أنت هنا

مقعد أتاتورك.. فراغ في الأيديولوجيا والسياسة
10 ربيع الثاني 1428

عندما تقف الكرة على حافة القلم، يصعب أن يتحدث عن الاستقرار أو عن رسوخ المفاهيم، وحينما يصبح المقيد مطلقاً والمطلق مقيداً، تمسي المفاصلة نوعاً من الأقيسة النسبية، وحيث النسبية تتسع رقعة اعتبارية المصالح والمفاسد.
لم يك ممكناً منذ سنوات أن يتخيل ـ مجرد التخيل ـ أن يجلس "إسلامي" على مقعد قطب العلمانية الأشهر في بلاد المسلمين، مصطفى كمال أتاتورك، فما الذي جرى الآن ليصبح البرفيسور عبد الله جول قاب قوسين أو أدنى من مقعد الرئاسة التركية؟!
في الحقيقة، الذي تغير كثير؛ فالكرسى ذاته قد تغير، كما لم يعد الجالس الافتراضي عليه هو نفسه المأمول منذ عقود سابقات كممثل لقطاع عريض من "الإسلاميين" في تركيا أو غير تركيا.
المعارضة تناوش الرجل طريقه "الصاعد" إلى سدة الرئاسة.. تتظاهر في الشوارع تارةـ وتقاطع في البرلمان تارة، وترفع قضايا أمام المحكمة الإدارية تارة، أو تحرك البورصة، أو تلتحم مع الجيش الحانق في رأسه من صعود هذا الرجل الذي يناصب العلمانية عداء مبطناً وإن أظهر خلاف ذلك.. والحاصل واحد: وهو أن هذا التحالف المتعفن من بقايا الأتاتوركيين ويهود الدونمة المسيطرين بقوة على البورصة والاقتصاد التركي، والمناصب الرئيسي في الجيش التركي، حامي العلمانية ودرعها الأول في بلاد الأناضول، كل هؤلاء لا يألون جهداً في الاستمساك بقلعتهم الأخيرة في السياسة التركية، وإن عبر ذلك عن ضعف شديد وضمور في الفكرة العلمانية التي حاول أتاتورك وأبناؤه وأحفاده أن يفرضوها فرضاً على تركيا المسلمة منذ أن حرّموا الطربوش ومنعوا الأذان وبدلوا اللغة وتجاسروا على قطعة قماش/الحجاب، فجعلوها عدوتهم اللدودة!! وساروا في طريق الهزائم السياسية والاقتصادية والعسكرية حين انشغلوا بالحجاب عن الأعداء المحدقين بتركيا من معظم أركانها.
الحاصل أن هذه العلمانية التركية بطريق الذبول، كما ذبلت الشيوعية وارتكست بعد عقود مقاربة، فلقد مرت على الشيوعية السوفيتية سبعة عقود حتى نقضت غزلها، واستفدت العلمانية التركية أغراضها بعد ثمانية عقود من جثومها على صدر الشعب التركي المسلم، لكنها لم تحمل عصاها راحلة عن المشهد لاسيما والغرب لا يقف حيالها كما فعل مع الشيوعية، بل ما زال يمد لها يد المساعدة حتى لا تبارح مواقعها التأثيرية في النظام التركي العتيق.
علمانية تركيا لا تلفظ أنفاسها الأخيرة هذه الأيام، فهي ما زالت الرقم الأصعب في المعادلة التركية، لكن ليس على قاعدة أيديولوجية يقدرها الأتراك، وإنما بحبل من الغرب واليهود.
فمقعد أتاتورك شاغر الآن، لأن بريق العلمانية قد خبا، ولم يعد لتأثيرها وجود إلا على نسبة لا تمثل الشعب التركي خرجت من قريب لتعلن احتجاجها على اندثار الأتاتوركية أو خوفاً من حدوث ذلك إذا ما تولى "إسلامي" الرئاسة في تركيا.
المعنى لاشك أنه وصل للجميع، وهو أن الأتاتوركية تترنح، لكن المقابل لذلك، ليس "إسلامية" بالمعنى المتعارف عليه، بل مقاربة لكبح "التطرف العلماني" في تركيا بما لا يناظره مكافئ في أي من دول العالم، حيث القصر كما المدرسة والبرلمان محرم على من ترتدي "قطعة قماش" تسمى الحجاب!! وحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي له رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوجان والرئيس المتوقع لتركيا عبد الله جول، يعترف أو بالأحرى يصرح بأنه "حزب علماني" ويؤكد دوماً رغبته في الانضمام للاتحاد الأوروبي ويذعن لكثير من الضغوط التي تمارسها ضده المؤسسة العسكرية (الحاكمة بقدر كبير في تركيا).. وهذه المقاربة وهذا السلوك يطرح من جديد هذه الإشكالية، وهي أنه هل المرتجى أن يمضي "الإسلاميون" إلى أهدافهم بالوصول لمناطق التأثير في بلاد النظم العلمانية بمبادئهم، أم يكفي الوصول للكراسي بالأجساد وقدر معقول من المبادئ والقناعات، أو بهذه وتلك مع إبقاء الأخيرة حبيسة الضمائر؟!
على كلٍ، فلن يرى أي مسلم إلا مسروراً إذا وجد العلمانية مغلولة الأيدي، ولو على أيدي رجال لم على الأقل لا يحملون عداء للإسلام، بل يحملون في نفوسهم رغبة في أن يسود هذا الدين ويعلو وإن قصرت بهم أعمالهم عما نطمح معهم إليه.