أنت هنا

قواعد التدبر العامة
3 صفر 1432
د. محمد الخضيري

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد :

فإن الكتابة في قواعد التدبر وضوابطه من الأهمية بمكان وقد كتب فيهد عدد من الباحثين فأجادوا وأفادوا .

والهدف منها : تحقيق التدبر لغايته العظيمة وهي زيادة الإيمان وحصول العلم النافع والعمل الصالح وأن لا يشطح المتدبر عن الجادة وينقلب المقصود من التدبر .

ولئلا ننشغل كثيرا بالمقدمات والأمور المعلومة التي لا تخفى على شريف علمكم فإني أوثر الدخول إلى المقصود مباشرة وهو ذكر قواعد التدبر العامة لكن بعد تقرير أمر مهم يتعلق بالفرق بين التدبر والتفسير .

فالتفسير علم له أصوله وآلاته ومراحله ومدارسه ورجاله وهو فرع التدبر وثمرته ، والمقصود منه بيان كلام الله تعالى والنظر في أقوال المفسرين وتمييز الراجح من المرجوح .

أما التدبر فهو النظر المتأمل العميق لآيات الكتاب طلباً لهداياتها وفهمها والاتعاظ بها ومعالجة النفس والواقع بها ، وبهذا يكون التدبر أوسع مدلولاً من التفسير فكل نظر بحق يسمى تدبراً ، وليس كل تدبر يسمى تفسيراً .

والتدبر لسعته وشموله : ينقسم إلى قسمين : تدبر عامة وتدبر خاصة ، فأما تدبر العامة فهو النظر الكلي لآيات القرآن وإدراك المعاني العامة والهدايات الواضحة منه دون التعمق في دلالات الألفاظ ودقائق الاستنباط . بخلاف تدبر الخاصة المحصور بأهل العلم بل المتخصصين منهم فإنه كما لا يخفى يحتاج إلى آلات وقدرات يستطيع بها المتدبر استنباط الأحكام الدقيقة والمعاني الخفية والأسرار اللطيفة ، قال ابن القيم رحمه الله:" والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص, وأن منهم من يفهم من, الآية حكما أو حكمين, ومنهم من يفهم عشرة أحكام أو أكثر من ذلك, ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه, ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره, وأخص من هذا وألطف ضمه إلى آخِر نص متعلق به, فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده, وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا ينتبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به "[1] ا.هـ.

 وقال الصنعاني رحمه الله:" إن الله-سبحانه- كمَّل عقول العباد, ورزقهم فهم كلامه. ثم إن فهم كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عند قرعها الأسماع لا يحتاج في معناها إلى علم النحو, ولا إلى علم الأصول, بل في الأفهام والطباع والعقول ما يجعلها تسارع إلى معرفة المراد..... ثم إنك ترى العامة يستفتون العالم ويفهمون كلامه وجوابه وهو كلام غير معرب في الأغلب, بل تراهم يسمعون القرآن فيفهمون معناه ويبكون لقوارعه وما حواه, ولا يعرفون إعراباً, ولا غيره, بل ربما كان موقع ما يسمعونه في قلوبهم أعظم من موقعه في قلوب من حقق قواعد الاجتهاد, وبلغ الذكاء والانتقاد. ثم إن هؤلاء العامة يحضرون الخطب في الجمع والأعياد, ويذوقون الوعظ ويفهمونه ويفتت منهم الأكباد, وتدمع منهم العيون, فيكثر منهم البكاء والنحيب. ثم إنك تراهم يقرؤون كتباً مؤلفة من الفروع الفقهية ويفهمون ما فيها, ويعرفون معناها, ويعتمدون عليها, ويرجعون في الفتوى والخصومات إليها.

     فيا ليت شعري! ما الذي خص الكتاب والسنة بالمنع عن معرفة معانيها, وفهم تراكيبها ومبانيها, والإعراض عن استخراج ما فيها، حتى جعلت معانيها كالمقصورات في الخيام, قد ضربت دونها السجوف, ولم يبق لنا إليها إلا ترديد ألفاظها والحروف, وأن استنباط معانيها قد صار حِجْراً محجوراً, وحرماً محرماً محصوراً؟!"[2] .

وليست قواعد التدبر للخاصة محل بحثي في هذه الورقة لأن مقصودنا هو نشر ثقافة التدبر في حلق القرآن ودور التحفيظ ليهتدي عموم الطلاب بكتاب الله وينتفعوا بهداياته .

ولذا فإن القواعد المذكورة قواعد عامة تصلح لكل أحد من عامة الناس وخاصتهم وليس فيها شيء من الشروط والضوابط التي تشق على عموم الناس إذ وضعها مضر بالمقصود حائل دون تحقيق الهدف .

وهذا أوان الشروع في المقصود
القاعدة الأولى : حسن القصد

، والمراد منها أن لا يكون للمتدبر قصد من تلاوة القرآن وتدبره إلا أن يعقل عن الله مراده ويفهم معاني كلام الله تعالى ليهتدي بها ، فتكون تلاوته خالصة لوجه الله ، ومقصوده الاهتداء بآيات كتابه ولذا فهو منقاد مستسلم لا كمن جاء إلى القرآن يريد أن يتخذ آياته وسيلة لتحقيق أغراضه والوصول إلى مقاصده فهو يطوع القرآن لا يطعيه ويقوده لا ينقاد له . قال القرطبي رحمه الله:" فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب, وجعل في قلبه نورا[3]" ا.هـ. وهذا يتطلب قدراً من الصبر والإصرار. قال ثابت البناني رحمه الله:" كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة[4]".

 

القاعدة الثانية : حياة القلب والحرص على سلامته من الأمراض والذنوب

فقد أنزل الله القرآن على القلوب لأنها أشرف ما في الإنسان وهي سيدة الأبدان وإذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد قال تعالى : " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين " فإذا كان القلب حياً طاهراً سليماً انتفع بالقرآن واهتدى به كما تنتفع الأرض الطيبة بالمطر المبارك " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " وقد أوضح الله هذا المعنى في آيات كثيرة فقال : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " . والمعنى : لمن كان له قلب حي طاهر نظيف فهو القلب الذي ينتفع بالقرآن ويستنير بهداياته ، وحياة القلب تكون بالإيمان والعمل الصالح وسلامته تكون بخلوه من أمراض الشهوات

القاعدة الثالثة: تعظيم القرآن ومعرفة قدر المتكلم به

     قال ابن قدامة رحمه الله:" وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر, وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه, ويتدبر كلامه؛ فإن التدبر هو المقصود من القراءة"[5] ا.هـ.

فإذا عرف العبد قدر هذا الكتاب ومنزلته الرفيعة وأنه أفضل كلام سمعه الخلق وأنه كما قال الله "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " وكما قال أيضا " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى "وقال :" إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" تأهب للتدبر واستجمع قواه على فهم كلام الله .

القاعدة الرابعة :حضور القلب عند تلاوة القرآن وتدبره.

إن الانتفاع بالقرآن مرتبط بحضور القلب كما قال تعالى: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {[ق : 37] فكلما كان العبد لقلبه أجمع، وعن الشواغل أبعد، كان أقرب إلى فهم وتدبر ما يتلو من كتاب الله، إذ القلب محل تفهم القرآن وتدبره، قال ابن تيمية رحمه الله: "فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ ؛ أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُهُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ فَهَذَا أَصْغَى ( وهو شهيد )  [ق: 37]. أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ . كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : أوتى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى[6]".

     وقال :" وَأَيْضًا فَذِكْرُ الإِنْسَانِ يَحْصُلُ بِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعُلُومِ قَبْلَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ, وَخَشْيَتُهُ تَكُونُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْوَعِيدِ . فَبِالأَوَّلِ يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ, وَالثَّانِي يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا ."

وعند تأمل قول الله تعالى: } قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ) وقوله: } نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ { [الشعراء:192-194] تظهر منزلة القلب إذ خصه الله تعالى بإنزال القرآن عليه، فكان قلب النبي r محلاً للقرآن، فكذلك الحال لمن أراد تفهم القرآن وتدبره والانتفاع به يجب أن يكون قلبه محلاً للقرآن بحضوره عند تلاوته وتدبره .

وقال الزركشيّ (ت:794هـ) : إذا كان العبد مصغياً إلى كلام ربه، ملقيَ السمع، وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه، ناظراً إلى قدرته، تاركاً للمعهود من علمه ومعقوله، متبرّئاً من حوله وقوّته، معظّماً للمتكلَّم، مفتقراً إلى التفهم، بحالٍ مستقيم، وقلب سليم، وقوة علم، وتمكن سمعٍ لفهم الخطاب، وشهادة غيب ولجوء بدعاء وتضرعٍ، وابتئاسٍ وتمسكُنٍ، وانتظارٍ للفتحِ عليه من عند الفتّاحِ العليمِ، وليستعنْ على ذلك بأن تكون تلاوتُهُ على معاني الكلام وشهادة وصفِ المتكلّم، من الوعد بالتشويق، والوعيد بالتخويف، والإنذار بالشديد، فهذا القارئ أحسنُ الناس صوتاً بالقرآن، وفي مثل هذا قال تعالى:}الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ{[البقرة: ١٢١]، وهذا هو الراسخ في العلم، جعلنا الله من هذا الصنف  }وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ{ [الأحزاب:4].اهـ([7])، وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله:}أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{[محمد:24] فعلق فهم القرآن وتدبره على انفتاح القلب وحضوره كما دل عليه المفهوم، وعلق الانصراف عن فهم القرآن وعن تدبره على انغلاق القلب كما دل عليه منطوق قوله:} أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { أي :"أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر".([8])

 

القاعدة الخامسة :استشعار القارئ أن القرآن يخاطبه ويأمره وينهاه .

قال ابن القيم(ت:751هـ): قاعدة جليلة: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه ، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله r، قال الله تعالى: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {[ق:37].اهـ ([9])  

وقال الحسن رحمه الله:" إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم, فكانوا يتدبرونها بالليل, ويتفقدونها في النهار[10]".  قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله:"من بلغه القرآن فكأنما كلَّمه الله". وعقبه في الإحياء بقوله:" وإذا قَدَّر ذلك لم يتخذ قراءة القرآن عَمَلَه, بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه, الذي كتبه إليه؛ ليتأمله ويعمل بمقتضاه[11]". وقال الخَوَّاص رحمه الله:" قلت لنفسي: يا نفس اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به, فجاءت الحلاوة[12]".

 
 
القاعدة السادسة:فهم الغريب:

لاشك أنه توجد كلمات في القرآن لا يصل عامة الناس إلى معناها بسبب ضعف اللغة وقلة استعمال تلك المفردات في كلام الناس ,فتحول بين القارئ والوصول للمعنى العام للآية فإذا قرأ "ومن شر غاسق إذا وقب " ولم يعرف الغاسق ولا " وقب " فإنه لن يصل إلى المقصود من الآية .قال الراغب في مقدمة المفردات : "أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللّبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه، وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كلّ علم من علوم الشرع "

 

ولذا فإن على المتدبر أن يجتهد في فهم الغريب إما بالقراءة في الكتب المخصصة لذلك وإما بسؤال أهل الذكر .

القاعدة السابعة :اتخاذ الوسائل المعينة للقلب على التدبر
وهي كثيرة نذكر منها :

1.   تحسين الصوت بالقرآن قال صلى الله عليه وسلم :" ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وقال " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به" رواهما البخاري 2

2.   ترتيل الآيات والتؤدة فيها . قال تعالى " ورتل القرآن ترتيلا " ، " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " والعجلة في قراءة القرآن، من الصوارف عن تدبره وتفهمه، فالعَجِل لا حظ له من فهمه وفقهه، وقد نهى الله تعالى نبيه r عن العجلة في أخذ القرآن وقراءته فقال تعالى:  }وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا {[طه:114]، وقال تعالى:}لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ{[القيامة:16-18] .

 

3.   تكرار الآيات . في حديث أبي ذرt(ت:32هـ) قال: قام النبي r بآية حتى أصبح يُرَدِّدُهَا، والآيةُ:}إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{[المائدة:118].([13])     قال ابن القيم رحمه الله:" فإذا قرأه بتفكر حتى إذا مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه, كررها ولو مائة مرة, ولو ليلة, فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم, وأنفع للقلب, وأدعى إلى حصول الإيمان, وذوق حلاوة القرآن[14]". قال في الإحياء:" وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها[15]"ا.هـ.

4.   تلاوة القرآن بالليل، ففي الليل سكون النفس واجتماع القلب بعكس النهار إذ تكثر شواغله و شوارده([16])، كما قال تعالى:}قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا {[المزمل:2-6] قال الحافظ ابن كثير(ت:774هـ): المقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، ولهذا قال: }هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا { أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش ... ولهذا قال تعالى:} إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا {[المزمل:7].اهـ([17])

5.   مدارسة القرآن الكريم، وهو منهج نبوي حث عليه النبي r في قوله: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" ([18]) ففي هذا الحديث حث على مدارسة القرآن طلباً لهديته والتذكر به، وهي طريق لتدبّره .

6.   أخذ القرآن شيئا فشيئا ، كما أنزله الله تعالى على نبيه r . قال تعالى: }وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا { [الإسراء:106]،  وقال تعالى:}وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا{[الفرقان:32]، وعلى هذا المنهج في تلقي القرآن علَّم النبي r صحابته y وكذا أخذه الصحابة فكانوا يأخذونه منجماً على عشر آيات لا يجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، فعن ابن مسعودt (ت:32هـ )قال: "كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ".([19]) وقال أبو عبد الرحمن السلمي(ت:74هـ): "حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا يستقرِئون من النبي r، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا" ([20]). فكان هذا المنهج في تلقي القرآن معيناً على تدبره وتفهمه واتباعه .

 

القاعدة الثامنة : اليقين التام بأن القرآن ما نزل لزمن تاريخي محدد بل هو صالح لكل زمان ومكان

وهذا يدعو القارئ أن يجعل القرآن هاديا في كل قضية نزلت بالناس واقعة أو منتظرة.

قال العلامة ابن القيم (ت:751هـ): أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحت القرآن، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقِبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.اهـ([21])

 

القاعدة التاسعة : العلم المجمل بأصول الدين ومقاصد الملة :

إن معرفة القارئ المتدبر لأصول الدين ومقاصد الشريعة ستكون عونا له على فهم القرآن ومانعا من الخطأ في تدبره فمن عرف أصول الدين لا يمكن أن يفهم من مثل قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) أن الآلهة متعددة  اعتمادا على لفظ ( نحن ) كما لا يمكن أن يفهم من قوله : ( فويل للمصلين ) تحريم الصلاة .

وبهذه القاعدة أصل إلى ختام هذه القواعد سائلا الله تعالى أن ينفع بها ويجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .



[1] - إعلام الموقعين (1/354).

[2] - إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ص159-160(مع الاختصار والتصرف).

[3] - الجامع لأحكام القرآن (11/176).

[4] - الإحياء (1/288 , 302).

[5] - مختصر منهاج القاصدين ص68 وانظر الإحياء (1/282).

[6] - الفتاوى (9/311).

[7]) البرهان في علوم القرآن (2 / 181) .
[8]) جامع البيان (26/57) .
[9]) الفوائد ص 5 .

[10] - التبيان ص28.

[11] - الإحياء (1/285).

[12] - السير(15/177).

[13]) أخرجه النسائي ، كتاب الافتتاح ، باب ترديد الآية (2/177) ، وابن ماجة ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل (1/429) ، وأبو عبيد في فضائل القرآن ص 144 ، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/218) وصحيح سنن ابن ماجة (1/225) . وأخرج الترمذي نحوه من حديث عائشة في كتاب أبواب الصلاة ، باب ما جاء في قراءة الليل (2/310) إلا أنها لم تذكر آية المائدة ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي(1/139) .

[14] - مفتاح دار السعادة ص 187.

[15] - الإحياء (1/282) (بتصرف يسير).

[16]) انظر فضائل القرآن لأبي عبيد ص 171 .

[17]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/278) ، وانظر فضائل القرآن لأبي عبيد ص 141، وفضائل القرآن لابن الضريس ص 27.

[18] ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب ، حديث رقم(1457)

[19]) أخرجه عنه ابن جرير في جامع البيان (1 / 80) أثر(81) ط: شاكر .
[20]) أخرجه عنه ابن جرير في جامع البيان (1 / 80) أثر(82) ط: شاكر .
[21]) مدارج السالكين (1 /343) .