أنت هنا

أزمة المال: دعوة لمراجعة منهجنا الفقهي
18 شوال 1429
هيثم بن جواد الحداد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

 

أولا: أين النخب عن استثمار هذه الأزمة:

يبدو أن النسق لهذه الحقبة من التاريخ البشري يعكس واقعًا مضطربًا لعالم تقوده هوية غريبة عنه، وعن فطرة البشر الذين يعيشون فيه، فلا يستغرب حينئذ أن يحدث زلزال مالي بهذا الحجم التوسونامي يهز أركانه، ما يلبث أن يكشف عن سوأة نظام قائم على الظلم والاستبداد، لا بد للعقلاء من المسلمين وغيرهم من دراسة لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية لهذه الأزمة، بل تضيف إليها أبعادًا أخرى –وإن كانت أقل أهمية من الجانب الاقتصادي – مثل البعد السياسي، والاجتماعي، مع التأثيرات المتعددة المحتملة لهذا الحدث الكوني الهائل وفرص استثماره.

 

 أحداث سبتمبر المالية هذه، التي يحلوا للكثير تسميتها بالأزمة المالية، لا شك –أنها قد تكون على خلاف ما يظن الكثير - رحمة من الله جل وعلا؛ للكفار لعلهم يرجعون، وللمسلمين الذين طالما عانوا من ظلم هذا المارد الأمريكي؛ لعل حقبته التي سيطر فيها على العالم كله تؤول إلى نهاية قريبة.

 

لكن مما يؤسف له أن الأمة بأغلب فعاليتها العلمية، والدعوية، والسياسية، والاقتصادية كانت عاجزة عن وضع رؤى استراتيجية لما اصطلح عليه "بالسيناروهات" المختلفة لمستقبل العالم الإسلامي في ظل أوضاع العالم سريعة التغير، وبالتالي فقد يصعب على المسلمين في المرحلة الحالية استثمار الأزمة في صالحهم "في خطوة تاريخية"

 

الاقتصاديون الإسلاميون استحوذ على تفكير الكثير منهم العمل على إثبات إباحة  بعض المعاملات الاقتصادية، وحشد الأدلة الفقيهة والأصولية لجواز التعامل بالأسهم مثلا،  والبعض الآخر مشغول بتقسيم الأسهم إلى نظيفة، ومختلطة، ومحرمة، وقليل منهم مشتغل بنقد النظام المالي الحالي، ومن هو مشتغل منه بذلك فإنه عاجز عن إيجاد رؤية اقتصادية-سياسية تستثمر هذا النظام المهتريء الذي هو عرضة للسقوط في بعث الروح في النظام الاقتصادي الإسلامي، فضلا عن المساهمة في إيجاد رؤية استراتيجية لإصلاح أحوال هذه الأمة المنكوبة، بل أني لم أجد من "تنبأ" بسقوط النظام المالي الحالي أو نهايته سواء من الناحية الواقعية الاقتصادية – سيء الذكر ساركوزي يتسائل عن هذه النهاية الآن - أو من ناحية القدر الكوني مع وضوحها الشديد، مع أن الله جل وعلا يقول "يمحق الله الربا ويربي الصدقات"، والله يقول (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول(الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل)، ويقول (ما ظهر في قوم الربا و الزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله)

 

ثانيا: اتجاه التسويغ في الفقه، إلى متى؟:

مما زاد المأساة عمقا أن اتجاه عدد من المشايخ وطلبة العلم – لا سيما بعد أحداث سبتمبر-، هو اتجاه التسويغ، والإباحة، وحشد الأدلة لذلك، أو محاولة الالتفاف عيها بالتقاط ما يناسبهم من أقوال الفقهاء والتلفيق بينها، وتكرس هذا النهج عند كثير من المشتغلين في فقه المعاملات المالية، بل ربما ارتفعت أصوات بعضهم في النكير على من استصحب الكليات الاقتصادية، والكليات المقاصدية في باب المعاملات المالية، عند الحديث عن آحاد المسائل التجارية، والاقتصادية، والمالية، فكان ينظر بتوجس لهذه الأدوات المالية الحديثة، وينظر بتوجس أكبر تجاه تطبيقات ما يسمى بالبنوك الإسلامية لها.

 

نعم تجد بعض أصوات تنادي بمراجعة النظم المالية، بل وبمراجعة فقه البنوك الإسلامية، لكن أصواتهم تخبو في وصت ضوضاء البورصات فلا يبقى من صراخهم سواء حركات انفعالهم التي لا تكاد تبين، وقد يوافقهم البعض على بعض هذه المطالب يوم أن تحدث أزمة مالية، لكن هذه المطالبات لا تلبث أن تنتهي بسلة المهملات بعد أيام قلائل، فبريق المال والثراء الذي لا يجد معارضة واضحة من أهل العلم الشرعي تطغى على التعقل قبل الإقدام على هذه المجازفات.

 

وإنه مما يدعو إلى الحيرة أن هذه الأزمة مع أنها يمكن أن تستثمر استثمارًا عجيبًا في الدعوة إلى الله جل وعلا، وإلى دينه إلى أن هذه الفرصة لم تجد مكانها بعد في خضم الواقع الإسلامي.

 

الاقتصاد الإسلامي معجزة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ويزداد تألقه يوما بعد يوم، وهذه الأزمة أكبر شاهد على أنه تنزيل من حكيم خبير (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، فمثلا يكاد يجمع ألئك (الغربيون الكفار) الذين تكلموا عن الأزمة أن أهم أسبابها هو ما يعرف عند الاقتصاديين بصناعة المال، Creation of Money  أي صناعة مال وهمي، وهذا هو أس النظام الاقتصادي الربوي الحالي الذي يمسك بزمامه البنوك.

بل إن تاريخ انشاء البنوك -كما هو معروف- يرجع إلى هذه الفكرة التي يقوم البنك من خلالها بإقراض أموال تفوق ما يملك حقيقة بشكل كبير جدًا – بعض التقارير تفيد بأن بنك ليمان برذرز الذي كان أول من أعلن إفلاسه في هذه الأزمة وهو رابع أكبر بنك أمريكي تجاوز ما يقرضه أصوله المالية "الحقيقية" بستين ضعفًا-، وتوضيح الفكرة بشكل ميسر، أن الناس في السابق كانوا يتعاملون بالذهب والفضة بشكل أساسي، وعندما حصل نوع من الخوف على ممتلكاتهم من هذين العنصرين، أصبحوا يحتفظون بأصول ممتلكاتهم هذه عند أناس معينين (صناع ذهب، أو أمناء الذهب، أو حفاظ الذهب- والمصرفيون امتداد لهم) Goldsmith  الذين كانوا في الغالب من اليهود، وفي المقابل يعطي هؤلاء الحفظة سند استلام، وبعد مضي مدة من الزمن اصطلح الجميع على تبادل هذه السندات التي تعكس الأرصدة، فيما بينهم، فسندي بالاستلام من الجهة أ مثلا سيقبل عند ب، ولذلك فلا داعي لنقل الذهب من المنطقة التي يوجد فيها أ إلى المنطقة التي يوجد فيها ب، وإذا ما احتجت إلى ذهب فيمكنني الذهاب إلى ب بسند استلام من أ، وهكذا، وازدادت ثقة الناس بهذه السندات، وأصبحوا يتعاملون بها دون امتلاك الذهب حقيقة، ثقة منهم بأن الذهب موجود فعلا ومملوك لهم بحملهم لهذه السندات، وأنهم متى ما أرادوه حصلوا عليه من مصدري السندات، وعليه فإذا أردت الاقتراض فإنه يمكنني أن اقترض ذهبًا دون أن أحصل عليه فعليا، بل يكفي أن أحصل على سند به، من أ أو ب، ثم أبادله مع أحدهما أو مع عموم التجار الآخرين الذين وضعوا ثقة في هذه السندات، وبعض مضي شيء من الوقت تولدت لدى مصدري السندات فكرة شيطانية خبيثة يوم أن رأوا أن نسبة من يطلب الحصول على الذهب فعليًا منهم قليلة جدا، ربما لا تجاوز العشرة من مائة، فقاموا بطباعة سندات غير مغطاة، لكنها لا تختلف عن السندات الأصلية في شيء، وقاموا بطرحها للتداول في الأسواق، وهكذا أصبح مصدر السندات يملك من الذهب فعلا، أو لنقل لديه من الودائع فعليا – مثلا - عشر ما يملك سوقيا، أو اسميا، أو على الورق، كل ذلك اعتمادًا على أن عشرة في المائة من الناس يمكن أن يطالبوا بذهبهم الفعلي، وهكذا حدثت صناعة المال، فالمال المتداول في السوق، هو مال وهمي، المغطى منه بمال حقيقي (أي ذهب أو فضة) هو العشر فقط، وربما أقل من ذلك بكثير كما هو الحال في هذه الأزمة.

 

هذه الفكرة التي عرضناها بشكل بدائي ميسر هي أحد أساسي البلاء في أي مصيبة اقتصادية، وهي التي يعبر عنها أحيانا باستقلال الاقتصاد “الاقتصاد العيني أو الحقيقي” وبين “الاقتصاد المالي”، أو استثمار الديون، ونحو ذلك، وأهل الشرع يقولون بأن من أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي أنه المال مغطى بأصول حقيقيةReal assets

 

وتأمل أخي القارئ في تاريخ جميع الهزات أو الكوارث الاقتصادية التي ضربت بقاع شتى من العالم تجدها ترجع إلى هذا السبب مع السبب الآخر؛ الربا، بل إن الضربات التي تلقتها أسواق المال – في العالم الإسلامي -بدءا من سوق المناخ الكويتي إلى أسواق أسهم السعودية، ترجع إلى هذا السبب.

 

أيها الفضلاء، مشكلتان لو تخلص العالم منهما، لتخلصنا ربما من أكثر من نصف المشكلات الاقتصادية، فإذا ما عملنا بعد بالزكاة، وأعملنا الصدقة، وضيقنا الهلع إلى الدين لتخلصنا من جميع المشكلات الاقتصادية، لا يتسع المقال للاستشهاد على ذلك بكلام الاقتصاديين حول كل قضية، لكني في هذه المقالة سأتحدث عن "التقابض" فقط، إذ أني أعتقد بأنه أي التقابض هو مفصل الأمان الرئيسي في العملية التجارية، وهذه نظرية لعلها تفرد بمزيد من البحث النظري والتطبيقي لاحقًا إن إذن الله جل وعلا.

 

ثالثا: فقه التقابض: معجزة أهملت، أين نحن منها؟:

التقابض مع أهميته هذه فقد بدأ كثير من المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي والإفتاء التساهل في مراعاة أحكامه، وتشريعه معجزة ربانية، لو أبرزناها للعالم الغربي لأقبل كثير منهم على دراسة الإسلام، ومن ثم الدخول فيه، فإن ما يحدث آية من آيات الله جل وعلا (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) ولعل الله أن يفتح على قلوب وأفئدة الاقتصاديين فيتقدموا في هذه الساحة الآن، وقبل فوات الأوان، ونسأل الله أيضا أن يفتح على قلوب وأفئدة الإعلاميين فيفتحوا المجال لؤلئك الاقتصاديين، فالسوق سوقهم كما يقال،،،

 

وكل مهتم بشأن الاقتصاد الإسلامي يدرك أنه ثمت اتهامات كثيرة تتوجه إلى الاقتصاد الإسلامي، حتى أن البعض يتهمه بأنه حيلة وخداع، وبعيدًا عن هذا الجدل، إلا أننا نقر بأن كثيرًا من القطاعات المصرفية الإسلامية ليس لها من الاقتصاد الإسلامي إلا الصور الشكلية أو الأسماء المنحوتة، بدءًا من الاقتصاد الإسلامي، وانتهاء بأسماء المنتجات الأخرى؛ أمانة، تجوري، خير، منزلي، بركة، صكوك، قرض، وهكذا،،،

 

أما المضمون والمحتوى فإنه بعيد كل البعد عن روعة وجلال هذا النظام الرباني الفريد، لكن السؤال الأهم هو من الذي "غلف" تلك المنتجات غير الإسلامية، بغلاف إسلامي، ومن الذي سوغ ذلك؟

 

لا شك أن كل منتج إسلامي لا يكتسب هذا الاسم إلا إذا تترس خلف بعض "أسماء العلماء" أو الأسماء العلمية المعروفة على الساحة الاقتصادية الإسلامية، فهي التي أصدرت تلك الفتاوى التي تنص على مطابقة هذا المنتج أو ذلك للشريعة الإسلامية، وهذا الثلة من العلماء اتبعت نهجًا علميًا في تناول أحكام هذه المعاملات أدى إلى بروز هذا الخديج، والذي سمي إسلاميًا، ولا يتسع المجال لبيان معالم هذا النهج، لكن من أهم أسسه، التنقيب عمن قال بالجواز, تلفيق الأقوال، النظر إلى جزئيات المسائل دون كليات المسألة، سيطرة الرغبة في الإباحة خوفا من الاتهام بالتشدد، محاكاة النظم والمنتجات الغربية وهكذا، وأهم مثال على هذا هو تساهل كثير من العلماء وبالتالي المنتجون لأدوات الاستثمار أو الإقراض الإسلامية في مسألة القبض الحقيقي، فالمرابحة – والتي لا يكاد يخلوا منها منتج أو معاملة إسلامية – أصبحت صورية، شكلية تخلوا من أي قبض حقيقي، زعمًا بأن بعض أقوال المذاهب توسعت في مسألة القبض، ومعاملات الأسهم جلها يعتمد على تجاوز قضية القبض، مع أن جل هؤلاء الشرعيين يصنفون الأسهم على أنها جزء مشاع من الشركة، ولا أظن أحدًا من إخواننا المتجرين بالأسهم يظن أنه قد امتلك يومًا من الأيام جزءًا من الأصول الثابتة لشركة مايكروسوفت مثلا، أو شركة أمازون، أو غيرها، اترك عنك ما أخذت به بعض اللجان الشرعية من جواز التورق بالأسهم، أما إذا ما ولجت إلى عالم الصكوك، فكأنك لا تعرف من الإسلام شيئًا، فجل ما هنالك غربي وضعي، لكن له اسمًا إسلاميًا، وقل مثل ذلك في "الكرديت الإسلامي"، فلديك بطاقة اقتراض إسلامية، تدخلها في جهاز الصراف المالي لتقترض بها مبلغًا بصورة إسلامية، فتكون بإدخالك لهذه البطاقة، قد وكلت البنك، في شراء معدن، ثم وكلته في قبضه، ثم وكلته في حيازته، ثم وكلته في بيعه، وتسليمه، ثم في قبض قيمته، ثم سلم لك القيمة، وبقيت أنت مدينًا له بسعر الشراء الأول، كل ذلك تم من خلال إدخالك البطاقة لتلك الآلة! وإن كان البنك ورعًا، واللجنة الشرعية أكثر ورعًا، طلبت من العميل الحضور إلى البنك، وملء أوراق واستمارات لا يكاد يفهم العميل منها هذه توكل في الشراء، وأخرى توكل في البيع، وتلك تقبض، ثم يطلب منك العودة بعد أيام لتستلم القرض، والذي ليس هو بقرض بل هو ثمن الحديد الذي اشتريته، وبيع من أجلك!

 

أما في الغرب وبعض البلاد العربية، فقد تقاطرت الفتاوى على إباحة شراء المساكن بطريقة الموركج، وتحمل كبر إثم ذلك المجلس الأوربي للإفتاء، وحشد له من الأدلة، ما يجعل المسألة وكأنها من مواطن الخلاف التي لا يثرب على المخالف فيها، فالربا في غير دار الإسلام مباح عند الحنفية وبعض الحنابلة، وهذا النوع من الربا تبيحه الحاجة فقط، والحاجة بل الضرورة قائمة في بلاد الغرب على تملك المسكن الذي يعيش فيه الإسلام ...وقريبًا من هذا الموركج ظهر الموركج الإسلامي، فالعميل يتعاقد مع البنك، على أن البنك يشتري المنزل، ليشتريه منه العميل بعد ذلك، إما بصورة المرابحة، أو بصورة الإجارة المنتهية بالتمليك، أو بصورة المشاركة المتناقصة، كلها تقوم على أن البنك يشتري – إما كل المنزل أو بعضه كما في المشاركة المتناقصة – لكن العميل ملزم عقدًا بشراء المنزل بثمن أعلى، وما هذه الصورة إلى دارهم بدراهم بينهما حريرة كما قال ابن عباس، وهكذا فإن هذه الصورة لا تختلف عن الموركج التجاري شيئًا، ولذا فإن جميع أضرار الموركج التجاري حاصلة فيها.

 

رابعًا: هل الاقتصاد الحالي الإسلامي بصورته الحالية يمكن أن يكون منقذا للأزمة؟

هذا الذي نتحدث عنه، الموركج، الاتجار بالأسهم في السوق الثانوي والأسواق المتفرعة عنه، تأمين الأسهم، التورق على الأسهم، كلها مفردات نعرفها من قبل، لكن المصيبة أنها كلها أو جلها هي نفسها مفردات وأسباب هذه الأزمة المالية الحالية، فبدايات هذه الأزمة انطلقت من تمويل المساكن بطريقة الموركج، والتسهيلات التي قدمتها البنوك الأمريكية عن طريق ما يعرف ب Subprime  فارتفعت أسعار العقارات، مما حدا بالناس إعادة رهن بيوتهم للاقتراض بما يساوي قيمتها الجديدة، ثم حولت البنوك هذه الرهون أو القروض إلى سندات – المرحلة الأولى - وبيعت هذه السندات (والتي هي صورة من صور الأسهم) لمستثمرين غالبا ما يكونوا من المساهمين بما يعرف بHedge Funds  (1) بسعر أعلى من السعر الجديد، ثم رهنت هذه السندات مقابل قروض لشراء سندات جديدة –المرحلة الثانية-، ثم حولت الرهون أو القروض الأخيرة إلى سندات في مرحلة ثالثة، وهكذا في سلسلة هرمية مبنية على ذلك البيت المتهالك بهذه الديون التي أثقلته، والمضحك في الأمر أن الكل يظن أن سنده مغطى بالبيت، أو أنه مالك للبيت، وهو تمامًا ما يتساهل فيه كثير من أهل العلم المشتغلين بالإفتاء في هذه الأمور.

 

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا ينطوي على بيع الدين الذي اجتمعت فيه عدة مخالفات شرعية، فهو بيع مال حاضر بمال غائب، وهذا صرف وربا، فإذا كان بيع دين بدين فقد انضاف إليه النهي (عن بيع الكاليء بالكاليء)، إضافة إلى أنه احتيال لتحويل المخاطرة من طرف إلى طرف آخر بمقابل.

 

وفي كل مرحلة تأتي شركات التأمين بجشع عجيب لتعرض خدماتها لتأمين تلك السندات المرهونة، فإذا ما عجز صاحبها الأصلي الذي رهنها عن السداد، سددت شركة التأمين عنه للمرتهن الذي وضعت تحت تصرفه، والتأمين فكرة تعارض روح الشريعة ونصها –أيضا يتساهل فيها كثير من المشايخ – فإذا انضاف إليها تأمين على الدين، تضاعفت المخالفات الشرعية، فهذا تأمين سلعة محرمة، -بيع الدين بالدين – وتأمين على مال، سينطوي عن ربا، وهكذا ,,,

 

وقعت الكارثة حينما أظهر الناس عجزهم عن سداد قيمة الديون التي تحملوها، فطولبت شركات التأمين بالسداد، فعجزت عن السداد، فتوجهت للبنوك التي لا يمكن الآن أن تقرض سيولة، فقد نفذت سيولتها في تلك العمليات، فتوقفت البنوك عن الإقراض وبقيت خزائنها خاوية إلا من الأرقام الفلكية، وحيث أن جميع الاقتصاد مرتبط بالبنوك، وتلك تحملت ديونا خيالية فقيمتها السوقية أضعاف مضاعفة من أصولها المالية –الحقيقية-، ومن ثم بدأت حركة ارتدادية في الإقراض للمشروعات الكبيرة، ارتبك الاقتصاد، وبما أنه كله معتمد على أموال وهمية بأرقام خيالية صنعتها شاشات الكمبيوتر فإن فقدها أيسر بكثير من الطريقة التي وجدت فيها أصلا، فبدأت هذه الأرقام في الهبوط السريع، والذي يسمى خسارة في عرف الجميع، فاضطربت الأسواق، واضطرب الناس، وبدأت التصرفات الهستيرية من الجميع، فوقعت الكارثة.

 

لا أظن أن الاقتصاد الإسلامي بصورته الحالية يمكن أن يعكس الإعجاز الإلهي في هذا التشريع، وذلك لأنه ما من عملية اقتصادية تكاد تنجو من تجاوز القبض الحقيقي، الذي يمثل الركن الركين في العملية التبادلية التجارية الجارية وفق الشرع، والذي يمثل التشريع الإسلامي والإجراءات الاحتياطية التي اتخذها لمنع تجاوز التقابض الحقيقي أهم معجزاتها، ولا أنسى ما سارني به أحد أهم أعمدة الاقتصاد الإسلامي في العالم يوم أن اجتمعت به على خلفية المؤتمر الاقتصادي الإسلامي السادس المقام في لندن برعاية الحكومة البريطانية، والذي صرح فيه جوردن بروان وزير الخزانة آنذاك بأن بريطانيا تأمل أن تكون بوابة الاقتصاد الإسلامي لأوربا، فسألته عن هذه الرغبة المحمومة فأجاب بأنه يعتقد أنهم درسوا الاقتصاد الإسلامي بصورته الحالية ووجدوا بأنه لا يمثل تهديدًا حقيقيًا لنظامهم الاقتصادي إذ لا فرق جوهري! وفي العام المنصرم وفي أحد المؤتمرات العامية المقام في لندن حول المصرفية الإسلامية أجمع المحاضرون على أن دول العالم كله، وبالذات أوروبا ترغب في الحصول على هذه السيولة التي توجد في بلدان الخليج، ولذا اتجهت أوروبا لقبول البنوك الإسلامية، أو فتح النوافذ الإسلامية في البنوك الأخرى.

 

كنت أتمنى أن يعي بعض الإخوة من طلبة العلم والمشايخ أن الأمر أكبر من مجرد إباحة إجراء في معاملة أو إباحة المعاملة نفسها لأن فريقًا من الفقهاء قال بها، وأنها تساهم في التخفيف عن الناس، وكم أتمنى أن تكون هذه الكارثة الاقتصادية، تنبيها لجميع المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي بما فيهم طلبة العلم والمشايخ على أن الوقت قد حان لتحرير عقولنا أولا من هذا النهج، والميل إلى الصرامة في اتباع أوامر الحكيم الخبير، لا سيما في مثل هذه القضايا التي تمس عموم الخلق.

 

هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن الاقتصاد الإسلامي بصورته الحالية قصر عن استيعاب مفردات هي من صميمه، فالأنفاق دون مقابل، الزكاة أو الصدقة ، ركن ركين في النظرية الاقتصادية الإسلامية، ومع ذلك فيكاد ألا يكون لها دور البتة، بل ربما أساءت بعض الدول استخدامها أو الاستفادة منها مما يجعل هذا الاقتصاد عاجزًا عن تقديم أنموذج أمثل من تلك النماذج الرأسمالية، أو الشيوعية.

 

ولم نسمع عن أطر في نظم البنوك الإسلامية لإنظار المعسر (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، والمقصود بتلك النظم ما يمنع من اسائة استخدام هذا الميزة.

 

 أما دور الأخلاق في الاقتصاد الإسلامي بصورته الحالية يكاد يكون معدوما، فأحد أهم أسباب هذه الأزمة التوسع في المديونية، وهو أمر تحاول الشريعة تقيده والحد منه، واستبداله الإنفاق والصدقة بشتى الوسائل والتي من أهمها الوقف والاستفادة من ريعه، ولم نسمع أبدا عن بنك إسلامي أوقف عقارات بحجم يتناسب مع قدرته أو رأس ماله، مساهمة منه في دفع عجلة التنمية، وليس مجرد صدقة يأنف من الاستفادة منها غير المعدمين.  

 

هل تكون هذه الأزمة مفتاحا لتغيير حقيقي في تناولنا لأحكام الشريعة الإسلامية، نسأل الله ذلك.

 

______________

(1) عبارة عن صناديق اسثمارية خاصة لا يدخلها كل أحد، أصحابها من كبار الرأسماليين، وتستثمر بمبالغ ضخمة جدا، واستثماراتها ماليه، أعني أن السلعة المتداولة فيها هي المال، وليس السلع الحقيقية