أنت هنا

المنهج الشرعي في تقويم الرجال
18 جمادى الأول 1427

تقويم الرجال مدحاً أو ذما ، تعديلاً أو تجريحاً.. ظاهرة صارت من العلامات المميزة للحوار الساخن الذي يملأ ساحات الحوار والنقاش.
وعلى الرغم من سعة هذا الباب لاختلاف الآراء في تقويم الرجال فإن أجواء هذا التقويم تعرض لها في كثير من الأحيان موجات من الانحراف والغفلة عن الضوابط الشرعية للتقويم مدحاً كان أو ذما ، فيتحول التقويم إلى ساحة عنف وقتال، يكثر فيها التنازع والظلم والتضليل والغلو، تضيع فيها الصورة الحقيقية المتوازنة، لاسيما إذا كانت الشخصية التي يدور حولها التقويم ذات بعد قيادي أو دعوي أو علمي كبير.

ومن بين الأساليب المنحرفة في تقويم الرجال يبرز أسلوبان يعدان من أبرز الانحرافات التي ظهرت في ساحات الحوار والمنتديات وغيرها، يحتاجان إلى تحذير خاص بهما لما فيهما مفاسد وأضرار كبيرة.
أول هذين الأسلوبين المنحرفين: التوظيف السيئ، والمضلل أحياناً كثيرة، لكلام أهل العلم، دون مراعاة أو فقه لغرض كلامهم والسياق الذي ورد فيه، لدرجة تصل إلى حد السفه، وضرب كلام أهل العلم بعضه ببعضه الآخر، حتى تجد من رواد الساحات والمنتديات من يفتش ويبحث في كتب أهل العلم وشرائط دروسهم لا ليتعلم ويتفقه في الدين، ولكن ليخرج بكلمة قالها الداعية أو العالم في رجل يمدحه أو يجرحه، ليستشهد بها في ساحات الحوار على جرح فلان أو تعديله، والعجيب أن المخالفين له في ساحة الحوار سرعان ما يأتون بكلام للعالم أو الداعية نفسه وهو يقول كلمة تخالف كلمته الأولى مدحاً كانت أو ذماً! أليس هذا من سوء الأدب مع العلماء، ومن الأسباب التي قد تنفر الناس منهم وتقلب آراءهم، فتجد من كان يحب عالماً صار يبغضه لأنه مدح فلان، أو لأنه ذم فلان!
أليس هذا الأسلوب قد يخرج بالكلام عن سياقه الأصلي ويضلل الناس عن غرضه الحقيقي! كما قد يؤدي إلى تشكك بعض الناس في كلام العلماء، وإظهاره بمظهر المتناقض!وهو_ إن شاء الله تعالى_ ليس كذلك.
وهنا لا بد من التنبيه بأن كلام العلماء في المدح والذم قد يكون على إطلاقه وعمومه، وقد يحتف به من الظروف والأحوال ما قد يجعله خاصاً بحال للشخص الممدوح أو المذموم دون حال، ووقت دون آخر، أو يكون خاصاً بجانب أو عمل معين ولا يشمل المدح أو الذم سائر الجوانب لدى هذا الشخص، ومن هنا قد يتنوع كلام العالم، فقد يمدحه مرة، وقد يذم الشخص نفسه مرة أخرى، بحسب حال الشخص. وقد يريد العالم أو الداعية تحذير قوم دون آخرين لتجنب فتنة أو ما شابه ذلك، فيأتي هذا المتسرع إلى ساحات الحوار والمنتديات فينشر كلام العالم؛ فيوقع الفتنة التي من أجلها قصر العالم كلامه في المدح أو الذم على بعض الناس.

الأسلوب المنحرف الآخر في تقويم الرجال هو الحكم العام المطلق على الشخص دون النظر إلى إيجابياته وسلبياته والموازنة بينهما، والغفلة عن أن المسلم قد يجتمع فيه في آن واحد الخير والشر، والعلم والجهل، والطاعة والمعصية، وهو عرضة للسهو والنسيان والخطأ، وبناء على ذلك ينبغي أن يكون التقويم قائماً على التفريق بين خيره وشره، وصوابه وخطئه، فنواليه في طاعته وخيره وصلاحه وصوابه، ونلتزم بضوابط الشرع في مدحه، ونتبرأ مما وقع منه من معصية وشر وخطأ، ونلتزم بضوابط الشرع في ذمه.

وتأمل أخي القارئ كيف فرّق الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في شخص واحد بين خيره وشره, وصلاحه وفساده، فأقـر له بما فيه من خير، وفي الوقت نفسه أقام عليه الحد في معصية اقترفها، وأمر الناس بتوبيخه عليها، فعن عمر بن الخطاب: "أن رجلاً على عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان اسمه عبد الله، وكان يلقّب حماراً، وكان يُضحك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهمّ العـنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا تلعـنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ". رواه البخاري، رقم 6398 . قال الحافظ في الفتح: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه _صلى الله عليه وسلم_ أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه. وأن من تكررت منه المعصية لا تُنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيداً بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد...".

وانظر إلى موقف الرسول _صلى الله عليه وسلم_ من الصحابي المجاهد خالد بن الوليد؛ كيف مدحه في موقف، وتبرأ مما ارتكبه من خطأ في موقف آخر، فلم يجعل خطأه هادماً لفضله، فقد وصف _عليه الصلاة والسلام_ خالد بن الوليد لما قاد المسلمين في مؤتة بعد أن كادت الروم تجتاحهم بأنه سيف من سيوف الله، لكنه لما أخطأ في معاملة بني جذيمة حين قالوا صبأنا صبأنا، وهم يقصدون أسلمنا لكنهم لم يحسنوا القول، فلم يقبل منهم ذلك ظناً أنهم لم يسلموا، فقتل منهم وأسر، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين، كما رواه البخاري، قال في الفتح: "وقد عذر النبي _صلى الله عليه وسلم_ خالد بن الوليد في اجتهاده، ولذلك لم يقد منه".

فلا ينبغي لنا أن تكون مواقفنا من رجال العلم أو الدعوة أو الجهاد على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم وأعمالهم على أساس الرفض المطلق، أو القبول المطلق، إلا على أساس من برهان واضح، وتثبت عميق، والحكمة والعدل تقتضي أن نفرق، فما كان من أعمالهم أو أقوالهم صواباً كله نقبله كله، وما كان خطأ كله رفضناه كله، وما كان فيه صواب وخطأ قبلنا صوابه، وأثنينا عليه، ورددنا خطأه، وحذّرنا منه، فلا تكون معصية العاصي مهدرة في حسابنا لطاعته، ولا خطأ المخطئ وسلبياته هادمة لصوابه وإيجابياته.