أنت هنا

فلسطين:"إلا كتاب الله".. الدنمارك:"إلا رسول الله":البعد الغائب
15 جمادى الثانية 1427

الغضب لله من أمارات قوة العقيدة في نفوس المؤمنين, وهو أمر محمود أن يشيع بين المسلمين, ويسعد المرء حين يجده متجهاً وجهته الصحيحة دون توظيف من هذه الجهة أو تلك, وحين يرى رد الفعل متناسباً مع الفعل ذاته, ويراه متوائماً مع نظرائه من الأحداث المتشابهة, نابعاً من نفوس طائعة لله لا تخطئها الأبصار في مواطن الرجال ومحل تواجدها..
تطامن النفوس إذا ما لمست تماثلاً بين ردود الأفعال على النظائر والأشباه, تعلم حينها أن البوصلة مضبوطة باتجاه أفق واحد.
في الأمس القريب, وقفت الأمة الإسلامية وقفة رجل واحد, وخرجت عن بكرة أبيها تزأر في وجه الدولة الاسكندنافية الصغيرة (الدنمارك) لاجتراء إحدى صحفها على مقام النبي الخاتم _صلى الله عليه وسلم_, ونشرها رسوماً هزلية تسخر من النبي _صلى الله عليه وسلم_, وكانت المساهمة الفاعلة من شرائح مختلفة من المجتمع في إظهار الغضب والإدانة لهذا المسلك غير الإنساني والحضاري مبعث فخر وفي الأقل ارتياح من الشعوب المسلمة التي وجدت في صفها جميع الأطياف وأرباب المهن والوظائف المختلفة تقول لا لهذه البذاءة, وترفع في وجه الغرب كله شعار "إلا رسول الله".
ومع كل هذا الارتياح؛ فإن أحداً لم يزعم أن هذا الشعار هو نافٍ لإظهار الغضب لانتهاك أي مقدس لهذه الأمة, لاسيما إذا ما تعلق الأمر بكتاب الله _سبحانه_ ودستور الأنام ومعجزة هذه الأمة الكبرى الذي جاء به النبي _صلي الله عليه وسلم_, ولذا فقد كان من الغريب أن تلتئم القلوب وتتحد الصفوف وترتفع الحناجر غضبة لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ولا تنتفض غضباً لانتهاك قداسة هذه الرسالة المتمثلة في شقها الأول بكتاب الله _سبحانه جل في علاه_ أو انتهاك حرمات بيوته (المساجد).
ولئن سبقت الرسوم البذيئة اعتداء وتدنيس للمصاحف في معتقل خليج جوانتنامو سيئ السمعة, وتلتها حوادث مماثلة ومتكاثرة قامت بها بعض الميليشيات الطائفية فيما أعقب أحداث سامراء قبل أشهر بالعراق, وما تردد كذلك عن تدنيس المصحف في أحد سجون تونس؛ فقد كرر الصهاينة هذا الفعل الشنيع قبل يومين دون أن تطرف لمؤسسات في العالم الإسلامي جفن حياله, حيث طيرت الأنباء أول من أمس ـ وفقاً لصحيفة الخليج الإماراتية ـ خبراً يؤكد فيه فلسطينيون من بيت لاهيا التي انسحبت عنها قوات الاحتلال مخلفة دماراً واسعاً، أن الجنود "الإسرائيليين" مزقوا المصاحف وجرفوا المقابر وشربوا الخمر، ورقصوا طرباً عند استشهاد فلسطيني. ونقلت الصحيفة عن محمد ارحيم (45 سنة) من سكان حي الإسراء غربي بيت لاهيا وصفه للمشهد المشين: "كانوا يرقصون (جنود الاحتلال) ويحتفلون على جراحنا النازفة.. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل مزق جنود الاحتلال مصحفاً شريفاً كان بداخل المنزل وداسوا عليه بالأقدام", فيما أكدت الصحيفة من جهتها أن جنود الاحتلال قبل انسحابهم من أحياء العطاطرة والسلاطين والإسراء غرب بيت لاهيا، قد دمروا منازل المواطنين، وجرفوا مئات الدونمات الزراعية واقتلعوا أشجار الزيتون والحمضيات وكروم العنب وجرفوا الطرق الرئيسية والفرعية، وأسقطوا أرضاً أعمدة الكهرباء والهاتف، ودمروا أنابيب شبكة المياه وجرفوا المساحة الكبرى من مقبرة الإسراء وهدموا أجزاء من مسجدي الهدى والإيمان.
كان المشهد مشيناً ومهيناً, لكنه مر بهدوء ربما لأن "إسرائيل" ليست كالدنمارك, ربما لأن التفاعل الإعلامي ما زال بعد محدوداً, ربما لأن جهات عديدة اهتمت بحادثة الرسوم على نحو لم تر معه داعياً للاهتمام بغيرها, ربما لأن شعار "إلا كتاب الله" لم يرفع بعد, ربما لأن الفعاليات الإسلامية عاجزة عن تجييش الأمة إلا في حادثة واحدة, ربما لأن المسألة الدنماركية شهدت مزايدات وتسجيل مواقف أكثر منها غضبة حقيقية لدى بعض الجهات المهيمنة على الإعلام في بلدانها.. أو ربما لأن الحادثة الدنماركية تسلطت الأضواء أكثر عليها لأنه قد صاحبها إصرار وتصميم من المجموعة الأوربية على تأييد الدنمارك في عدم معاقبة الجناة أو تقديم اعتذار.. ربما لأن ليس هناك من سياسي في عالمنا العربي يتأمل أن يقدم الكيان الصهيوني اعتذاراً عن جرائمه المزمنة, ربما لأسباب أخرى.. بيد أن كل هذا لا يعفي الكثيرين من الازدواجية التي ينظر بها للمتماثلات بعدسات مختلفة.