أنت هنا

ما بعد اتفاق مكة المكرمة
24 محرم 1428

لاشك أن التزامن الحاصل لاتفاق مكة المكرمة مع الجريمة النكراء التي أشعل به الكيان الصهيوني المنطقة عبر اعتدائه الآثم على المسجد الأقصى المبارك، كان له أثره في نفوس المسلمين الحذرة من أن يسهم التوتر بين الفصيلين الأكبر في فلسطين (حماس وفتح) في تشجيع الصهاينة على المضي قدماً في مخططهم الرامي إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
أتي الاتفاق سلواناً لهذه القلوب المكلومة لأقصاها في أقصاها، ليس لأن هذا الاتفاق سيفضي بالضرورة ـ حال تنفيذه ـ إلى إعادة بيت المقدس إلى المسلمين أو الحؤول دون تجسيد وساوس المتطرفين اليهود المهووسين في فعل تدميري ربما كان متوقعاً فيما يأتي من الأيام القادمة، وإنما لأن الجميع قد بات يدرك حجم العبء الذي يتحمله الفلسطينيون في الذود عن الأقصى الشريف، هذا العبء الذي لا يكاد يتحمله غيرهم.
وعلى نحو واقعي، لا يمكن أن يكون الأقصى في أمان وبأس المسلمين شديد حوالَيه، وإذا كان الجميع الآن قلق على بقاء المسجد الأقصى؛ فإن هذا القلق يتأكد كثيراً حال استمرار الاحتراب الفلسطيني، وانسياب دم الشباب الفلسطيني الغالي.
وقد بعث اتفاق مكة المكرمة في النفوس الأمل بحصول قدر من التوافق الفلسطيني حول أجندة إسلامية/وطنية تستند إلى ثوابت الشعب الفلسطيني وتحترم حقه الشرعي في مقاومة محتليه، غير أنه من اللازم أن لا يفرط الشعب الفلسطيني في تفاؤلهم بشأن هذا الاتفاق ما لم يتحقق له بعض الضمانات الواجب توافرها لتحقيقه؛ فالرعاية الملكية السعودية التي أحاطت الفصيلين الفلسطينيين في مفاوضتهما ودفعتهما نحو إيجاد قواسم مشتركة من أجل تشكيل الحكومة الفلسطينية المقبلة، والاتفاق على برنامج لهذه الحكومة، ستؤتي أكلها حين تمتد إلى ما بعد الأجواء الاحتفالية التي صاحبت الاتفاق، وتشكل ضمانة لاستمرار هذا الاتفاق والعمل على تسويقه على النحو الذي جرى عليه في الصعيدين الإقليمي والدولي، وهذا قد تبدت إرهاصاته من خلال الإصرار البادي على إنجاح هذا الاتفاق من رعاته. وإبداء الفصيلين لحسن نواياهما تجاه بعضهما البعض لابد وأن يتأكد من خلال الوفاء بتعهداتهما أمام الدولة المضيفة للقاء مكة، وإلا فإن أي فصيل يخل بالاتفاق يعرض سمعته العربية للخطر، لاسيما وأن اتفاقات مماثلة في العاصمة المصرية قد عرضها البعض للنقض لاسيما في مسألة تجديد روح منظمة التحرير الفلسطينية العتيقة وإعادة هيكلتها، وبالتالي فإن تكرار ذلك في أعقاب اتفاق مكة سيفضي بالوسطاء والرعاة العرب إلى التفكير جدياً عند التدخل لحل مشاكل الفرقاء الفلسطينيين.
الاتفاق كما تبدى هو صريح في عباراته وبنوده، وهو قد جاء ليؤكد على اتساع هامش الشراكة بين الفصائل الفلسطينية، ويكشف كل عابث بمكتسبات الشعب الفلسطيني، ممن يستنكفون عن التسليم لغيرهم بحقه في صياغة القرار الفلسطيني والشراكة فيه مثلما يشاطر هو الآخرين في حمل بندقية النضال، ويظهر كل عاشق للحياة في جحور التآمر الخارجي الرامي إلى تسليم الحقوق الفلسطينية غضة إلى العدو المتربص، من أولئك الذين سارعوا إلى تحميل الاتفاق ـ رغم وضوح عباراته ـ غير ما يحتمل من دعوى الاعتراف بـ"إسرائيل"، مع ما يعنيه ذلك من الاستخفاف بمشاعر الفلسطينيين، بل كل مسلم، يرى المسجد الأقصى المبارك تزلزل أسسه وقواعده في حين يبذل البعض ـ في الداخل الفلسطيني وخارجه ـ كرامته وماء وجهه من أجل أن يحمل حركة حماس على الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب بعد أن سبقها هو بالاعتراف محاولا في الوقت عينه أن يلوي عنق الاتفاق ليشمل هذا الاعتراف المذل.
إن أحداً إلى جوار الكعبة الغراء/قبلة المسلمين الدائمة لم يتحدث عن الاعتراف بكيان يتهدد الأقصى المبارك/قبلة المسلمين الأولى، وبالتالي؛ فإن "مزيفي الاتفاق" ممن لهم حساباتهم الخاصة التي قد لا تتفق حتى مع حركتهم، سرعان ما قدموا تفسيراتهم المغلوطة لهذا الاتفاق وفقاً لقراءتهم الممزوجة بأمنياتهم الأسلوية، فعادوا إلى قضية الاعتراف بـ"إسرائيل" ليضعوها على الطاولة من جديد.
إن الاتفاق الذي ترافق مع طواف موقعيه بالبيت العتيق أثلج الصدور الحريصة على فلسطين ومناضليها، لكنه لابد وأن يعتبر خطوة ينبغي لجميع الدول العربية أن تبني عليها وتقدم لها ما يدعمها ويدعم المخلصين من موقعي الاتفاق، فالحكومة الفلسطينية القادمة بزعامة المجاهد إسماعيل هنية هي الآن تنطلق من أرضية اعتراف عربية ثقيلة ودعم مأمول يسعى لفك الحصار المضروب على سابقتها، وبالتالي فالاعتراف العربي القوي الآن بتمثيل حركة حماس لأغلبية الشعب الفلسطيني يمنح الأخيرة هامش تحرك سياسي أوسع، لكنه سيظل رهين الدعم العربي الفعلي المنشود، وهذا لن يكون بدوره متحققاً ما لم تجعل الدول العربية جميعها هذا الاتفاق امتداداً لقرار وزراء الخارجية العرب بفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، وتجعل منه أيضاً وثيقة تحظى باحترام وتقدير الجميع يتوجه بها إلى العالم كله بموقف محلي وإقليمي موحد وقوي.