26 ربيع الأول 1434

السؤال

السلام عليكم.. أطرح بين يديكم مشكلة تسببت لي في ألم نفسي شديد.. مشكلتي مع أمي؛ فهي كثيرة الدعاء علي ولأتفه الأسباب، وأيضا تنعتني بأبشع الألفاظ، وأحيانا في عرضي!
المشكلة أني لا أستطيع تحمل ما تقوله وأرد عليها؛ لأنها تثير غضبي، وبالتالي لا أستطيع السيطرة على أعصابي.. لكني خائفة من غضب ربي وأن يستجيب دعواتها وأن لا يغفر لي بعد الممات.. مع العلم بأني أخاف الله وأحافظ على فروضي ولله الحمد ..والمشكلة يعاني منها جميع أهل البيت ولكن أنا أكثر من يتعرض لذلك.. مع أني أكثر من يعطف عليها ويساعدها ويقف معها في كل شيء، ولكن وقت الغضب لا أستطيع..!
أرجو مساعدتكم.. فأنا – والله - لم أعد أشعر بطعم الحياة وأصبحت أتمنى الموت كل دقيقة..!

أجاب عنها:
خالد عبداللطيف

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وشكر الله لك تواصلك مع موقع المسلم، وحرصك على المشاورة في أمرك.
مشكلتك - أختي الفاضلة - تتمثل في سوء العلاقة مع والدتك، وأنها تكثر من الدعاء عليك، كما أنك لا تتحملين ذلك؛ ومن ثم تغضبين وتحتدّين في مواجهة ما ينالك من والدتك، لكنك في الوقت نفسه تخشين عاقبة ذلك وأن يستجاب دعاؤها عليك.
وآمل أن تتأملي بعناية في النقاط التالية:
أولا: ألفت انتباهك الكريم وأذكّرك بما لا يخفى عليك: أن مشكلتك تتعلق بأمر قضى فيه ربنا بحكمه وهو الحكيم العليم البر الرحيم، وهو العلاقة بالوالدين، فجعل سبحانه البر بهما والإحسان إليهما فرضا عظيما قرنه جل وعلا بحقه وتوحيده وعبادته في القرآن الكريم، فقال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء/23-24).
وقال سبحانه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..} (النساء/36).
وقال جل وعلا: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (لقمان/14-15).
فلم يستثن المولى الحكيم العليم حالة الشرك من وجوب البر بالوالدين، فما البال بما هو أدنى من ذلك؟! وفي الحديث المتفق عليه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت : قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صليها ."إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة في هذا الشأن العظيم.
فلابد أن تستحضري ذلك أيتها الأخت الكريمة وتستسلمي لحكم الله بكل طمأنينة وسكينة.
ثانيا: اعلمي بعد ذلك – وفقك الله - أن الناس تتفاوت فيما قسم الله لهم من البر بالوالدين:
فمنهم من طابت علاقته بهما فهي تمضي في سكينة ووفاق، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومنهم من يبتلى بمرض أحدهما أو كليهما أو فاقته وضعفه؛ فيحتاج منه للرعاية والعناية، إضافة إلى البر، وهذا أجره مضاعف على قدر نيته وإخلاصه بإذن الله.
ومنهم من يبتلى بشدة أو حدة في طباع الوالدين أو أحدهما، أو غير ذلك من أنواع البلاء؛ فهذا بدوره أجره مضاعف على قدر نيته وإخلاصه بإذن الله في الصبر والاحتساب ومقابلة أذى والديه أو أحدهما بالإحسان والمعروف.
وأرجو الله أن تكوني من هذا الصنف الأخير؛ وأن تحمدي الله على كل حال، وقد ذكرتِ أنك - بفضل الله - تحرصين على الفرائض، وتخشين غضب الله تعالى. وأقول لك: إن هذا هو الوازع العظيم الذي يسهّل عليك بعون الله الصبر والاحتساب، بل إن مرارة الأذى تتحول إلى حلاوة تجدينها في قلبك بالإيمان والصبر والتوكل على الله ودعائه أن يهدي قلب أمك ولسانها، وأن يثبّت قلبك بالصبر واليقين.
ثالثا: اجتهدي فيما يتاح من أوقات الهدوء والصفاء أن تتقرّبي من والدتك وتسأليها بكل بر وحنان: هل أغضبها شيء منك؟! فلربما طال الأمد بينكما على أمر بدر منك، وهي تحسب أنك تتجاهلين الاعتذار منه فتزداد غضبا وحدة، بينما أنت تكتوين بنار المعاناة دون تصور أن وراء ذلك هذا الأمر الذي طواه النسيان!
رابعا: اسعي إلى الالتحاق بإحدى دور تحفيظ القرآن الكريم أو بعض الدورات النافعة؛ لإيجاد سبب لتقليل فترات الاحتكاك والاحتقان بينكما والتواصل بكثرة في المنزل، إضافة إلى ما ستجدينه في حفظ القرآن وطلب العلم النافع من البركة والتوفيق بإذن الله.
خامسا: ثقي - أختي الكريمة - أن صبرك الجميل المستمد من إيمانك ويقينك برضا ربك عن ذلك؛ إضافة إلى ثواب الآخرة، سيقع أثره لا محالة في قلب أمك ولو لم تري ذلك رأي العين!
وخلاصة الأمر: أن شأن الوالدين ليس كشأن غيرهما؛ فلا نملك أن نقيس ما يصدر ويبدر منهما تجاهنا على أي علاقات أخرى، فمع غيرهما لنا رخصة في مقابلة الإساءة بمثلها دون عدوان {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (الشورى/41)، أما مع الوالدين، وخصوصا الأم، فليس لنا إلا البر والإحسان والصبر الجميل، ولنا بهم حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
ولعلي أضيف أخيرا – وهي وصية عامة لكل من تمر به محنة -:
أهمية تفقد الإنسان لأحواله مع ربه جل وعلا، ومعالجة ما قد يمرّ به من التفريط في جنب الله تعالى؛ لأن تسلط البلاء قد يكون بسبب ذنب، ويكون رفعه بتوبة، مع صبر ودعاء وحسن ظن بالله، فلن يخذل الله الكريم من جمع هذه الأمور، وسيبدل سيئاته حسنات، ويصلح له شأنه كله بفضله جل وعلا. ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
يسّر الله أمرك ونفّس كربك، وجمع شملك بأمك على خير ووفاق وصلاح ذات بين.