اشتراط التعدي في التعويض
21 صفر 1437
د. عبد اللطيف بن عوض القرني

اشتراط التعدي في التعويض

وهو في اللغة: مجاوزة الحد والقدر والحق، يقال: عَدَّيْتُه فتعدى أي تجاوز، وتعَدَّيت الحق واعْتَديته وعَدَوْتُه أي جاوزته، ويقول ابن فارس عن مادة – ع د و -: إن العين والدال والحرف المعتل أصلٌ واحد صحيح ترجع إليه جميع فروع هذا الباب، وهو أصلٌ يدل على تجاوزٍ في الشيء وتقدمٍ لما ينبغي أن يقتصر عليه(1).

 

أما في الاصطلاح: فإن لفظ (التعدي) يرد استعماله كثيراً في أبواب الفقه المختلفة، ويختلف المعنى المراد منه باختلاف الموضوع الذي استعمل فيه، إلا أن هذه الاستعمالات – مع اختلافها – ينتظمها معنى واحد هو: فعل الإنسان ما ليس له فعله، وهو معنىً يطابق المعنى اللغوي للتعدي؛ إذ إن من فعل ما ليس له فعله فقد تجاوز الحد والقدر والحق الذي ينبغي له الاقتصار عليه، وفيما يلي نماذج من استعمالات الفقهاء:

جاء عند الحنفية: في بدائع الصنائع في باب العارية: (الثاني: أن القبض المأذون فيه لا يكون تعدياً، لأنه لا يفوت يد المالك ولا ضمان إلا على المتعدي) (2)، فالتعدي أطلق هنا – كما هو مفهوم العبارة – على القبض غير المأذون فيه.

 

وجاء عند المالكية: في حاشية الدسوقي(3) في باب الشركة: (ولا يكون متعدياً بأخذه القراض(4) إلا إذا أخذه بغير إذن شريكه وكان العمل فيه يشغله عن العمل في مال الشركة ثم إنه في حال تعديه لا يكون ذلك التعدي مانعاً من استبداده بالربح والخسر) (5).
فالتعدي جاء في هذا الموضع بمعنى أخذ الشريك من الأجنبي مالاً ليعمل به مقارضة إذا كان العمل فيه يشغله عن العمل في مال الشركة، وكان بغير إذن شريكه.

 

وجاء عند الشافعية: في كفاية الأخيار في باب الجنايات: (ومن تعدى بشرب دواء مزيل العقل: هل يجب عليه القصاص؟ قيل: لا كمعتوه، والمذهب القطع بوجوب القصاص لتعديه بفعل ما يحرم عليه) (6) فالتعدي هنا بمعنى ارتكاب فعل محرم وهو شرب الدواء المزيل للعقل.

 

وجاء عند الحنابلة: في المغني في باب الوكالة: (ولا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وُكِّل فيه، مثل أن يلبس الثوب ويركب الدابة) (7).

 

فالتعدي قصد به في هذا الموضع مخالفة الوكيل مقتضى الوكالة كأن يلبس الثوب أو يركب الدابة اللذين وُكل في بيعهما، وإضافة إلى ما سبق فقد استعمل الفقهاء لفظ (التعدي) – بطريق الأولى – بمعنى الاعتداء على الأموال والأبدان في بابي الغصب والجنايات(8)، فهذه النصوص المتقدمة قليل من كثير لا يطال بذكره، وهي تدل على رجوع استعمالات (التعدي) – رغم تنوعها – إلى معنى واحد هو فعل الإنسان ما ليس له فعله الذي سبقت الإشارة إليه.

 

وإذا كان الفقهاء قد استعملوا لفظ (التعدي) على النحو المذكور، فإن لبعضهم – من وجهٍ آخر – اصطلاحاً خاصاً في هذا اللفظ يختلف من حيث السعة والضيق؛ إذ من هؤلاء من جعل (التعدي) مصطلحاً على جميع مدلولاته تقريباً(9)، كصاحب القوانين الفقهية الذي عقد للتعدي باباً صَدَّره بقوله: (وهو أعم من الغصب، لأن التعدي يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان) (10)، ومنهم من اصطلح – وهم المالكية في باب الغصب – على قصر (التعدي) على أحد مدلولاته حيث فرقوا بين التعدي والغصب بأن التعدي هو: (الاستيلاء على المنفعة كسكنى الدار وركوب دابة مثلاً) (11)، فقد جعلوا التعدي هنا مقصوراً على قصد الاستيلاء بغير حق على منفعة المال دون قصد تملك الذات، وهذا أحد جزئيات المعنى العام للتعدي فهو من أضيق استعمالات (التعدي).

 

وبعد هذا البيان لمعنى التعدي واستعمالاته عند الفقهاء يبقى القول أن التعدي الذي هو شرط في السبب الموجب للضمان هو ما كان بالمعنى الموافق لمعنى (التعدي) في اللغة، فإذا صدر السبب عن المتسبب على وجه ليس للمتسبب الحق في فعله من ذلك الوجه اتصف السبب بالتعدي، ومن أمثلة ذلك: شهادة الزور، واقتناء الحيوانات الضارة، والإكراه بغير حق، والحفر في الطريق العام، وإيقاف السيارة في مكان تمنع الأنظمة الوقوف فيه للمصلحة وما أشبه ذلك، واشتراط التعدي في السبب محل اتفاق بين الفقهاء تدل عليه نصوصهم وتعليلاتهم للقول بالضمان في مسائل التسبب، ولكن الذي يقع فيه الخلاف بين الفقهاء هو تحقق التعدي في السبب، ومن نصوص الفقهاء في اشتراط التعدي: ما ورد عند الحنفية في بدائع الصنائع: (والتسبب إذا لم يكن تعدياً لا يكون سبباً لوجوب الضمان) (12).

 

وورد عند المالكية في شرح حدود ابن عرفة(13) (قال رحمه الله: السبب العرِيّ عن قصد التلف إن كان عداء. فدخل في ذلك من ناول صبياً سلاحاً لا يقدر على مسكه فمات الصبي... وأخرج بقوله: إن كان عداء إذا لم يكن السبب فيه عداء، كما قال في المدونة: كمن حفر بئراً في داره أو في طريق في جانب حائطه إذا لم يكن فيه ضرر فلا ضمان في ذلك، وكذلك كل فعل مأذون) (14)، وورد عند الشافعية في الحاوي الكبير: (وأصل هذا الباب أن القتل إن حدث عن سبب محظور كان مضموناً، وإن حدث عن سبب مباح كان هدراً) (15)، وورد عند الحنابلة في القواعد: (أسباب الضمان ثلاثة: عقد ويد وإتلاف... وأما الإتلاف فالمراد به أن ينصب سبباً عدواناً فيحصل به الإتلاف بأن يحفر بئراً في غير ملكه عدواناً أو يؤجج ناراً في يوم ريح عاصف فيتعدى إلى إتلاف مال الغير)(16).

 

وإذا كان التعدي شرطاً للضمان بالسبب فإن استمرار اتصاف السبب بالتعدي إلى حصول الضرر به شرط لتحقق التعدي في السبب(17)، فلو زال التعدي عن السبب قبل حصول الضرر به برئ المتسبب من ضمان ما يحصل به من ضرر بعد ذلك، كما لو حفر شخص في أرض مملوكة للغير أو أوقد فيها ناراً ثم اشترى الأرض قبل أن يتلف شيءٌ بالحفر أو النار، وكما لو أوقف شخص سيارته في موضع يمنع الوقوف فيه ولم يحصل ضرر بسبب إيقافها حتى أُلغي المنع، والتعدي يمكن حصره – من خلال استقراء صوره – في ثلاث جهات:

الأولى: أن يتصرف الإنسان بما لا حق له فيه أصلاً، كما في إيقاد النار في الطريق العام، وكترك رجل الإسعاف نقل المصاب مع القدرة.
الثانية: أن يتصرف الإنسان بما هو حق له، ولكنه يتجاوز حد حقه في مثل هذا التصرف من جانب الزيادة، ويسمى (الإفراط) كأن يوقد الشخص في ملكه ناراً كبيرة فوق المعتاد.
الثالثة: أن يتصرف الإنسان بما هو حق له، ولكنه يقصر بترك الاحتياط المطلوب في مثل ذلك التصرف ويسمى (التفريط) و(التقصير) (18): كأن تسير ناقلة زيت وقد ترك الزيت يتسرب منها إلى الطريق فتنزلق به السيارات.

 

__________________

(1)    ينظر: معجم مقاييس اللغة، كتاب العين، باب العين والباء وما يثلثهما: 4/249، لسان العرب: باب العين: 4/2846، المصباح المنير: كتاب العين: 2/397.
(2)    بدائع الصنائع: 6/217.
(3)    هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي الأزهري، ولد بدسوق حضر مصر وحفظ القرآن وجوَّده على الشيخ محمد المنير، ولازم حضور دروس المشايخ كالصعيدي والدردير والجناجي وحسن الجبرتي ومحمد بن إسماعيل النفراوي، وقد تصدر للتدريس، وكان فريداً في تسهيل المعاني يفك كل مشكل بواضح تقريره مع لين جانب ودين متين وحسن خلق، له مصنفات واضحة العبارة منها: حاشية على الدردير على المختصر وحاشية على مختصر السعد وحاشية على شرح الجلال المحلي على البردة وحاشية على كبرى السنوسي وعلى صغراه وحاشية على شرح الرسالة الوضعية، توفي سنة 1230هـ. ينظر: شجرة النور الزكية: 1/361 وما بعدها.
(4)    القراض ويسمى المضاربة هو: أن يدفع شخص لآخر مالاً ليتجر به ويكون الربح بينهما على ما يتفقان عليه بعد إخراج رأس المال. ينظر: القوانين الفقهية ص 186، حاشية الدسوقي: 3/352.
(5)    حاشية الدسوقي: 3/353.
(6)    كفاية الأخيار: 2/160.
(7)    المغني: 7/236.
(8)    ينظر: أمثلة لهذا الاستعمال: في مغني المحتاج: 2/275، 4/10، كشاف القناع: 4/79، 6/6 وما بعدها.
(9)    حيث لم يذكر القذف الذي هو تعدٍّ على الأعراض بالقول، وقد يكون سبب عدم ذكره هو الاكتفاء بذكر التعدي في الفروج بجامع أن كلاً منهما تعدٍّ على الأعراض إلا أن ذلك تعدٍّ بالقول وهذا تعدٍّ بالفعل.
(10)    القوانين الفقهية ص 218.
(11)    الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي: 3/442.
(12)    بدائع الصنائع: 7/272، وينظر: المبسوط: 6/186، 188، 7/5، 22، الهداية مع تكملة فتح القدير: 10/33، مجمع الضمانات ص 165، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/83، شرح المجلة لسليمان رستم باز ص 514.
(13)    هو: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، شيخ الإسلام بالمغرب، ولد بتونس سنة 716، برع في الأصول والفروع والعربية والمعاني والبيان والفرائض والحساب، وقد تفرد بشيخوخة العلم والفتوى في المذهب، وكان رأساً في العبادة والزهد والورع. له مصنفات مفيدة منها: المبسوط في المذهب ومختصر الحوفي في الفرائض وعلق عنه بعض أصحابه كلاماً في التفسير، كثير الفوائد في مجلدين: توفي سنة 803. ينظر: شذرات الذهب: 4/38، الديباج المذهب ص 337 وما بعدها، ديوان الإسلام: 3/332.
(14)    شرح حدود ابن عرفة: 2/619.
(15)    الحاوي الكبير: 12/371.
(16)    القواعد لابن رجب ص 218.
(17)    ينظر: مغني المحتاج: 4/83.
(18)    قال في التعريفات ص 33: (الفرق بين الإفراط والتفريط أن الإفراط يستعمل في تجاوز الحد من جانب الزيادة والكمال، والتفريط يستعمل في تجاوز الحد من جانب النقصان والتقصير)، وينظر: المطلع مع المبدع: 11/142، 259، المصباح المنير: كتاب الفاء: 2/461، الكليات: 1/251، الإنصاف: 6/224 وما بعدها.