أنت هنا

المفهوم الشرعي للسياحة
2 شعبان 1432
اللجنة العلمية

وردت السياحة في القرآن والسنة بمعان متنوعة متعددة وذلك كما يأتي:
المعنى الأول: الصيام.
يقول تبارك وتعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
ويقول عز وجل: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) (التحريم:5).
وأخرج ابن جرير بسنده عن أبي هريرة رض الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السائحون هم الصائمون"(6)، وأخرجه عن ابن عباس وابن مسعود موقوفاً(7)، وبهذا قال أكثر السلف(8) كقتادة ومجاهد، وعطاء، والضحاك.
وقال سفيان بن عيينة: "إنما سمي الصائم سائحاً، لأنه تارك للذات الدنيا كلها، من المطعم والمشرب والمنكح، فهو تارك للدنيا بمنزلة السائح"(9).
وقال ابن قتيبة: "السائحون: الصائمون، وأصل السائح الذاهب في الأرض.. والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات فشبه الصائم به لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب والنكاح"(10)، أو لأن السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يجري والصائم يستمر على فعل الطاعات وترك الملذات والمشتهيات(11).

 

وما ذكره ابن قتيبة نص عليه كثير من المفسرين، وهو قياس مستقيم في زمنهم أما في هذا الزمن فالغالب من حال السائح استمتاعه بشهوات المطعم والملبس، وعدم حصول المشقة عليه كما كان سابقاً، نظراً للتقدم الصناعي والتكنولوجي في وسائل الاتصالات والمواصلات وغيرها، وقد ورد في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله"(12).
ولا شك أن السفر قطعة من العذاب، ولو لم يكن إلا مفارقة الأهل والأصحاب وكون المسافر غير مستقر كالمقيم أما الحر والبرد والتعب ومشقة السير فهذه تتفاوت بتفاوت الأشخاص والأزمنة، والغالب في هذا الزمان انعدامها بالنسبة لسفر السياحة وإن كانت قد تحصل بعض السواح كما أنها قد تحصل لغير السواح من المسافرين كالعمال وغيرهم.
والمراد أن الصيام من معاني السياحة شرعاً، فهو سياحة للنفس في التحرر من شهواتها والتقرب إلى بارئها وتربيتها على الصبر وقوة الإرادة والعزيمة الصادقة والإيمان الراسخ ولا شك أن فيه مشقة الخروج عن المألوف والامتناع عن شهوات النفوس حتى لا تحكمها عادة ولا تخضعها شهوة، فإذا ما قهر العبد نفسه بالصوم أسلمت له قيادها وألقت إليه زمامها فيسير بها إلى الخير الذي ينشده والسعادة التي يريدها، فالصوم من أنجح ما يداوي به المرء نفسه ويستعين به على تقوى الله والفوز برضاه(13).
كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).

 

 

المعنى الثاني: الجهاد.
فقد ذهب عطاء، وبعض المفسرين(14)، إلى تفسير السياحة في قوله سبحانه: (السَّائِحُونَ) بالجهاد.
وقد جاء في السنة ما يدل على أن السياحة الجهاد، كما في حديث أبي أمامة: "إن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ""إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل"(15).
قال في عون المعبود: "كأن هذا السائل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى الأرض قهراً لنفسه بمفارقة المألوفات والمباحات واللذات وترك الجمعة والجماعات، وتعليم العلم ونحوه، فرد عليه ذلك كما رد على عثمان بن مظعون التبتل"(16).
وفي هذا إشارة إلى أن السياحة بمعنى الرهبانية المبتدعة المذمومة المتمثلة في التبتل والانقطاع التام للعبادة والاعتزال لذلك والمشاقة فيه ليست من الإسلام كما قال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا"(17).
وقال صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالوا عبادته – فقال أحدهم أصلي ولا أنام وقال الآخر أصوم ولا أفطر وقال الثالث: لا أتزوج النساء: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"(18).
فهذه السياحة ليست من الإسلام في شيء وإنما سياحة الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل فإن فضله وأثره وأجره أعظم من هذه الرهبانية ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم السائل إلى الجهاد، ولما قيل له ما يعدل الجهاد في سبيل الله، وقال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى"(19).

 

 

المعنى الثالث: الأمان.
قال ابن قتيبة – في تفسير قول الله عز وجل: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) (التوبة: من الآية2): "اذهبوا آمنين أربعة أشهر"(20).
وفي الجامع لأحكام القرآن: "أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحداً من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر(21).
وقال ابن العربي: "المعنى: لكم في الأرض مسير أربعة أشهر، واختبروا فيها، وحرروا أعمالكم، وانظروا مآلكم، فإن دخلتم في الإسلام فلكم الأمان والاحترام وإن استمررتم على الكفر عوملتم بمعاملة الكفار من القتل والإسار"(22).

 

 

المعنى الرابع: السير في الأرض.
فقد وردت السياحة في كلام الشارع بمعنى السير في الأرض، وذلك على ثلاثة أقسام:
الأول: السياحة بمعنى السير في الأرض مطلقاً:
ومن ذلك ما تقدم في المعنى الثالث في قوله سبحانه: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فالمراد هو السير في الأرض.
قال ابن حجر: "فسيحوا: فسيروا"(23).
وفي فتح القدير: "هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة والسياحة: السير، يقال: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسيحاناً"(24).
وفي الجامع لأحكام القرآن وكذا في محاسن التأويل: "فسيحوا: أي سيروا في الأرض"(25)، ولكن ليس المراد تكليفهم بالسير في الأرض حقيقة وإنما هو كناية على تأمينهم خلال هذه المدة، ولذا أفردته بمعنى مستقل.
قال في زاد المسير: "قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي: نطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منا مكروه"(26).
وورد في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض فُضُلاً عن كُتَّابِ الناس فإذا وجدوا أقواماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى السماء الدنيا فيقول الله: أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ فيقولون: تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك..." الحديث(27).
وفي تحفة الأحوذي: "قوله: (سياحين في الأرض) بفتح السين المهملة وشدة التحتية من ساح في الأرض إذا ذهب فيها وسار"(28).

 

 

الثاني: السياحة بمعنى السير في الأرض للاعتبار والتفكر وتعبد الله عز وجل بذلك.
فقد ذكر بعض المفسرين – في قوله سبحانه: (السَّائِحُونَ): "هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والسياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه"(29).
وقال ابن عطية: "هذا قول حسن، وهي من أفضل العبادات... ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة، فأدخل إصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر، فقيل له في ذلك فقال: أدخلت إصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) (غافر: من الآية71) وفكرت كيف أتلقى الغُلَّ وبقيت في ذلك ليلي أجمع"(30).
وفي محاسن التأويل: "يجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو السائرون الذاهبون في الديار لأجل الوقوف على الآثار توصلاً للعظة بها والاعتبار... باتعاظه بأحوال الناس واعتباره بأمورهم، واطلاعه في سياحته على الأسرار المكنونة، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات. فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه، وليس بخافٍ ما وقع للأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين والأولياء والصالحين، من التنقلات والأسفار في القرى والأمصار، للنظر والاعتبار"(31)، ويحتمل أن تشمل الآية التفكر من غير سير في الأرض كما في ظلال القرآن: "السياحة هي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته"(32).
وعلى هذا فالسياحة ترد بمعنى التفكر في ملكوت الله سواء اقترن بذلك السير في الأرض – وهو أبلغ – أو لم يقترن به.

 

والسير في الأرض للاعتبار على نوعين:
النوع الأول: سير في الأرض للنظر في آثار الهالكين من الأمم السابقة وكيف كان عاقبة أمرهم لما كذبوا الرسل وأعرضوا عن الحق وصدوا عن دين الله وكفروا به(33).
ومنه قول الحق سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم:9).
النوع الثاني: سير في الأرض للنظر والتفكر في بديع صنع الله تعالى وكيفية بدء الخلق، والتأمل في آيات الله وسننه الكونية كاختلاف الألسنة والألوان وإنبات الزرع وإدرار الضرع وإخراج الحي من الميت وغير ذلك(34).
ومنه قوله سبحانه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20).
قال الإمام الغزالي رحمه الله: "فمن يسر الله له هذا السفر لم يزل في سيره متنزهاً في جنة عرضها السماوات والأرض وهو ساكن بالبدن مستقر في الوطن، وهو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد ولا يضر فيه التزاحم والتوارد بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه وتتضاعف ثمراته وفوائده، فغنائمه دائمة غير ممنوعة وثمراته متزايدة غير مقطوعة إلا إذا بدا للمسافر فترة في سفره ووقفة في حركته فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(35).
وقد خسر وخاب من لم يرهل نفسه للجولان في هذا الميدان والسياحة في منتزهات هذا البستان(36).
فهذه السياحة من الأمور الهامة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية لما تؤدي إليه من تعميق معرفة الله تعالى في النفوس كما في قوله سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج: من الآية46).
ولا شك أن هذا السير يوسع مدارك الإنسان وآفاقه ليفكر ويتدبر في عظمة الله وقدرته وآياته البينات، كما أن فيه نوعاً من الاتعاظ والاعتبار، فالحاج مثلاً إذا رأى الكعبة وتأمل عظمة الله في حمايتها وتذكر ما حل بأصحاب الفيل فيكون قد حقق هذه السياحة بنوعيها(37).
قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل:1- 5).

 

الثالث: السياحة بمعنى السير في الأرض للمطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادة لله وقربى لديه:
وذلك كالسفر للحج وزيارة المساجد الثلاثة ونحو ذلك.
وفسر عكرمه قوله سبحانه: (السَّائِحُونَ) بالمسافرين لطلب الحديث والعلم(38).
وفسر بعضهم قوله سبحانه: (سَائِحَاتٍ) بالذاهبات في طاعة الله تعالى(39).
وقيل: "مسافرات، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة"(40)، وهذا أقرب للمعنى اللغوي وهو مطلق السير.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "فسرت السياحة بالصيام أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات كالحج، والعمرة، والجهات، وطلب العلم، وصلة الأقارب ونحو ذلك"(41).
ومن هذا المعنى ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزة أو حج أو عمرة فعلا فَدْ فَدَاً من الأرض أو شَرَفاً كبَّر ثلاثاً ثم قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون)" الحديث(42).
قال في تحفة الأحوذي: "سائحون جمع سائح من ساح الماء يسيح إذا جرى على وجه الأرض أي سائرون لمطلوبنا ودائرون لمحبوبنا"(43).
وفي الحديث أنه كان يقوله إذا رجع من غزوة أو حج أو عمرة وهذا كله من سفر القربات.

 

 

المعنى الخامس: الهجرة.
وهي سير في الأرض لمقصد مشروع لكنه مخصوص بالخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، والفرار بالدين إلى أرض الله الواسعة ومفارقة الدور والأهل في سبيل الله.
وللهجرة مكانة عظيمة في دين الله، وقد أفاض الفقهاء في الكلام على أحكامها وقد أفردتها لعظم منزلتها وخصوصية معناها.
قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: (السَّائِحُونَ) وقوله: (سَائِحَاتٍ) هم: المهاجرون والمهاجرات(44).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "ليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة وكان سيحاتهم الهجرة حين هاجروا إلى المدينة"(45).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدعنة – وهو سيد القارة – فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار ارجع واعبد ربك ببلدك" الحديث(46).
قال ابن حجر: "قوله: "فأريد أن أسيح" بالمهملتين، لعل أبا بكر طوى عن ابن الدغنة تعيين جهة مقصده لكونه كان كافراً، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها حتى يسير في الأرض وحده زماناً فيصدق أنه سائح، لكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعاً بعينه يستقر فيه"(47).
وعليه فالسياحة هنا بمعنى الهجرة إلى وجهة غير معلومة لكونه أخفى مقصده ولم يعينه.
ومن هذا المعنى المقولة المشهورة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – إبان اضطهاده وامتحانه-: "ما فعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة"(48).

 

وعلى هذا فالسياحة في المفهوم الشرعي لها معنيان:
الأول: معنى عام شامل لكل ما تقدم وهو مطلق السير في الأرض الذي هو أصل الوضع اللغوي للسياحة والله تعالى يقول: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر:28)، والأصل حمل الكلام على الحقيقة والأمر بالسير في القرآن قرينة على إرادة ذلك إضافة إلى الآيات والأحاديث الأخرى التي جاءت بهذا المعنى المطلق.
الثاني: معنى خاص وهو السير في الأرض بما يصدق عليه اسم السفر والمقصد منه طاعة الله، وأقوال السلف كلها تدور في هذا الفلك ولذا قال شيخ الإسلام: "إن السلف تذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافاً فيحكيها أقوالاً وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه والكل بمعنى واحد"(49).

 

فهي داخلة في هذا المعنى إما مجازاً كالصيام والتفكر الذي عبر عنه ابن القيم بالسياحة القلبية أو حقيقة كالجهاد في سبيل الله والهجرة والسفر لطلب العلم والحج والعمرة، وبهذا تجتمع الأقوال ويكون اختلاف تنوع(50)، وهذا ما رجحه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي حيث حمل السياحة على السفر في القربات فيدخل فيها كل ما تقدم(51).

ـــــــــــــــــــــ

(6) أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً، وعن عبيد بن عمير مرفوعاً في جامع البيان (11/37) وقال ابن كثير في حديث أبي هريرة: الموقوف أصح، وقال في حديث عبيد بن عمير: هذا مرسل جيد (2/484)، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور (7/546-547) عن الفرياني ومسدد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان (3/293) وقال: المحفوظ عن ابن عيينة عن عمر وعن عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
(7) جامع البيان، لابن جرير الطبري (11/37) والسيوطي في الدر المنثور (7/546).
(8) ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم (6/1890)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (14/521)، والدر المنثور للسيوطي (7/546-547)، تفسير ابن كثير (2/484)، زاد المسير لابن الجوزي (3/394)، وفتح القدير للشوكاني (2/577).
(9) المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن، إعداد عبد العزيز السيروان ص (212-213).
(10) المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن، عبد العزيز السيروان (ص 212-213).
(11) ينظر: مفاتيح الغيب، للرازي (8/162).
(12) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب، رقم (1927)، قال النووي في شرحه: (13/74-75) "معناه يمنعه كمالها ولذيذها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد والسرى والخوف ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش... والمقصود في هذا الحديث استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء شغله ولا يتأخر بما ليس له بمهم".
(13) السياحة في الإسلام، عبد الباري داود، ص 188، بتصرف.
(14) ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم (6/1889)، زاد المسير لابن الجوزي (3/506)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/270) وتفسير ابن كثير (2/484)، وفتح القدير للشوكاني (2/577)، الدر المنثور للسيوطي (7/548).
(15) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في النهي عن السياحة، عن القاسم أبي عبدالرحمن عن أبي أمامة، قال المنذري: القاسم هذا تكلم فيه غير واحد.
والحديث صححه الحاكم (2/73) وأقره الذهبي، وقال النووي في رياض الصالحين (1/307) رواه أبو داود بإسناد جيد وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1890)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/14) والسيوطي في الدر المنثور (7/548).
(16) عون المعبود، شرح سنني أبي داود للعظيم أبادي مع شرح ابن القيم الجوزية (7/164).
(17) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء (ص439) رقم (5073)، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه (ص 910) رقم (3404/6/1402).
(18) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (ص438) رقم (5063)، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (ص910) رقم (3403/5/1401).
(19) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله ص(1015) رقم (4869/110/1878)، وأخرج البخاري نحوه في كتاب الجهاد والسير باب فضل الجهاد والسير، ص 224 رقم (2785).
(20) المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن، للسيروان، ص 213.
(21) للقرطبي (4/64).
(22) في أحكام القرآن 2/894، وفي تفسير العز بن عبد السلام، ص 201: "قوله: (فسيحو) أمان، (في الأرض): تصرفوا كيف شئتم أو سافروا حيث أردتم والسياحة: السير على مهل أو البعد على وجل".
(23) في فتح الباري (8/173)، وذكر ابن العربي مثله في أحكام القرآن (2/894)، وكذا جاء نحوه في المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن، للسيروان، ص (213).
(24) للشوكاني (2/477).
(25) الجامع، للقرطبي (4/64)، ومحاسن التأويل، للقاسمي (5/347).
(26) لابن الجوزي (3/393).
(27) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب ما جاء أن لله ملائكة سياحين في الأرض وقال: حديث حسن صحيح وقد روي عن أبي هريرة من غير هذا الوجه (ص 2022) رقم (3600) وأحمد في مسنده عن ابن مسعود (2/251) وله شواهد عند البخاري ومسلم والنسائي وأحمد كما سيأتي.
وفضلاً: صفة للملائكة معناه أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق، ينظر: تحفة الأحوذي، للمباركفوري (10/58) وشرح صحيح مسلم للنووي (17-18/81).
(28) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري (10/58).
(29) فتح القدير، للشوكاني (2/577).
(30) المحرر الوجيز، لابن عطية (7/55)، وقد تقدمت ترجمته ص 26.
(31) لجمال الدين القاسمي (5/512).
(32) لسيد قطب (6/3616)، وسيأتي في كلام ابن سعدي ما يشير إلى هذا المعنى عند قوله: (وفسرت السياحة بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته)..
(33) ينظر: أحكام السياحة وآثارها، هاشم ناقور، ص 42، بتصرف.
(34) المصدر السابق، بتصرف.
(35) إحياء علوم الدين (2/244-245).
(36) إحياء علوم الدين، للغزالي (2/244-245) بتصرف.
(37) ينظر: السياحة في الإسلام، عبدالباري داود، ص (19 – وما بعدها)، بتصرف.
(38) ينظر: فتح القدير، للشوكاني (2/577) بتصرف، وقد أخرج ذلك عن عكرمه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1890)، والسيوطي في الدر المنثور (7/549).
(39) كما في المحرر الوجيز، لابن عطية (14/521).
(40) محاسن التأويل، للقاسمي (9/276).
(41) في: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبد الرحمن اللويحق (ص353).
(42) أخرجه الترمذي، كتاب الحج، باب ما جاء ما يقول عند القفول من الحج والعمرة (ص 1742) رقم (950)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن البراء وأنس وجابر وله شاهد عند البخاري في الحج والدعوات ومسلم في الحج وأبو داود في الجهاد والنسائي في السير.
(43) للمباركفوري (4/21-22).
(44) ينظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (14/521)، وزاد المسير، لابن الجوزي (8/312) وفتح القدير، للشوكاني (2/577- 5/333).
(45) ينظر: المصادر السابقة، وتفسير ابن أبي حاتم (6/1890)، والدر المنثور، للسيوطي (7/548).
(46) أخرجه البخاري كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (ص317) رقم (3905).
(47) فتح الباري، لابن حجر (7/274).
(48) ينظر: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرحمن بن قائد، إشراف بكر أبو زيد، ص 109، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، (3/259).
(49) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع ابن قاسم (13/369).
(50) ينظر: الدعوة إلى الله تعالى في المواقع السياحية، للأحمد، ص 37-57، بتصرف.
(51) ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (353).