلماء الراسخين على مَنْ يدّعون العلم وينتسبون إليه من غير أهله، وتبيين حالهم للناس، وعدم ترك المجال لهم ليقودوا الأمة ويتصدّروها، وإن من غِشِّ الأمة ترك الاحتساب على أولئك المتعالمين.

يقول ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلتَ محتسباً على الفتوى؟! فقلت له: أيكون على الخبازين والطبَّاخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟!"(7)، فانظر إلى فقه هذا الإمام الرباني.

ولا بدَّ أيضاً من التصدي لمن يسعى إلى زعزعة ثقة الأمة بعلمائها بوسائل شتى، لاسيما ممن يسيطرون على كثير من وسائل الإعلام على اختلافها، فإن الحرب الشرسة التي يقودها هؤلاء على أهل العلم ومحاولة التهوين من شأنهم والحط من قدرهم، لا بد وأن تواجه وأن تقاوم من أهل العلم – بل من الأمة أجمع – بما يتناسب مع هذه الحملات والتشويه.

إننا لا نقول بعصمة العلماء من الخطأ.. كلا، وإنما مَنْ يقرر أخطاءهم أو يناقشها ليس هم أولئك الجهلة أو المنحرفون، وإنما العلم يُردُّ بالعلم، وتُقارع الحجة بمثلها.
ومن الأمور المهمة في هذا السياق أن يحذر العلماء من أن يقوموا هم بتغييب دورهم بأنفسهم.

وقد يقع ذلك من حيث يظن العالم أن هذا هو مقتضى الثبات وعدم التأثر بالواقع، بينما هو في حقيقته نوعٌ من الانغلاق والانكفاء على الذات، وهو مذمومٌ بلا شك، فليس المراد بالثبات أن يقعد العالم في بيته معتزلاً عن قضايا الأمة وهمومها، وإنما المراد هو الاضطلاع بدور الريادة والقيادة مع التمسك بأمر الله قدر المستطاع، فإن قدر وإلا عُذر، فإن الثبات على المبدأ هو التحرك به لا الانعزال والانطواء.

إن المراد من العالم أن يقوم بما يستطيع، وهو معذورٌ فيما لا يحسن، و"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".
أما إذا استطاع العالم وقَدِر فإن المرجو منه شمولية الأهداف والمشاريع، والمنتظَر منه إصلاح واقع الأمة بكل مجالات ذلك الواقع واتجاهاته.

وتأمل حال شيخ الإسلام ابن تيمية تلمس أثره ظاهراً في التأصيل للمسائل العلمية والعملية، الدقيقة والجلية، وكذلك في تبني مشروعات عملية؛ منها التعبدي الخاص به، ومنها ما يتعلق بإنزال التأصيل العلمي الذي يقرره إلى أرض الواقع، فتراه مثلاً يقرر مسائل الاعتقاد ثم يدعو إليها ويناظر عليها، وتراه كذلك يؤصل للسياسة الشرعية، ثم لا يألُ جهداً في مناصحة الأمراء والولاة والقضاة، وأكثر من ذلك تراه يتولى زمام الدعوة إلى شن الحروب على العدو المتغلب، وينخرط في برامج تدريبية تؤهل الناس إلى ذلك، ثم يحرض الناس على اختلاف طباقتهم للمشاركة في وقعة شقحب، بل يقود الجيوش والمعارك، ثم يوجه الدولة نحو خطر أهل النفاق المظاهرين للعدو من رافضة جبل كسروان، مع جهوده وطلابه في إنكار المنكرات.
وفي أثناء ذلك كله يبين قراءته للأحداث ويطرح رؤيته لتوقع سيرها، وقد كانت عنده من الوضوح بمكان يجعله يقسم على بعضها متفائلاً بتحقق النصر وهزيمة العدو، على رغم اضطراب الأوضاع في عصره بما يشبه حال الناس اليوم فما أشبه عصره بعصورنا في كثير من القضايا كشيوع الجهل، وانتشار المنكرات العقدية والعملية والأخلاقية، وضعف الأمة وانكسار شوكتها، وتغلب العدو المغولي المحتل عليها، وتنازع الملك بما يشبه الانقلابات العسكرية المعاصرة، وإغارة الأمراء على الأقاليم.

ومن الأمور المهمة جداً – من وجهة نظري – في مجال تفعيل دور العالم في الأمة وعدم غياب ذلك الدور أو تغييبه البعد عن المسلك الفردي في العمل والإصلاح والتأثير.
وذلك أن الجهد الفردي – مهما كانت قدرات صاحبه ومواهبه – لا يمكن أن يوازي جهده حينما يكون مضموماً إليه جهوداً وخبرات الآخرين ومواهبهم وطاقاتهم، حتى ولو كانوا أقل منه كطلابه أو عامة الناس من أصحاب التخصصات المتنوعة التي تحتاجها الأمة.

وبما أننا مثَّلنا على الدور الإيجابي للعلماء الربانيين بمواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإننا ننبِّه أيضاً إلى أنه كان له رحمه الله إخوة من العلماء والعباد، وطلاب ومحبون من العامة والأمراء، بتعاضده معهم بعد توفيق الله تعالى أفلح في تحقيق مشاريع كثيرة بعضها متعلق بالدعوة وإظهار الحق، وبعضها متعلق بالجهاد، و أخرى متعلقة بإنكار المنكرات، وكثير منها لم يكن ليتأتى له –على الرغم من القدرات العلمية التي حباه الله- لو سلك نهج العمل الفردي، ولو تأملت حال مجددي الأمة على مر العصور تلمس طابع التفاعل مع المجتمع والتفعيل لقواه المختلفة أمراً مطرداً، وهذا أمر طبعي فكيف يتأتى لأمة خاملة منهكة أن تنهض دون أن تستجمع قواها، ولو كان أحد يستغني عن الآخرين في نشر الإسلام ونصره إذاً لاستغنى الأنبياء عليهم السلام، ولكن هذا لم يكن ومن تأمل سيرة أكثر الأنبياء تبعاً، وهو محمد _صلى الله عليه وسلم_، وجد ذلك جلياً، وفي عصورنا المتأخرة نجد تعاون الإمامين محمد
ابن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله مثالاً يقتدى.

العلماء.. والمشاريع المشتركة:
إن واقع الأمة يتطلب تفعيلاً لها من قبل المبصرين لما يجب أن تكون عليه وفقاً لمنهج الله الذي ارتضى لعباده، وهذا يحتم على أهل العلم والفضل التقاء واتفاقاً على مشاريع مختلفة باختلاف المتفقين عليها وباختلاف أولويات واقعهم، فضلاً عن نبذ التناحر والتنافر الذي لا يخفى أثره، وينبغي أن نراعي في هذا أموراً، منها:
- (الاجتماع على كلمة حق سواء) مقصد ينبغي أن نسعى إليه كما ينبغي أن نجتهد في نبذ الفرقة والاختلاف، فإن من جملة أسباب ما تعيشه الأمة تفرق الناس شيعاً وأحزاباً متناقضة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها"(8)، وإذا كنا نعتقد أن اختلاف حكام الإسلام وتشرذمهم قد أضعف الأمة، وأغرى أعداءها بها، فكلمة شيخ الإسلام هذه تذكرنا بأن اختلاف المشايخ والعلماء مصيبة لا تقل عن تلك.

- قد لا يتأتى الاتفاق على كل الفروع ومع ذلك فقد يتأتى الاجتماع على مشاريع مشتركة، وهذا الاتفاق على مشروع لا يعني إقرار المتفقين بعضهم بعضاً على التصورات والآراء غير التي يتبناها المجتمعون في مشروعهم المشترك. فلا ينبغي أن يحسب هذا على هذا أو يخلط بينهما على سبيل الإطلاق، ولاسيما إذا اقتضى الاجتماع في مشروع ما معالجة واقع معين كفتنة داهمة، أو نازلة عامة. ومن نظر إلى الشريعة السمحة وجد بعض الواجبات مناطة بمجموع الأمة، تتطلب اجتماعاً ولو مع مخالف في أصل من الأصول، فالجمعة والجماعة مثلاً مأمور بها ولو مع مخالفين، بل قد تكون واجبة ولو خلف إمام مبتدع في بعض الأحوال، وكذلك الجهاد، وللإمام أحمد كلام رصين في ذلك كما في المغني (كتاب الجهاد)، وكثير من التشريعات ذات الطابع الجماعي، فلا غرو إذاً إذا تعين واجب على مجموع الأمة، أو تكفل اجتماع بواجب كفائي أو عيني حالٍ على بعض الأمة؛ من أن تلزم المشاركة فيه رغم الخلاف مع بعض المشتركين في أصول أو فروع أخرى دون إقرار بما هو مختلف فيه.

- النصح للمسلم من حقوقه فلا ينبغي أن يغفل، ولاسيما المخالط القريب، ويتأكد ذلك عندما يكون الاختلاف معه على أمر ربما لم يكن المشروع المتفق عليه بأولى من دعوته إلى ذلك الأمر المختلف فيه. بل قد يكون من الغش لأنفسنا ولأخوتنا وللأمة اجتماعنا لعلاج داء يسير مع من يحملون داءً عضالاً قاتلاً كان البدء به أحرى.

- ومما ينبغي أن يراعى كذلك النظر في أهداف المشروع المنشودة ومحلها من حيز الإمكان، فإن بعض المشاريع غير ممكنة ومع ذلك يوجد من يروج لها، ولذا فلابد من النظر في مدى واقعية الأهداف في نفسها، وكذلك في الأدوات والوسائل التي يراد أن يتوصل بها إليها، وتشمل هذه المجتمعين أنفسهم، فقد لا أكون مناسباً للقيام بعمل ما يحسنه غيري، وكذلك العكس، بل قد يكون الاجتماع على بعض المشاريع مع بعض الناس من قبيل العبث وتضيع الجهود والأوقات، بل قد يفضي إلى نقيض الهدف المنشود، فإن طلب المقصود من غير طريقه يُبَعِّد من طريق المقصود.

ولعل مما ينبغي أن يلحظ كذلك هو أن المؤثرين من العلماء والدعاة إن اقتصروا على قدراتهم الذاتية فسوف يكون مآلهم الانغلاق على مشروع أو مشروعين، بل لن يستطيع كثير منهم أن يكونوا مؤثرين حقيقة، وعلاج هذا الإشكال يتطلب منهم توسعة نطاق قدراتهم عن طريق إنشاء مكاتبهم الخاصة التي تقوم على رؤيتهم فتضاعف جهودهم، وتحفظ أوقاتهم، وتعينهم على القيام بما لم يكونوا ليقوموا به منفردين، ويفتحون من خلالها مشاريع متنوعة منضبطة بمنهجهم يسهم فيها طلابهم، ومثل هذه المكاتب قد تسهم في كثير من لجان التنسيق للأعمال المشتركة والمشاريع الكبرى التي تتطلب تضافر جهود المصلحين، ومن ثَمَّ متابعتها حتى تستوي على سوقها، فإن استوت شرع في غيرها، وهذا عمل مؤسسي رائد.

وإذا نظرت في واقع الناس وجدت كثيراً منهم لا يتصور عمله بغير تلك المكاتب في ظل الواقع المعاصر ولذا تجد مسؤولي الدول والقيادات السياسية وغيرهم يعنون بمثل هذا الشأن، بل عموم المسلمين من أصحاب الأموال وأرباب التجارات يدركون ذلك فينشؤون لأعمالهم المكاتب المتخصصة وقد يكون لأحدهم أكثر من مكتب، أما إذا جاء أمر الشرع والدين وجدت الوعي بذلك قد يضعف وللأسف إلاّ عند بعض المنحرفين من الخرافيين والآيات الرافضية وأضرابهم.

بيان أحوال الناس في تغيير الواقع السياسي المعاصر لبلدانهم:
يمكن تقسيم أحوال الناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
1 – اتجاه يتسم بأسلوب مواجهة المحتل الخارجي سواء كان ذلك بالجهاد الشرعي أو المقاومة القومية، وهذا المسلك مقبول إجمالاً لدى الأمم لأحقية الشعوب في الدفاع عن نفسها وأرضها ومالها.

وقد حفل التاريخ الإسلامي بنماذج للتغيير الشرعي بمناهضة المحتل كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية والعز بن عبد السلام في صد التتار المنتسبين إلى الإسلام، وكذلك المنذر بن سعيد البلوطي وإخوانه من علماء الأندلس في حرب الصليبيين، ولما أخذت الفرنجة بيت المقدس قام العلماء بالتحريض على الجهاد فكان ممن خرج إلى الأمصار ابن عقيل رحمه الله وغير واحد من أعيان الفقهاء، وفي العصر الحديث لمعت أسماء في سماء ميادين الجهاد من أبرزها الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- في أرض الجزيرة، ومن بعدهما علماء الدعوة في الديار النجدية، وفي أفريقيا ظهر اسم عبدالحميد بن باديس بالجزائر مؤسس جمعية علماء المسلمين التي كان لها أثرها في الوقوف في وجه المستعمر الفرنسي، والشيخ عز الدين القسام في الأرض المباركة، وغيرهم من منتسبي العلم في السودان ونيجريا وأقصى أفريقيا، فاستحق صنيع أولئك أن يخلد ذكرهم، وقد قيل:


إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان

2 – اتجاه التغيير القسري، وله عدة أساليب:
أ – أسلوب الانقلابات من أبناء الشعب على الحكام والأنظمة المستبدّة، وقد يقود هذا لفرض أنواع من النظم المتباينة، فقد جلب ذلك الديمقراطية الفرنسة إثر ثورتها المشهورة في الغرب، وللشيوعية الماركسية إثر ثورتها في الشرق، فهذا المسلك مرفوض في الجملة لمفاسده الظاهرة فإن استقر الأمر بعده وارتفعت المفاسد وجيء بالأصلح ارتفع سبب المنع وأصبح نظاماً شرعياً ملتزماً بالكتاب والسنة كان له حق السمع والطاعة كما ذكر العلماء في حكم المتغلب على بلد من البلدان.

ب – أسلوب الاستعانة بعدو خارجي للبلد لتغيير النظم القائمة كما حصل في العراق وأفغانستان، وهذا الأسلوب مرفوض في الجملة فقد استقر قول أهل السنة على منع الخروج على الحاكم المسلم بالقوة ولو كان فاسقاً إن لم يكن خلعه بواسطة أهل الحل والعقد لما يترتب على ذلك من مفاسد تربو على المصالح كما دلت على ذلك النصوص الشرعية والشواهد التاريخية والواقعية.

وأما ما يسمى بالشرعية الدولية فهي وإن رفضت هذا المسلك نظرياً إلا أن دولها الكبرى تمارسه بأبشع صورة وسط تواطؤ عالمي مشين، والواقع المعاصر أكبر برهان.

3 – اتجاه التغيير الإصلاحي وهو أوسع أبواب التغيير السياسي المتاح وللناس فيه أساليب متعددة، ومن أنسبها في عصرنا الحاضر:
- أسلوب العمل الشعبي المتوجه إلى المجتمع أو الجمهور وهو من أبرز اتجاهات الإصلاح المعاصرة كعمل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة التربوية والاحتسابية والدعوية ونحوها، مع أهمية مراعاة البعد عن الفوضى، أو تقديم المفاسد على المصالح.

ومما تقدم يتبين أنّ لتنوّع الظروف والمجتمع الذي يقوم فيه شأن الإصلاح أثراً في اختلاف الأولويات والوسائل وهو في الجملة من اختلاف التنوع لا التعارض مما يوجب على أهل الإصلاح التعاذر عند الاختلاف واجتناب سوء الظن والتغليظ في النقد.
بل إن اختلاف الأسلوب والوسيلة قد يكون سائغاً لاختلاف التكوين النفسي أو العلمي أو الخَلْقي وإن كان ذلك في مجتمع واحد.

والمعيار لذلك الاختلاف هو العلم بالشريعة المقرون بفقه الواقع كما قال شيخ الإسلام: "والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا" الفتاوى الكبرى5/537.

ومن مجمل العرض الآنف يجد أهل العلم أمامهم مسالك مختلفة للإصلاح ربما كان لكثير منهم دوراً فيها، ويبقى التعويل في زيادة فاعلية أثرهم على مجريات الأحداث على ما مضت الإشارة إليه من اتفاق أصحاب المسالك المختلفة على مشاريع مشتركة تتضافر عليها جموعهم.

فعلى سبيل المثال قد تجد بعض حركات المقاومة أو الجهاد الإسلامي لها أثر ملموس في إنهاك المحتل، ولكن كثيراً منها ربما افتقر إلى رؤية سياسية واضحة، أو برنامج سياسي مصاحب لعمل المقاومة، وهذا الخلل قد يستغله غيرهم فيقطف ثمرتهم، كما قطف الشيوعيون ثمار الثورة على القيصرية في روسيا، والعلمانيون ثمار الجهاد في الجزائر. ولعل مما يكفل نوعاً من الأمان لحركات المقاومة وجود رؤية سياسية واضحة لها، أو على الأقل وجود تعاون مشترك واتفاق على مشاريع سياسية مع القوى التي ارتضت مسالك أخرى في التغيير.

ومما يحسن التنبيه إليه أنه في بعض الأحوال نظراً لملابسات واقع ما، ليس بالضرورة أن يكون دور العلماء أكثر من التوجيه والإرشاد والتقويم وفقاً لأحكام الشريعة وقواعدها مع السعي إلى جمع الكلمة مهما أمكن من أجل تكامل الجهود. بيد أنه لابد لجمهورهم من مباشرة العمل وإلاّ سيكون ثمَّ نوع قصور في التصور فضلاً عن الإصلاح وقد قيل:

لا يعرف الشوقَ إلاّ من يكابدُه ولا الصبابَةَ إلاّ من يُعانِيها

أدوار مهمة أخرى:
ويظل المطلوب من أولي الأمر من العلماء كثيراً، والمهمة الملقاة على عاتقهم عظيمة، سواء تجاه جماهير ما يعرف بالصحوة أو دعاتها ورجالاتها، فقد يرغب كثير من الناس في عمل الخير والبذل، لكن تشتبه عليهم السبل، فيخطئون الصواب، أو يقدمون ما من شأنه التأخير، إما جهلاً منهم بمقاصد الشريعة وغايتها الكبرى، أو أحكامها، أو لرأي قاصر وفقاً لما يسر لهم من وسائل الملاحظة والإدراك، فتتكرر الجهود وتتبعثر الاجتهادات، وربما سلكت بعضها مسالك آثمة جهلاً، فيأتي توجيه أهل العلم وأصحاب النظر مقوماً لما اعوج منها، ململماً ما تبعثر منها، موجهاً إلى حيث تعظم الحاجة. كما كان شأن أهل العلم والنظر قديماً.

ومع أن المطلوب من الشباب والدعاة عدم إغفال رأي أهل العلم، والحرص على استنباط الصواب بمشورتهم، إما عن طريق ضم نخبة منهم في مجالس استشارية، وإن تعذر فلا مناص لهم من وصولهم. مع ذلك فإن الواقع يقتضي كذلك نزول جماعات من أهل العلم إلى حيز العمل الدعوي فيتبنون المشاريع التي توجه الشباب، وترشد سير الدعوة، وتعنى بالتربية التي تخرج الأجيال وتحفظهم من الضياع والانحراف في مسالك الغلو أو الجفاء.

ويتأكد هذا عند حلول النوازل التي أمر الله تعالى بالرد إلى أهل العلم فيها، كما قال سبحانه: "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً"، فالأمة أحوج ما تكون عند النازلة إلى أهل العلم الراسخين والعلماء الربانيين، ولعل مما يتوجب على أهل العلم أن يكون دورهم حال النوازل أكثر من مجرد إصدار بيان –مهما وسعهم ذلك- على أهمية البيان للأمة.

ومما يسعهم غير بيان الحكم الشرعي والواجب تجاهه:
- اقتراح المشاريع والبرامج العملية التي يرونها كفيلة بمعالجة النازلة أو احتواء آثارها.
- المشاركة في تلك البرامج والمشاريع ولاسيما إذا وجهت لهم الدعوات بالمشاركة.
- مراقبة خط سير الأمة على المنهج الأقوم، حتى لا تدفع النوازل الطارئة إلى خروج عن الصراط المستقيم بردود فعل غير محسوبة، تدفع إليها الحماسة المجردة والعاطفة غير المنضبطة بعقال العقل الشرعي.
- الاستعداد لكل منافق قد يطل بقرنه أثناء النازلة، فكثير من المرجفين والمنافقين يغتنمون النوازل فيروجون لفكر منحرف يحاولون استبدال منهج الله به، فإن كان المصلحون لهم بالمرصاد أمكنهم الاستفادة من إفرازات أهل النفاق الضارة ومخالفاتهم في تأجيج الحق وإظهاره.
- رؤية ما تنطوي عليه النوازل من خير، ثم تبصير الناس به، والعمل على الاستفادة منه حتى لا يدب في نفوس الناس اليأس أو يستحكم القنوط.
- وأخيراً تثبيت الأمة وتصبيرها حتى لاتنقلب على عقبها أو تجزع مما ألم بها، بل عليهم بث التفاؤل الإيجابي وحسن الظن بالله مهما كان الظاهر خلاف ذلك، فهذا منهج القرآن وسيرة المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5)، (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) (يوسف: من الآية87)، "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولاتعسروا"(9).

وقد مضى ذكر بعض ما يفعل به دور أهل العلم فلا حاجة إلى إعادته، وأهمية الحرص على وسائل تفعيل أهل العلم حال النوازل ظاهرة، ولعل من ذلك تفعيل المؤسسات ذات الطابع العلمي والدعوي الرسمية في الدول دون حصر المسؤولية فيها فقد أناطها الله بعموم العلماء.

عامل مهم لتحقيق ريادة العلماء للأمة:
إن قيام العلماء بقيادة الأمة والنهوض بها يتطلب تحقيق عوامل مهمة نخص بالذكر عاملاً واحداً فيها:
استقلال العلماء: أعني به الاستقلال بمفهومه العام الذي يرتكز على تجريد النية لله عن كل ما سواه، ومن ذلك الحكومات والشعوب، فلا يقدم العالم على رضا الله، رضا أحد كائناً من كان محباً كان أم مبغضاً، قائداً أم منقاداً، وإنما هو مجتهد في إخلاص قصده لربه وتحقيق مطلوبه وفق ما يشرع، رضي من رضي وسخط من سخط، يتحرى في كل عمل صالح أنفعه وأحبه لربه، وهو مع ذلك ليس بمعزل عن التواصل مع الحكام والمحكومين، والناس أجمعين يدعوهم بدعوة المرسلين ويبتغي لهم رحمة أرحم الراحمين.

فالاستقلال الذي ندعو إليه هو استقلال عن كافة الأهواء البشرية والتجرد لرب البرية سبحانه وتعالى، والقيام له بالقسط ولو على حساب النفس وحظوظها أو الوالدين أو الأقربين، وهذا لا يتعارض مع المشاركة في أعمال الدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع، بل قد يكون واجباً عينياً على بعض العلماء، حتى لا تخلو الدولة من العلماء الربانيين والدعاة المهتدين والرجال الصالحين.

وإن من المهم التأكيد على بعض المصلحين قد يجب عليه أو يناسبه العمل من خلال مؤسسات شعبية مستقلة عن أجهزة الدولة الرسمية أو يختار المسلك الآخر بالعمل ضمن مؤسسة رسمية مع محافظته على استقلاله وعدم انجراره ضمن أعمال لا يدين الله بها، وسلوك هذا المسلك أو ذاك إنما هو وفقاً لحال المصلح ومقتضيات المصلحة التي يقدرها.

وإن هذا الاستقلال الذي ننشده للمصلح كما كان أو داعية هو سبب نجاح تلك المؤسسات وقبولها لدى الخاصة والعامة مع ما تبذله تلك المؤسسات وقامتها من المصلحين من حسن التواصل مع الآخرين حكاماً ومحكومين مما يجعلها محل الثقة ومرتكز التأثير، وهذا ما ننشده في أهل الإصلاح، وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى وجعلنا للمتقين أئمة، ونصر بنا المسلمين والملة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

________________
(1) من مقدمة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة.
(2) جزء من حديث صحيح رواه أبو داود (3641) والترمذي (2898) عن أبي الدرداء.
(3) كما في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي في الزهد (2557)
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/235-236.
(5) المرجع السابق.
(6) جزء من حديث صحيح رواه البخاري في كتاب العلم برقم (100).
(7) إعلام الموقعين 4/217.
(8) ينظر مجموع الفتاوى 3/421.
(9) رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري كتاب الجهاد والسير (4622).