2 ذو الحجه 1436

السؤال

السلام عليكم، مشكلتي للأسف مع أمي فأنا أحبها كثيرا وأحاول دائما بأن أرضيها، إلا أنها تهينني بعبارات قاسية، ويزعجها ثقتي في نفسي ورضاي عن نفسي وعن حياتي ومشاكلي مع أهل زوجي، وتسامحي مع الناس، وإذا شكرني الناس أو مدحوني أمامها، تظن أنهم يسخرون مني لأنني غبية وأحتاج إلى إصلاح مرآتي كي أرى فيها بشاعتي، وقد حاولت أن أقلل من زياراتي لها حتى أتجنب لسانها السليط ولا أكرهها بسبب إساءتها لي، وحين كنت في السابعة من عمري أصبت بسرطان حميد كاد يؤدي بحياتي، فما كان منها ومن أبي رحمه الله إلا أن أرسلاني إلى تونس وانفصلا عني وبقيا في الخارج، وبقيت مع جدتي رحمها الله، وكنت أذهب إلى المستشفى بمفردي، وكلما تذكرت هذا الأمر أتألم، ولكنني أحاول أن أتجاوزه وأتناساه، إلا أنها لا تمل من إهانتها ولا من سخريتها وفي كل مرة تقول لي.. أنت مسكينة تركتك أمك لأنها لا تحبك وتتعمد الضحك والسخرية لأنها تعلم بأن هذا الأمر يؤذيني جدا، ولا أعرف لماذا تتصرف معي بهذا الأسلوب، فأرجوكم كيف أتعامل معها فأنا أحبها ولكنني أحب نفسي أكثر ولن أسمح لأحد بأن يؤذيها..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أختي السائلة الكريمة، بداية أشكر لك ثقتك بنا، واختيارك لموقع المسلم لبث همومك والبوح بمشكلتك، وأسأل الله أن يوفقني لمساعدتك وتفريج كربتك إن شاء الله..
فهمك عظيم، لأنه متعلق بإحساس عميق تجاه أمك التي تحبينها، وهو إحساس يحمل الكثير من المعاناة النفسية المتصلة عندك بأحداث الطفولة، فأنت لم تستطيعي نسيان موقفها وموقف والدك رحمه الله، خلال المرحلة التي مرضت فيها وأرسلاك بعيدا عنهم للإقامة مع جدتك لمتابعة علاجك، وقد قاومت كثيرا هذا الشعور بوجع الماضي وحاولت أن تمسحيه من ذاكرتك وتتجاوزي معاناتك، إلا أن أثر الجرح ظل غائرا في دفائن نفسك وحاضرا موجودا بداخلك، ينعكس لاشعوريا وبشكل سلبي على مواقفك وسلوكك ونظرتك لأمك وحكمك على تصرفاتها، في حين أن الحياة عبارة عن فصول ومراحل وحلقات منفصلة عن بعضها في الأحداث والمواقف والمشاعر والأفكار، أما اجترار معاناتك من مرحلة الطفولة ثم ربط حلقاتها بالحاضر فهو جلد للنفس ونوع من التعذيب النفسي، يعمِّق الشعور بالألم ويرفع من مستوى الضغط العصبي والتعب النفسي..
ومن النصائح التي أقدمها لك ـــ أختي الكريمة ـــ ما يلي:
أولا: تخلَّصي من ذاكرة الماضي الحزين وتحرَّري من ذكريات الطفولة المؤلمة، فشعورك بتقصير والديك وتخلِّيهم عن واجبهم تجاهك خلال مرحلة مرضك، كفيلٌ بأن يجعل نظرتك إلى أمك نظرة سلبية من كل الزوايا والنواحي، كما يجعل حكمك على أقوالها وردات أفعالها وسلوكها العام حكما يعتريه الضعف والقصور والتعصب للرأي المرتبط بعاطفتك التي عانت في الماضي، فصار حكمك عليها عبارة عن إدانة واتهام ونقد لكل ما يصدر عنها، فلو غيرت من نظرتك السلبية لتوجيهاتها وانتقاداتها وإهاناتها لأمك وابدئي معها صفحة جديدة في كتاب الحاضر والمستقبل إن شاء الله، فحين تتغير نظرتنا السلبية للأشياء وللأشخاص تصبح أحكامنا إيجابية ومواقفنا وتصرفاتنا وردات أفعالنا كذلك تسير في طريق مشرق بالأمل والفرح..
ثانيا: من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليك هي نعمة العفو والتسامح مع الناس، فالأوْلى بك أن تطبقي هذا السلوك الجميل وهذا الشعور النبيل مع أحبِّ الناس إلى قلبك وهي أمك، فأَفْسِِحي لها مساحة رحبة من العفو والمغفرة، فالحبُّ ليس شِعارًا أو كلمات أو حروفا على الورق، بل هو إحساس عميق يسكن القلب وتترجمه الحواس، فيدعوك للتضحية والبذل والعطاء بلا مقابل، ويجعلك تتقبلين أخطاء من تحبين بقلب سَمْح وصدرٍ رَحْب، وتتحملين هفواتهم وزلات لسانهم وأخطاءهم المكررة والصبر على إساءتهم، فقدِّمي لأمِك برهانا يثبت مدى حبك لها بإحسانك إليها قولا وفعلا وسلوكا ومعاملة طيبة..
وتتبَّعي آيات القرآن الكريم وانظري كيف تكرَّر فيها الإرشاد الإلهي وتوجيه الأبناء للإخلاص في المحبة والوفاء بحقوق الآباء والأمهات وبرِّهم، ولم يجعل لذلك شروطا مخصصة بمن يستحق من الآباء والأمهات، بل ترك مجال الإحسان إليهم عطاء مطلقا يشمل كل الأصناف مهما كانت طبائعهم أو أسلوبهم في التعامل والتصرف..
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [سورة العنكبوت:8]، وقال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [سورة لقمان:14]، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء:23].
ويكفيهم شرفا ورفعة ودليلا على عظمة قدرهم ومكانتهم أن الله سبحانه وتعالى جعل الإحسان إليهم بعد تحقيق التوحيد والعبودية لله مباشرة..
ثالثا: احمدي الله تعالى لأن أمك ما زالت على قيد الحياة لتبرِّيها وترضيها، وتبْذلي لها الطاعة والرضا، وتهبيها من وقتك النفيس للاهتمام بشؤونها ولرعايتها وتلبية طلباتها، والإحسان إليها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فلا يعلم بقيمة وجود الأم في حياته إلا من فقدها، بل هناك من الأبناء من يتمنى لو أمه على قيد الحياة ليهبها روحه وحياته ويكون موطئ قدميها والتراب الذي تمشي عليه، وظلها من الحر والبرد، والعصا التي تتوكأ عليه، والعين التي ترى بها والأذن التي تسمع بها واليد والقدم التي تتحرك بها..
ولا تنسي أنها هي من حملتك في بطنها تسعة أشهر، ولاقت من الشدة والعناء وأوجاع المخاض والولادة كي تري أنت نور الحياة، وتحملت شهور الرضاع ورعايتك والسهر على راحتك حتى استقام عودك واشتد، وتأمَّلي في قوله سبحانه وهو يوصي الإنسان بوالديه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [سورة:14].
رابعا: ثقي ــ أختي الكريمة ــ بأنك فلذة كبدها ودمك من مجرى دمها، ونبضك من عرق نبض قلبها، وأنك قطعة منها ونفس من أنفاسها تتحرك في هذا الوجود، وسعادتك من سعادتها، وروحها تفديك، وحبك لها لن يضاهي مقدار حبها لك، لأنه شعور الأمومة شعور عظيم الشأن وإن كانت ردات أفعالها قاسية فذاك قشر الظاهر وهو أشبه بقشر الجوز الصلب وغلاف الثمرة أما باطنها فهو حب الأم التي تتمنى السعادة والفرح والهناء لابنتها..
خامسا: التمسي الأعذار لأمك، ولا تكوني قاسية وشديدة في أحكامك عليها، ولا تجعليها تدفع ثمن أخطاء الماضي، بل كوني رحيمة بها مصداقا لقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [سورة الإسراء:24].
واغتنمي لحظات وجودك معها لتنالي دعوة من دعواتها فهي مستجابة عند الله، وجرِّبي أن تشعري معها بلذة السعادة، والتي لن تتحقق إلا إذا أنت احتضنتها بعاطفة الابنة المُحِبَّة الودودة، التي تخفض جناج الذل من الرحمة لأمها وتشفق من حالها، وترعاها بالنصيحة والموعظة الحسنة..
وتقربي إليها بما يسرُّ خاطرها من الهدايا، سواء في المناسبات أو الأعياد أو حتى بدون مناسبة، لكي تشعر بمقدار حبك لها وتعلقك بها، وخصِّصي لها وقتا للخروج في نزهة أو السفر معها في الإجازات، وشاركيها لحظات الفرح والسعادة بأبسط الوسائل والأسباب التي تتوفر لديك، وإن لم تظهر لك امتنانها وشكرها ورضاها عنك، فهناك من الأمهات من عندهن موروث خاطئ عن أسلوب التعامل مع الأبناء، فيعتقدن بأن الشدة والتعنيف واللوم والإهانة والتجريح هي من أصول التربية السوية لتحقيق الطاعة والإذعان للأوامر، ولفرض هيبتهم وسلطانهم وتقديرهم..
سادسا: تعاملي مع أمك بحكمة، وتحرَّري من فكرة أنها تتعمَّد إهانتك، أو التنقيص من قدرك أو التشكيك بثقتك بنفسك واختياراتك، بل هي من حبها لك تخاف عليك ممن حولك، فتتوهم أن مدحهم وثناءهم ليس إلا نوعا من أنواع المكر والخديعة والمجاملات الاجتماعية التي تخفي وراءها أطماعا أو قضاء مصلحة بعينها، فالأم في الأغلب تمتلك فراسة قوية تجعل رؤيتها وتقييمها للأشخاص والأمور أعمق، وقد يعتريها الخوف الشديد على أبنائها إلى حد الوسوسة والشك والغيرة من المقربين والمحيطين بهم..
وفي الختام أقول لأختي الكريمة.. أنت اليوم زوجة وربة بيت وناضجة بما يكفي لتشعري بالثقة بنفسك واختياراتك، إنما لا قيمة لتلك الثقة إن لم تنجحي في إصلاح علاقتك بأمك وتفلحي في امتلاك قلبها وكسب تقديرها وثقتها وافتخارها بك، فأنت وحدك من تملكين أن تغيري مجرى حياتك ومجرى علاقتك بها، فلا تجعلي معاملتها تؤثر عليك سلبا، بل كوني قدوة للابنة الصادقة المخلصة في محبتها واغمريها بحنانك،لأنك يوما ما ستحصدين ثمار ذلك في أبنائك وبيتك وعملك وحياتك بالكامل..
أسأل الله العلي القدير أن يرزقك برَّ أمك وأن يصلح ما بينك وبينها ويؤلف ما بينكما بميثاق الحب ورابطة المودة والرحمة وأن يرزقكما السعادة الدائمة..