حتى لا نخادع أنفسنا..
5 ذو القعدة 1427

القوة المادية - في كل زمان ومكان -، هي عماد الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها، فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الوسع في الإعداد - حسب سنن الله - عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته سبحانه، فالله تعالى" جعل للطير والبهائم عُـدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته" [تلبس إبليس، ابن الجوزي ص 315].

فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها، إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن فقدهم للقوة المادية هو سبب ضعفهم وهوانهم، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن - فقط - في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته..، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من الهزائم النفسية المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحراف كبير في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية، فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم وعدم إشعارهم بأثر بُعد كثير من المسلمين عن دينهم في ضعف أمتهم وهوانها.

كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم.

كما أن التركيز أيضاً على القوة المادية فحسب؛ استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى، إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية، فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر - ولو بعد حين - أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم إلا أن يشاء الله.

وبالرغم من أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وهي قوة معطلة، وإذا أُوقضت فلن تستطيع قوة أخرى مواجهتها أو الوقوف في طريقها.

ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتِقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن؛ لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و(ضرورة) ذاتية لوجـودنا وتقدمنا، و(حاجة) ملحّة للذبّ عن ديننا ومواجهة أعدائنا.

والله تعالى أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال سبحانه: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..." (الأنفال: من الآية60)، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير رحمه الله: " أي: مهما أمكنكم" [تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 2/ 423]، والإعداد حسب الاستطاعة - مع الإيمان - من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة، وحينما ذكر الله سبحانه القوة فقد أطلقها بدون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحـة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.

ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية؛ أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:
• فبعضهم يُهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها وأهمية العمل على امتلاكها، حتى إنهم يرون في قوله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل.." أنه يكفي في الإعداد مجرد امتلاك القوة أياً كان نوعها، وأن الله تعالى سينصرنا بعد ذلك. وتناسوا ما بعدها "..ترهبون به عدو الله وعدوكم " فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.

• وبعضهم الآخر يُضخّم قضية القوة المادية ويبالغ في أثرها، ويعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينـزعه عمن يشاء!!، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسـباب أن تكون أسبـاباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع" [مجموع فتاوى ابن تيمية 1/131].

والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب، فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه لا ينبغي الاعتماد عليها. وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب (القوة)، ما نتائجه وعواقبه:
لقد كان صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعدة، وكان اعتمادهم بالنصر على الله تعالى وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداً، فاعتمدوا - في البداية - على ذلك، حتى قال قائلهم "لن نهزم اليوم من قلة" فوكلهم الله تعالى إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاً "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" (التوبة: من الآية25).

فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله تعالى قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب. وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا - كما يزعم بعض الانهزاميين - أن نعد قوة كقوة العدو، وألاّ نقاتله حتى نماثله في القوة؟!، فالمسألة تَوازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي مهماً وهو كذلك، فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني أهم وأولى وأوجب.

والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب، وإلا ما كان لموسى أن يصارع فرعون. وما كان لطالوت بالقلة التي آمنت معه أن يقاتل جالوت بجيشه العظيم. ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقاتلوا قريش والقبائل العربية وفارس والروم..، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين..إلخ، قال تعالى: "قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة: من الآية249).

ومن يستقرئ التاريخ على مداره المديد، يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل، فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم في القوة المادية أو أقوى عدداً وعدة منهم، فالتقدم العلمي والتقني ليس شرطاً لازماً للنصر، وإليك مصداق ذلك:

العرب: لا يخفى أنهم كانوا قبل الإسلام يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء.. حتى إن كثيراً منهم كان يرى عبادة الأحجار والأوثان قربة وطاعة، وشريعة الغاب أحكاماً وقوانين، والسلب والنهب قوة وشجاعة، والسرف المبالغ فيه كرماً ورجولة، ووأد البنات شرفاً وعفّة..

فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات؛ السياسية والعقدية والاجتماعية والحربية..
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون - حتى في المنام - بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً عن الانتصار عليها.

ولكن الله تعالى امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون، بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية، فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم..

هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله!!.
لماذا سموه لغزاً؟!.
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أحد أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد. والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد!!.

أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً، بدر- أحد - الأحزاب - المريسيع - مؤته.. إلخ، عدا معركة واحدة،كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم - ومن بعدهم إلى قيام الساعة - أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم العددية ولا بقوتهم المادية؛ وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.

أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن البعض منهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمحاً ولا سيفاً ولا مركباً " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون" [المرجع السابق ص 37 وما بعدها] ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.

فما القوة التي قهر بها الرسول صلى الله عليه وسلم من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم [فارس والروم] تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟.
والجـواب ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل، فنحن المسلمين نعرف وندرك أن القوة الإيمانية هي السبب الأساس الذي عزّ به المسلمون وسادوا.

وتصوروا ماذا لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يمتلكونه من القوة المادية بما يمتلكه أعداؤهم؟!. وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت:
لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟!!
لو قالوا مثل ذلك؛ هل كانوا سيخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟!

ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا وذلها وهوانها وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً أو حربياً وعسكرياً -وإن كان لذلك أثر ولا شك- إلا أن السبب الرئيس لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها وانحطاطها في جميع النواحي إلا نتيجة للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " وحيث ظهر الكفار؛ فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله..، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً " [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/45].

ومع هذا فإن الضعف التقني أو العسكري مهما بلغ، لا يجيز لنا الخور والاستسلام للعدو إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع) بحجة ضعف الإعداد وعدم كفايته، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة، وما لا يُدرك كُله لا يُترك جُله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله" أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشرط له شرط؛ بل يُدفع بحسب الإمكان" [الفتاوى المصرية 4/508].

وإذا رأى علماء أهل بلد النازلة - المعتبَرين- عدم قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية؛ وإنما عبر وسائل كثيرة؛ علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم - والأهم جداً - في هذا العصر..، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد، فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.

ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها (آحاد) العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماء أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بالسياسة وألاعيبها وحيلها، يقول شيخ الإسـلام ابن تيمية قدس الله روحه " الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا" [الاختيارات الفقهية، ص 311].