8 رجب 1433

السؤال

عندي سؤال يحيرني، فزوجي مدين لدرجه أنه لا يكمل نصف الشهر إلا ويستلف من أهلي، مع أن حال أهله أفضل ولكنهم لا يساعدونه، ولو حصل واستلفنا منهم فعند نهاية الشهر نرده إليهم، أما أهلي فلا يطالبونه بما يستلفه منهم، وفوق هذا أمه قد انفصلت عن والده وعمره 7 شهور ورمته لأمي وجدتي، وتبرت منه بالمحكمة، ولما توظف قالت له اصرف علي فأنا أمك، مع أن عندها أولاد غيره، وبعد ما أنا تزوجته اتهمتني بأنني السبب في عدم إنفاقه عليها، ولكن السبب هو راتبه لا يكفينا، فسببت لي مشكله جد تافهة وجعلت زوجي يمد يده علي، ومع ذلك التزمت الصمت وزرتها حتى لا أخرب بيتي، ولكن زوجي صار يعتقد بأنني أغار عليه من أمه، مع أنني لا أتدخل بينه وبينها، وهو يعلم أنها لا تريده إنما تريد منه المال فقط، والله أعطاها من الخير الكثير، كذلك أخته من جهة ثانية لا تتقبَّلني، وأنا فعلا مللت فزوجي مره معي ومره ضدي، وهو عاجز أن يحل المشاكل التي تحصل بيني وبين أهله أو أن يتصدّى لهم ويوقفهم عند حدهم، ولما قلت له: أمك على الرأس والعين، لكن أن تنفق عليها بظروفنا هذه والضغوط التي علينا فلا، فأنا لم أعد أتحمل السلف من الناس، فاعتقد أنني أحسدها.
وأنا تعبت ولا أعرف كيف أتصرف معه، فدلوني على الحل وماذا أفعل؟

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

أختي السائلة الكريمة، مرحبا بك في موقعك "المسلم"، وأشكُرُكِ على طَرْحِك لمُشكِلَتِك وثِقَتِك بطلبِ النَّصيحة، وأسأل الله تعالى أن يوفِّقَني لإرشادِك لما يفتحُ قلبَكِ، وينيرُ عقلَكِ لما فيه الهُدى والسَّداد، والسَّكينة والطُّمَأنينَة لنَفْسِك.
أختي الكريمة: بدايةً أقول لك، أنَّكِ حين اخترت زوجك وقبلت به، كنت مقتنعةً بأنه الزوج الذي يمكن أن يشارِكَكِ حياتَك، كما كنت تعلمينَ ظُروفَه وإِمْكانِيَّاتِه المادِّيَّة البسيطة، وكنت تعرفين كيف كانت حياته قبل الاقتران بك، فقد عاش حياةً غير طبيعية، فتربَّى بعيدًا عن والديه المنفصلين في سنٍّ كان أحوج فيها لوجود أمه ودِفئها وحنانِها، فعاشَ كأنَّه يتيم الأم والأب معاً.
فالمفروض أن تكوني أنتِ إلى جانبه تساندينه نفسيًّا ومادِّيًّا، وتُراعين ظُروفَه، وطِباعَه، وتصرُّفاتِه كلها، وتعيشي معه على السَّرَّاء والضَّراء، ولا تتَخَلَّين عنه مهما كانت الأسباب، وتكوني بالنسبة له الزَّوجة، والصَّديقة، والحبيبة، والأخت، والأم التي حُرِم من عطفها وحنانها سنوات، وتنجَحي في أن تكوني كلَّ أهلِه الذين افْتَقَد وجودَهُم ومساعدتهم المادية والمعنوية.
وحاولي أن تغيري مكانَكِ وتجلسي مكانه، وتتخيّلي حجمَ معاناتِه كما يُحْتَمل أن يشعُر بها، حينها ستقترِبين من إحساسه ونظرته للأمور، وستتفهَّمين أسبابه في التعامل معك ومع أهله بأسلوب معين وطريقة قد تُخالِفُ هواكِ، وحينها سيكون بمقدورِِك أن تُغَيِّري من نظرتك السّالِفة، ومن تقييمِك لمشكلتك معه ومع أهله ووالدته وأخته..
واعْلمي أختي الكريمة بأنَّ زوجكِ لم يختر ظروفه هذه، كما لم يختر أمَّه، ولا أخته، ولا والده، ولا أهله، ولكنه اختارَكِ أنتِ وأَحَبَّ وجودَه معَكِ زوجً له، تعَوِّضه عن كلِّ ما فقده في حياته من مشاعر الحب والحنان، فاعْملي على أن تمنحيه الاحتواء الكامل الذي يحتاجه، وأن تحقِّقي له الاستقرار النَّفسي والعاطِفي، حتَّى لا يكرِّر مأساته مرتان، ويعيش اليتم مرتان، وبقدر ما تنجحين في ذلك ينجح هو في أن يوفِّر لك الحياة السعيدة والكريمة.
- أما بالنسبة لعجزه المادي واضطراره كل شهر إلى الاستدانة من أهلك ومرات من أهله، فهذا يرجع إما لضعف راتبه الشهري أو لسوء التَّدبير المالي أو لكثرة المصاريف التي تثقل كاهله، ومهما كانت الأسباب فالنتيجة واحدة.
وبكلِّ الأحوال عليك أن تشاركي زوجك في تحمُّلِ المسؤولية، والخروج من هذا المشكل، وتُرشِدينَه للبحث عن عمل أفضل ليحسِّن من راتِبِه الشَّهري، ومن إمكاناتِه الماليَّة، ولا بأس أن تطلبي مساعدة أهلك بالبحث عن عمل جديد يغنيكُما عن السلف، كذلك حاولي من جهتك أن تقتصدي في مصاريف البيت وتحسني تدبير نفقاتك واحتياجاتك، وتُقَلِّلي من طلباتك، وتتعلمي كيف تدَّخِري وتُوفِّري لزوجك ولبيتك من صناعة يدك ومن إبداعك واجتهادك، وتتعلمي مهارات جديدة لأجل أن تخفِّفي الحمل عن زوجك، كأن تهيِّئي وجبات طعام أو حلويات أو ملابس أو تطريز أو غزل أو نسيج أو ديكور..
وتجعلي ذلك بابا تلِجين منه لكسب الرزق وملء أوقات الفراغ، وتسعين لكي تنمّي عملك هذا وتجعلي منه مشروعاً مربحا تستثمِري فيه جهدك وذكاءَك ووقتك، وتُشْرِكي معك يد عاملة لتوسِعة الإنتاج ومَضاعفة الأرباح، كالاستعانة بمن تلمسين فيهن المثابرة والاجتهاد وإتقان أعمال يدوية أو مهارة من المهارات المختلفة، سواء من جاراتك أو صديقاتك، وحتى أخت زوجك ووالدته وتشجعينهن على استقطاب عضوات جدد ناجحات في مجالهن، بطريقة فنية تشعرهُن بمتعة الرِّبح وتوظيفِ كفاءاتِهِن وإمكانياتهِن في عملٍٍ نافع وسعيٍ منتِج، فتتحوّل اهتماماتُكِ واهتماماتُهن لما هو عظيم ومفيدٌ لحَياتِكُن ولأزواجِكن..
بدل الانشغال بأمورٍ تافهة، أو الاهتمام بأحاديثِ النساء وخلافاتِهِن التي لا تصِل بالمرأة إلا لطريقٍ مسدود، والإحساس بالكآبة النَّفسيَّة، والتَّعاسة الزَّوجيَّة، وفسادِ العِشرة، وقطعِ الأرحام، وخرابِ البيوت..
- أما فيما يخصُّ طبيعة علاقتِه بأمِّه وإنفاقِ زوجك عليها مع استِغنائها عنه، فعليكِ أن تعيدي النَّظر في نظرتك وتقييمك لهذه العلاقة، وما يحقُّ لك التَّدخُّل به وما لا، وأن تتعلمي كيف تفصلي بين علاقتِه بك وعلاقتِه بأمِّه، فأنت زوجته وهي أمه، ومهما أساءت إليه وكيفما عاملته بالماضي أو بالحاضر، أو اشتدَّت عليه أو قَست، لا يمكن بحال أن يعاملها بالمثل، فيردُّ غلى إساءتها بعدم الإنفاق عليها أو عدم صِلَتِها، لأنه من واجبه أن يلبي رغباتِها وطَلَباتِها، وأن يُرضيها حتَّى تَرضَى ويُكْرِمها ويُحْسِن إليها، ومهما وهَبَها مِنْ هِبات، أو أعْطَاها مِنْ عَطايا فلَنْ يُوَفِّيها حقَّها، ولكِنْ بشرط أنْ يَصْرِف عليها قَدْرَ اسْتِطاعَتِه وبحسب إمكانِيَّاتِه الماليَّة، لا أن يستدين لأجل ينفق عليها، وأن تنبهيه حين يوفِّر مبلغًا ماليا معيَّنا، أن يبدأ في ردّ ديونِ أهلك، حتى يبدأ يتعوَّد على تحمُّل مسؤولية تدبير نفقاتِه وديونِه وعدم التَّماطُل في ردَّها والتهاون في حقِّ أهلِك، من غير أن تجرحي كرامته أو رجولته.
- وتذكَّري أختي الكريمة أنك قد تكونين أمًّا وسيكون لك ذريَّة من زوجك، فكما تحبّين أن يعامِلَكِ أولادُك عليك أن تُعامِلي حماتَكِ، وتتقبَّلي تصرُّفات زوجِك معها، وخُضوعه لرغباتِها، بل من واجِبِك أن تشجِّعيه على بِرِّها وصِلَتِها، وتأكَّدي بأنّ ما تزرعينه اليوم تَحْصُدينَه غداً، فلْيَكُن زَرْعُكِ لنباتٍ طيِّب، ولشجرةٍ طيِّبةٍ تجْنين ثمارها، وتَطْعَمينَ حَلاوَتَها وتَجِدينَ لذَّتَها، فيُكْرِمُكِ الله حينَها في زوجِك، ووَلَدِك، وبيتِك، وتصيرُ حياتُكِ جنة، لأن صاحب القلب الطَّيِّب السَّمْح، والكريم المُحْسِن، جزاؤه في الدنيا سعة رِزْقِه وبركةُ سَعْيِه، وفَلاحٌ وسعادةٌ، وجنةٌ عرضها السموات والأرض.
- أما فيما يخصُّ شعور زوجك بأنَّكِ تغارين من أمِّه، ومرَّةً يميل لصَفِّك، ومرَّةً يميل لصفِّ والدته، فهذا أمر طبيعي، فهو بطبيعةِ حبِّ الزَّوجِ لزوجَتِه يميل لك، وبطبيعةِ حبِّ الابنِ لأمِّه يميل إليها، فهو يتأرجح بين حُبَّين ويحاول أن يعدل بينهما، ولكنَّه لا يقدر أن يرضيكما معا، فأمُّه تحتاج أن ينفق عليها، وأنت تحتاجين أن ينفق عليك وعلى بيتك، وترين أن والدته لا تحتاج للنَّفقة عليها، وما يقدمه إليها هو على حساب بيته وتسديد ديونه، ولكنك من غير أن تشعري خانتكِ فطنتُك، فمن لا خير له في أهله فكيف يكون له الخير في زوجته، ونسيتي بأن تلك المرأة التي ينفق عليها هي أمه، ودينُها الَّذي عليه أولى بالسَّداد من دينه الشهري، مع أنَّ من واجبه العدل والوفاء بالدينين معا، والتَّوفيق بين الحقَّين معا.
كما نسيتي أن زوجك قد افتقد هذه الأم سنواتٍ طويلة من عمره، وهو الآن بحاجة ماسَّة لوجودها ولرِضاها عنه، ليعَوَّض ما فاته، وإن كانت هي قد تخلَّت عنه لأسباب معينة الله أعلم بها، فهو ليس من حقِّه أن يتخلَّى عنها لأيِّ سببٍٍ من الأسباب، أو يرفض مساعدتها والإنفاق عليها وإن كانت أحوالها جيدة.
ولهذا لا تغضبي من تصرُّفاته معك وتبدُّلِ أحوالِه، كلَّما فتحتِ موضوع أمِّه، لأنه لن يتقبَّل رفضك لمساعدتها، ولن يقتنع بأسبابِك وإن كانت وجيهة، بل قد تخسرين محبَّته ومَوَدَّتَه واحترامه لك، لو جعلت من هذا الموضوع مشكِلا تتحدَّثين عنه في أغلب لقاءاتِكُما وحِواراتِكُما معاً، فتُفْسِدي حياتك وبيتك، وتفتحين بابَ الشيطان يلِج منه لبيتِكُما، فتخسرين زوجك، وسعادَتَك معه تتحوَّل لتعاسة وشقاء دائمين، وقد تراوِده خواطر سيِّئة، واعْتِقادات خاطئة فيظنُّ بكِ سوءاً، ويقتنِع بأنًَّكِ تُضمِرين لأمِّه شراًّ وأنَّكِ حقاًّ تكرهينها وتغارين منها وتحْسُدينها، وحينها قد تفقِدينَ مكانَتَكِ ومَعَزَّتَكِ لديه، وتفقدين مع ذلك شعوره بالسَّكينة والأمان معك والثِّقة بك...
وأخيراً أقول لأختي الكريمة: عليكِ أن تكوني أكبر من هذا المشكل، وعليك أن تنجحي في حلِّه سريعاً، وتستوعبي صعوبة الموقف الذي يعيشه زوجك، والظُّروف التي يمرُّ بها، وتفهَّمي ضعفه أمام والدته على أنه لا يطعنُ في رجولَتِه بل هو تعبيرٌ عن حُبِّه لها وبِرِّه بها، وخََفْضِه جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمة التي أوصى بها لقمانٌ ابنه في سورة الإسراء: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
ولا يكون خفض الجناح إلا من مبالغة الابن في الرحمة والتواضع والخضوع قولا وفعلا كما يخفض الطائر جناحه لأمه لتغذيته، أو ليجمع تحته أفراخه رحمة بها وحفظا لها، فهذا دأب الأبناء مع أمهاتهم وآبائهم.
وإنَّني أقدِّر مجهودك في الحفاظ على بيتك، وصبرك، وسعيك لحل مشكلتك، كما أعلم أن ما أطلبه منك ليس سهلا ولا هيّناً تنفيذه، وأن الضغوط التي عليكما هي التي تجبرك على هذا التفكير والتصرف مع زوجك وأمه، ولكن قدمي دائما حكمتك وإيمانك وعدلك، وحافظي على بيتك من أي ريحٍ عاصفة تهدمه، وتقرَّبي إلى الله بالطاعات والدعاء ليعينك على الصبر، وعلى حسن التصرف، ولينشر المحبة بينك وبين أهله، ويرفع عنكما الضيق، ويوسع رزقكما ويفرج كربتكما.
أسأل الله العلي القدير أن يوفقك للخير دائما، وأن ييسر لك أسباب الحكمة في التعامل مع زوجك وأهله، وأن يسعدكما ويوفق ما بينكما، ويوسع رزقكما ويصرف عنكما الشيطان، ويحقق الاستقرار والأمان لكما.