أنت هنا

مقاومة العدوان في الكتاب والسنة
19 صفر 1435
د. ماهر مهران

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد؛
فشريعة الله جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وقد كان المسلمون في صدر الإسلام يعيشون في استضعاف وذل، تسلط الكفار عليهم واستطال شرهم ولم يكن بوسعهم فعلُ شيءٍ؛ إلى أن أذن الله لهم في رد عدوان المعتدين، وقمع الكافرين بعدما قويت شوكتهم، وقامت دولتهم، فعذب الله الكفار بأيديهم، وأخزاهم، ونصر جنده الموحدين، وأزال ما داخل قلوبهم وصدورهم من وحَرٍ وغُمَّة، وضيق وظُلمةٍ.

 

فأقول مستعينا بالله، مستلهماً الصواب منه:

 

مشروعية رد العدوان

إنَّ من أشد الأمور حرمةً، وأعجلها عقوبةً، وأشدها مقتاً: الظلمَ والعدوان، ولهذا كثرت النصوص الدالة على مشروعية ردِّ العدوان، ومن هذه الأدلة:
قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}.
قال ابن كثير رحمه الله –في هذه الألفاظ: عاقبتم، عاقبوا، سيئة، سيئة- : "الأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما" (1/184)
ويقول ربنا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

وقال تعالى آمراً برفع الظلم عن الضعفاء، ورد عدوان المعتدين على الرجال والأطفال والنساء: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.

 

قال ابن كثير رحمه الله: "هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكُفُّوا شر الأعداء عن حَوْزة الإسلام" تفسير القرآن العظيم (1/572).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» رواه أحمد والنسائي.

 

يقول المناوي رحمه الله معلقا على هذا الحديث: "قال ابن جرير: هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه والحث عليه كائناً من كان؛ لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً" [فيض القدير 6/253].

 

ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
وكل نصٍّ مُدح فيه المجاهدون والشهداءُ فهو دليل على مشروعية رد العدوان في شريعة الله.

 

مشروعية دفع الصائل ولو كان مسلما

مسألة دفع الصائل وجواز قتله إن لم يندفع شره إلا بالقتل مجمع عليها، قال ابن حجر رحمه الله: "واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله، فدفع عن نفسه، فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه" (12/222).

 

فلو قيل:
ألا يتعارض دفع الصائل مع حديث مسلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»؟

 

فالجواب ما قاله الإمام النووي رحمه الله: "وهذا الحديث والأحاديث قبله وبعده مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يُقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبى بكرة الصحابي رضي الله عنه وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إنْ قُصد دفع عن نفسه. فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامةِ علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي ...}  الآية، وهذا هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون، والله أعلم" [شرح النووي على مسلم (18-8-10)].

 

كيف يدفع الصائل؟

وفي الإقناع (2/199) "فإن أمكن دفعه بكلام أو استغاثة حرم الدفع بالضرب، أو بضرب بيد حرم بسوط، أو بسوط حرم بعصا، أو بعصا حرم بقطع عضو، أو بقطع عضو حرم قتل؛ لأن ذلك جُوِّز للضرورة، ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، وفائدة هذا الترتيب أنه متى خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دونها ضمن، ويُستثنى من الترتيب ما لو التحم القتال بينهما واشتد الأمر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب".

 

ثالثاً: وجوب نصرة المسلمين ورد العدوان الواقع عليهم

كل آية تحدث الله فيها عن موالاة المؤمنين فإنها تحتِّم علينا أن نقوم بهذا الواجب العظيم حيال إخواننا المستضعفين من المؤمنين.
ومن النصوص التي توجب على المسلم نصرة إخوانه قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ» أخرجه البخاري.

 

وكما أمرت النصوص برد العدوان على المؤمنين رغبت فيه، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من خِذلان المسلمين في غيرما حديث.
منها: حديث جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنهم جميعاً، قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إلا  نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ» رواه أحمد وأبو داود.

 

رابعا: الفرق بين ردِّ العدوان والإرهاب

ليس غريباً ألا يكون للإرهاب تعريف جامع مانع يضبط المفردة ويحدد المراد منها! وذلك ليسوغ لأعداء الله أن يوجهوا سهامهم إلى من شاؤوا بدعوى (الإرهاب)! و (القضاء على الإرهاب)!!
وليس بعيداً عن الصدقِ قولُ من قال: "الإرهاب: كل ما تبغضه أمريكا وتأباه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"!!

 

والإرهاب نوعان: إرهاب مشروع، وهو كل فعل شرعي يبعث خوفاً يردع أعداء الله عن السبق بالاعتداء أو التمادي فيه. وإرهاب مذموم: وهو كل فعل يراد منه ترويع الآمنين من المسلمين أو الكفار غير الحربيين بإلقاء الرعب في قلوبهم وزرع الخوف في نفوسهم. وهذا النوع يسميه الشرع بغياً أو ظلماً أو عدواناً.

 

والمقاومة المشروعة مراد بها ما يسميه فقهاؤنا بجهاد الدفع، وهو ما يدفع به المسلمون عن دينهم وديارهم وأموالهم وذراريهم، ضد من بدأهم بالظلم والعدوان [الفرق بين الإرهاب والمقاومة المسلحة المشروعة].

 

وأختم بآية وحديث:
أما الآية: فقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}، أي: ولولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له والإيمان به- بعضًا، وهم أهل المعصية لله والشرك به، لفسدت الأرض بغلبة الكفر، وتمكُّن الطغيان، وأهل المعاصي.

 

والحديث: قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود في سننه: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

 

فما ترك قومٌ الجهادَ إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم فاستباح بيضتهم، ولن يذوقوا طعم العز إلا بالرجوع إلى دينهم وجهادهم. ربِّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.