اللهث وراء الختمات
28 رمضان 1434
عبد المجيد بن صالح المنصور

يتهافت كثير من الناس في نهاية شهر رمضان على الجوامع للصلاة خلف الأئمة المشهورين بجودة التلاوة؛ لحضور ختمة القرآن، يصحب هذا التهافت احتجاج بما روي أنه: (عند كل ختمة دعوة مستجابة)، فتزدحم بعض الجوامع لهذا، وتضيق على مرتاديها، وتغلق الطرقات، فلا يجد القاصد إليها سبيلا، ولا لداخلها طريقاً، ويكون ذلك كله على حساب السكينة والخشوع، والتدبر والخضوع.

 

يسارع سواد عظيم من الناس لحضور تلك الختمات ليدرك الدعوة المستجابة عند الختمة، ولكي يذرف الدموع فيها، ويسكب العبرات، ويخرج الزفرات، بسبب تأثير كلام المخلوق (الإمام الداعي) في الوقت الذي لم يبك من كلام الخالق في آيات الوعد والوعيد التي لو أنزلت على جبل لخشع وتصدع من خشية الله جل وعلا، فآه ثم آه من أناس يبكون من كلام المخلوقين، ولا يبكون من كلام الخالق جل وعلا، ثم آه من أناس يبكون من كلام المخلوقين أكثر من كلام الخالق. هل قل إيمانناً، أو تغيرت موازيننا، أو علا كلام المخلوق على كلام خالقنا!!!... أو لأجل أن يحدِّث عند الآخرين بأنه حضر ختمة فلان، الله أعلم بما تكنه القلوب.

 

إنه مهما بلغت بلاغة دعاء المخلوق، وبديع نظمه، وقوة سجعه، وحسن سبكه، وجميل لحنه، وروعة صوته، وجمال كلامه، لن يكون كبلاغة كلام الخالق الله جل وعلا، وقوة تأثيره، "والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى" قاله الوليد بن المغيرة الكافر في القرآن حينما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فمال لقلوبنا لا تقولها وتَحسُّ بتلك الحلاوة.

 

نعم قد يبكي من كلام المخلوق ويتأثر به بغير اختياره وتقصُّد فليس في ذلك ملامة، ولكن النكير: أين هو من كلام الله قبل تلك الختمة؟ لماذا لم يتأثر به كتأثره بدعاء الختمة؟، ولماذا هذا البكاء والعويل والصراخ الطويل في المساجد والجوامع عند الختمات، ويرتج لذلك المسجد بسبب تأثير كلام المخلوق أكثر من تأثير كلام الخالق، أليس القرآن أحق بذلك، ولماذا تُقصد الختمات لأجل البكاء فيها، ولا يقصد كلام الخالق ليبكي بسببه، والعجب أن تجد الملامة والنقد تتجه كثيراً إلى الأئمة الذين لا يطيلون الدعاء، ولا يلحنونه، فهجر ثلة كبيرة من الناس الصلاة مع متبع السنة في القنوت، وتتبعوا من يطيله ويلحنه مع أنهم أحق بالنقد من أولئك.

 

إن قلوباً تتأثر بكلام المخلوق دون كلام الخالق في إيمانها ضعف، ، ويستحق أصحابها أن يراجعوا أنفسهم.

 

ولست أقول ذلك حاسداً للأئمة بما آتاهم الله من فضله؛ إذ لا ذنب لبعضهم فهم مبتلون بكثرة المصلين خلفهم، وإن كان بعض الأئمة يخالف السنة في الدعاء، نسأل الله لنا ولهم القبول والتوفيق والهداية، ولكن النكير على أولئك المتراكضين والمتنقلين بين المساجد والجوامع لهذا القصد المحدث الذي لم يرد عن السلف أنهم كانوا يتتبعون ختمات الأئمة، بل ولم يرد أنهم كانوا يتتبعون أصوات القراء في رمضان فيما أعلم، وإن كان بحث المصلي عن إمام يرتاح له ويخشع في صلاته لقراءته أمراً جائزاً في الأصل، وفرق بين تتبع القراءة وتتبع الختمة.

 

ثم ما الداعي من بعضهم للتنقل بين الجوامع لإدراك ختتمين أو ثلاث ختمات أو أربع في شهر رمضان أو خمس كما حصل لبعضهم، لا أراه إلا تنطعاً في الدين، ومخالفة لهدي سيد المرسلين، ولو اكتفى بحضور ختمة إمام واظب الصلاة معه من أول الشهر إلى ختمه لكان الأمر أهون، مع أن أصل دعاء ختمة القرآن في الصلاة وتتبعها أمر غير مشروع، وفيه خلاف وكلام ليس هذا موضعه.

 

وأما ما روي أن  ( عند كل ختمة دعوة مستجابة) فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم،  وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين لا سعادة بأحدهما ولا بمجموعهما.

أما الأول:

فقد رواه الخطيب البغدادي في  تاريخه(1)عن رقاد بن إبراهيم : حدثنا أبو عصمة: حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك مرفوعاً .

 

وهذا الطريق فيه علتان:
الأولى: في أبي عصمة وهو نوح بن أبي مريم قال يحيى: أبو عصمة ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد ويروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات لا يجوز الاحتجاج به بحال (2)، وقال البخاري في التاريخ الكبير: نوح بن أبي مريم أبو عصمة قاضي مرو ذاهب الحديث جدا(3)،  وقال الجوزجاني: سقط حديثه(4)، وقال الدارقطني:  ضعيف الحديث متروك(5). وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين وقال: (قال أحمد يروي مناكير ... وقال ابن حماد يروي مناكير وقال ابن حماد ومسلم بن الحجاج والرازي والدارقطني متروك ... وذكر أبو عبد الله الحاكم أن نوحاً وضع حديث فضائل القرآن(6).

 

والعلة الثانية: في يزيد الرقاشي، قال أبو طالب سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا يكتب حديث يزيد الرقاشي، قلت له فلم ترك حديثه لهوى كان فيه؟ قال لا ولكن كان منكر الحديث، وقال ابن سعد:  كان ضعيفا قدريا، وقال البخاري: تكلم فيه شعبة، وقال شعبة: لأن أقطع الطريق أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي، وقال يعقوب بن سفيان فيه ضعف، وقال أبو حاتم كان واعظا بكاء كثير الرواية عن أنس بما فيه نظر صاحب عبادة وفي حديثه ضعف، وقال النسائي والحاكم أبو أحمد متروك الحديث، وقال النسائي في موضع آخر والدارقطني والبرقاني ضعيف (7).

 

وقد ذكر ابن الجوزي هذا الأثر من هذا الطريق في العلل المتناهية وقال: ( هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد الرقاشي قال فيه أحمد بن حنبل (لا يكتب عنه شيء) قال يحيى: أبو عصمة (ليس بشيء ولا يكتب حديثه) وقال ابن حبان: (لا يجوز الاحتجاج به) (8).

 

وقال الألباني عن هذا الحديث بهذا الطريق في السلسلة الضعيفة: (قلت : وهذا موضوع ؛ آفته أبو عصمة هذا - وهو نوح بن أبي مريم ، الملقب بـ ( الجامع ) - جمع كل شيء من العلوم إلا الصدق! قال الحافظ : "كذبوه في الحديث ، وقال ابن المبارك : كان يضع"، ويزيد الرقاشي ضعيف، ورقاد بن إبراهيم لم أعرفه .)اهـ قلت ذكر ابن حبان رقاد بن إبراهيم في الثقات(9).

 

وأما الطريق الثاني: فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان(10) وأبو نعيم في الحلية(11) وابن عساكر في تاريخه(12) من طريق حمدون بن عباد ، حدثنا يحيى بن هاشم ، عن مسعر ، عن قتادة ، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مع كل ختمة دعوة مستجابة ». قال أبو نعيم:( لا أعلم رواه عن مسعر غير يحيى ابن هاشم).
وهذا الطريق علته يحيى بن هاشم السمسار.

ذكره ابن حبان في المجروحين:وقال كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويروي عن الإثبات الأشياء المعضلات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب لأهل الصناعة ولا الرواية بحال، وهو الذي روى عن مسعر عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " عند كل ختمة دعوة مستجابة " إنما هو يزيد الرقاشى عن أنس، ليس من حديث قتادة ولا مسعر) (13).

 

وقال الذهبي في ميزاان الاعتدال: (كذبه ابن معين، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال ابن عدي: كان ببغداد، يضع الحديث ويسرقه، ... وقال صالح جزرة: رأيت يحيى بن هاشم وكان يكذب في الحديث) (14).

 

لذا قال البيهقي عن هذا الطريق: (في إسناده ضعف وروي من وجه آخر ضعيف عن أنس) (15)   ويقصد بالوجه الآخر الطريق السابق عن يزيد عن أنس ثم ذكره.

 

وهناك أحاديث أخرى غير هذا الحديث في هذا الموضوع، ولكنها كلها ضعيفة ضعفاً شديداً أو موضوعة، فلا يفرح بها.

ومن ذلك:

1) مارواه ابن عدي في الكامل(16) والبيهقي في شعب الإيمان(17): من طريق  علي بن حرب، حدثنا حفص بن عمر بن حكيم ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من استمع حرفا من كتاب الله طاهرا كتبت له عشر حسنات ، ومحيت عنه عشر سيئات ، ورفعت له عشر درجات ، ومن قرأ حرفا من كتاب الله في صلاة قاعدا كتبت له خمسون حسنة ، ومحيت عنه خمسون سيئة ، ورفعت له خمسون درجة ، ومن قرأ حرفا من كتاب الله في صلاة قائما كتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ورفعت له مائة درجة ، ومن قرأ فختمه كتب الله عنده دعوة مجابة معجلة أو مؤخرة » فقال له رجل : يا أبا عباس إن كان رجل لم يتعلم إلا سورة أو سورتين ، قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « ختمه من حيث علمه ، ختمه من حيث علمه ».

 

وهذا الحديث علته في حفص بن عمر قال ابن عدي في الكامل (حدث عن عمرو بن قيس الملائي عن عطاء عن ابن عباس أحاديث بواطيل) (18) ثم ذكر بواطيله، ومنها هذا الحديث ثم قال( وهذه الأحاديث بهذا الإسناد مناكير لا يرويها إلا حفص بن عمر بن حكيم هذا، وهو مجهول، ولا أعلم أحداً روى عنه غير علي بن حرب ولا أعرف له أحاديث غير هذا)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين(19) وقال (حفص بن عمر بن حكيم يلقب بالكبر ويقال الكفر قال ابن حبان الرملي حدث عن ابن جريح قال يحيى: ليس بشيء وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون أحاديثه كذب وقال الأزدي متروك الحديث) وقال ابن حبان في المجروحين(20): (يروي عن عمرو بن قيس الملائي المناكير الكثيرة ...ولا يجوز الاحتجاج بخبره)، وقال البيهقي بعد ذكر الحديث « تفرد به حفص بن عمر وهو مجهول ».

 

2) و من ذلك ما رواه ابن مردويه عن جابر يرفعه: "إن لقارئ القرآن دعوة مستجابة، فإن شاء صاحبها تعجلها في الدنيا، وإن شاء أخرها إلى الآخرة"، وفيه مقاتل بن سليمان، كذبوه وهجروه.

 

قال فيه البخاري وابن معين: لا شيء البتة، وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشر بن سليمان كان قاصا ترك الناس حديثه، وقال بن عمار الموصلي لا شيء ،وقال أبو حاتم متروك الحديث وقال النسائي كذاب وقال في موضع آخر الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أربعة وذكر منهم مقاتل بخراسان، وقال البخاري قال بن عيينة: سمعت مقاتلا يقول: إن لم يخرج الدجال الأكبر سنة خمسين ومائة فاعلموا إني كذاب(21). وقال ابن حجر: اجمعوا على تضعيفه(22).

 

ومن خلال ما سبق يتضح أنه لم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن عند كل ختمة دعوة مستجابة، أما مشروعية ختم القرآن فهو موضوع آخر، و لا إشكال فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم ختم القرآن في رمضان أكثر من مرة في مدارساته مع جبريل عليه السلام، ولو كان هناك دعوة مستجابة عند ختمة القرآن لنقل إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله بطريق صحيح لدواعي الهمة إلى نقله، وورد عن بعض الصحابة كأنس رضي الله عنه أنه دعا بعد الختمة في غير صلاة، والله تعالى أعلم.

 

أسأل الله جل وعلا أن يدلنا للخير، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأسأله أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين الصيام والقيام والدعاء إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

_______________________

(1)   تاريخ بغداد(9/ 390).
(2)   المجروحين ج3/ص48
(3)   التاريخ الكبير ج8/ص111
(4)   أحوال الرجال ج1/ص203
(5)   سنن الدارقطني ج2/ص12
(6)   الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج3/ص167 وانظر تهذيب الكمال 30/56 وميزان الاعتدال7/55
(7)  انظر: تهذيب الكمال ج32/ص 68و 69
(8)  انظر: العلل المتناهية: 1/115
(9)  الثقات ج8/ص245
(10)   رقم 2086(ج2/ص374)
(11)   حلية الأولياء ج7/ص260
(12)   تاريخ مدينة دمشق ج14/ص271
(13)   المجروحين 3/125
(14)   ميزان الاعتدال 7/224 وانظر لسان الميزان6/279
(15)   شعب الإيمان 2086 ج2/ص374
(16)   الكامل في ضعفاء الرجال ج2/ص387
(17)   شعب الإيمان 2085  ج2/ص373   
(18)   الكامل في ضعفاء الرجال ج2/ص387
(19)   الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج1/ص223
(20)   المجروحين ج1/ص259، وانظر ميزان الاعتدال2/326
(21)   انظر تهذيب التهذيب ج10/ص253
(22)   لسان الميزان ج7/ص397