جريان الشمس والقمر وسكون الأرض بطريقة ابن القيم (1-2)
16 ربيع الثاني 1432
خالد بن صالح الغيص

بعد نشر مقالي الموسوم بـ "جريان الشمس والقمر وسكون الأرض" بجزئيه الأول (وهو الأدلة من القرآن) والثاني (وهو الأدلة من السنة والرد على بعض الشبه) في موقع الاسلام اليوم، طلب مني أحد الأخوة المعلقين على المقال أن أتبع طريقة ابن القيم، فقال: ويجب على الكاتب طالما طرح الموضوع أن يكتب بطريقة ابن القيم بأن يسرد أقوال المخالفين ثم يسرد أقواله وردوده عليها ". وهذه طريقة صحيحة في المناقشة والترجيح، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: على كل حال القول المرجوح لا بد أن يبينه، ثم يبين القول الراجح عنده ويبين أدلته، ثم يبين القول المرجوح ويذكر أدلته ويرد عليها، لأنك إذا أردت أن ترجّح قولاً يلزمك أن تأتي بأدلة، ثم بالنسبة للمرجوح تذكر أدلته وترد عليه ". لقاءات الباب المفتوح (216 / 15)، ولم يحملني على عدم اتباعها عجز أو كسل بل كنت أظن أن وضوح وصراحة الآيات والأحاديث المستدل بها يكفي، ولكن اتضح لي بعد التعليقات العنيفة التي وجهت لكلي المقالين أن الموضوع يحتاج الى سرد أقوال المخالفين وأدلتهم والرد عليها بعد أن أذكر قولي وأدلته، وذلك تبياناً للحق الذي أدين لله به، ونصحاً للمسلمين ومعذرة الى الله ولعلهم يتقون، فأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان: 

أن موضوع المقال – بعد تحرير موضع الخلاف - هو: أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها الله سبحانه، وأن جريها هذا حول الأرض، وبه يحصل تعاقب الليل والنهار، وأن ذلك قد دلّ عليه القرآن الكريم والأحاديث النبوية والواقع المشاهد المحسوس وإجماع علماء الإسلام، ولم يظهر القول بخلاف ذلك بين المسلمين إلا في العصر الحديث بعد أن نشر محمود شكري الآلوسي كتابه الموسوم بـ " ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة بالبرهان " سنة 1339 هـ، ولم يتكلم - فيما أعلم - على خلاف ما كان عليه السلف (من القول بدوران الأرض حول الشمس وبه يحصل تعاقب الليل والنهار) قبله غيره ومنه أخذ من أتى بعده، وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري في كتابه الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة وبيّن اضطراب الألوسي بل وشكّك بنسبة الكتاب إليه، ولم يكن لمن قال بدوران الأرض حول الشمس سلف من علماء الأمة المعتبرين، بل اتبعوا بذلك علماء الفلك الغربيين، قال الشيخ جعفر شيخ ادريس: إن ثقة الناس الشديدة بالعلوم الطبيعية هي التي تجعلهم يعتقدون صحة كل ما يقال لهم: إن هذا العلم يدل عليه، وقد علمت علماً مباشراً بتأثُّر بعض شباب العالم الإسلامي، بل العربي منه بهذه الفتنة، ولعل من أسباب ذلك أن الدارسين منهم لفروع هذه العلوم لا يعرف - حتى المتدين منهم - ما يتعلق بهذه القضايا في دينه، فيكون مثله في ما يتعلق بها كمثل زميله الغربي " (نقلاً بتصرف من مقال له عن اضطراب الملحدين - موقع مجلة البيان).

 

أما الأدلة من القرآن والسنة على قول السلف بجريان الشمس في فلكها حول الأرض وبجريانها هذا يحصل تعاقب الليل والنهار كثيرة جداً منها على سبيل المثال:

1- الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }(البقرة/258).

 

2- حديث أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ » قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: « فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلا يُقْبَلَ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلا يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}» رواه البخاري.

 

وهذان فقط مثالان من القرآن والسنة وإلاّ فإن الأدلة منهما كثيرة جداً ومن أراد الاستزادة فأنصحه الرجوع الى: 

1- رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله " الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس والقمر وسكون الأرض ".
2- كتاب الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة للشيخ حمود التويجري رحمه الله.
3- مقال " جريان الشمس والقمر وسكون الأرض " بجزئيه الأول والثاني – منشور في موقع الاسلام اليوم –
وقد أفاض الشيخان ابن باز والتويجري بذكر الأدلة من القرآن والسنة بالإضافة الى ذكر طائفة من أقوال السلف، ويجمع الأدلة المُستدل بها من القرآن والسنة على قول السلف أنها أدلة محكمة صريحة واضحة في معناها.

 

وحتى تتم المناقشة والترجيح على طريقة ابن القيم رحمه الله – كما طُلب مني ذلك – فلا بد من ذكر أدلة من قال بدوران الأرض حول الشمس وبه يحصل تعاقب الليل والنهار، وأدلتهم هي:
فبعد التتبع والاستقراء لما كتبوه وجدت أن عمدة أدلتهم فيما استدلوا به استدلالان (نقلاً بتصرف من موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة):
الاستدلال الأول: الآية من سورة النمل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88).
الاستدلال الثاني: آيات توليد الليل والنهار بالإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ والسبح وهي وإن كانت آيات قاربت عشرين آية كما ذكروا إلاّ أنها جاءت في معنى واحد كما أقروا بذلك بقولهم: آيات توليد الليل والنهار.

 

* مناقشة الاستدلالين والرد عليهم وتبيان أنه لا حجة لهم بهما:
 بداية أُذكر: أنه مع شدة التتبع والاستقراء لاستدلالاتهم لم أجد لهم إلاَ استدلالين من القرآن، وبالمقابل فإن قول السلف قد دلت عليه آيات وأحاديث كثيرة.
 وأيضاً أود أن أذكر بكلام للشيخ عبدالعزيز الفوزان ذكرته في مقالي " رأس التأويل والتحريف يطل من جديد " قال الشيخ: وأخطر مسالكهم في تبرير فسادهم، والسعي لإفساد الخلق وإضلالهم، هو اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسُّنة وأقوال الأئمة، حيث يكون لديهم مقررات سابقة، وأحكام مبيَّتة، يريدون تبريرها وإقناع الناس بها، فيأتون إلى نصوص الكتاب والسُّنة، وإلـى أقوال الأئمة، لا ليتعرفوا على حكم الله تعالى من خلالها، ولكن ليحرِّفوها ويلووا أعناقها ويؤولوها على غير المراد بها، لتتفق مع ما في نفوسهم من أحكام وقناعات سابقة، فتجدهم يأخذون بالمتشابه من نصوص الوحيين، ومن أقوال الأئمة المعتبَرين، ويتركون النصوص الصريحة المحكَمة، التي تدحض باطلهم، وتبطل فهمهم، وهذا هو منهج أهل الزيغ والضلال الذي حذرنا الله تعالى منه في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧]،وحذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ) قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ». رواه مسلم، فبيَّن أن آيات الكتاب منها المحكَم الواضح الدلالة، وهي أمُّ الكتاب، أي: أكثره، وأساسه الذي يجب أن يُرَد المتشابه إليه ليُعرَف مراد الله منه، ومنها المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى، فيجب رد هذه المعاني المحتمَلة إلى المعاني الصحيحة التي دلَّت عليها الآيات المحكَمة، وألا يُضرَب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، أو أن يؤول كلامه إلى معنى فاسد وإن كان اللفظ يحتمله، فليس في القرآن تناقض ولا اختلاف، ولا حجة فيه لضال ولا مبتدع، لأنه كما قال الله - تعالى -: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. انتهى بتصرف من موقع مجلة البيان، والآن إلى المناقشة،،،،

 

مناقشة الاستدلال الأول: الآية من سورة النمل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) قالوا: مرور الجبال مر السحاب كناية واضحة عن دوران الأرض حول محورها، وعن جريها حول الشمس ومع الشمس، وذلك لأن الجبال جزء من الأرض، ولأن الغلاف الغازي للأرض يتحرك فيه السحاب وسط الأرض بواسطة الجاذبية وحركته منضبطة مع حركة الأرض وكذلك حركة السحاب فيه فإذا مرت الجبال مر السحاب كان في ذلك إشارة ضمنية إلى حركات الأرض المختلفة التي تمر كما يمر السحاب.

 

الرد عليه: هذه الآية جاءت في معرض الحديث عن مشهد من مشاهد يوم القيامة كما يظهر ذلك جلياً من سياق الآيات، فكيف تستدلون بها على دوران الأرض؟! قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمّنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وذكرنا في ترجمته أيضًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرءان، لأن غلبته فيه، تدلّ على عدم خروجه من معنى الآية، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعدّدة في هذا الكتاب المبارك، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معًا آية " النمل " هذه، وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يدلّ على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة، أي: واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمرّ مر السحاب، ونحوه قول النابغة يصف جيشًا:

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج

 

والنوعان المذكوران من أنواع البيان، يبينان عدم صحة هذا القول:
أمّا الأول منهما: وهو وجود القرينة الدالَّة على عدم صحته، فهو أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ} معطوف على قوله: {فَفَزِعَ}، وذلك المعطوف عليه مرتّب بالفاء على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السماوات وترى الجبال، فدلّت هذه القرينة القرءانية الواضحة على أن مرّ الجبال مرّ السحاب كائن يوم ينفخ في الصور، لا الآن.

 

وأمّا الثاني: وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح، لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلّها في يوم القيامة، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً}، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}، وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}. انتهى من أضواء البيان.

 

ولكنهم بعد هذا الرد المبين من الشيخ رحمه الله أبوا إلا المراوغة فقالوا: ليس صحيحاً أن قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يتحدث عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، فمن ناحية أولى: الجبال تنسف في الدنيا وتتناثر قبل يوم القيامة فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم وهوالصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على أرض بيضاء مستوية كما في الصحيحين: يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي. قال سهل - أو غيره – ليس فيها معلم لأحد، أي: مثل قرص الخبز الأبيض، الخالص البياض، فأين هي الجبال حتى ينظر الناس إليها يوم القيامة؟ فهذا نص قاطع على أنه ليس في الآخرة جبال، قال الخطابي: يريد أنها أرض مستوية، وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة.

 

فأقوال المفسرين والمحدثين تثبت أن لا جبال في القيامة، لأن الناس يحشرون على أرض مستوية كما هو نص الحديث.، ومن ناحية ثانية: فإن الآخرة ليس فيها ظن وحسبان إنما تظهر فيها الحقائق على أتم الصور وأكمل الوجوه، ومن ناحية ثالثة: اختلاف الصيغة عن سابقاتها في التعبير، فهناك قال تعالى: (ويوم يُنفخ في الصور) بالبناء للمجهول، وهنا وردت العبارة بلفظ الخطاب: (وترى الجبال) بالبناء للمعلوم، أي: وترى أيها المخاطب الناظر المشاهد للكون - الذي يرى بعينيه - الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، ولو كان الحديث عن الآخرة لجاء التعبير (وَتُرى الجبالٌ) بالبناء للمجهول على النسق السابق، أي: ترى في ذلك اليوم الجبال - برفع الجبال لا بنصبها - لأنه يصبح خبراً لا خطاباً، فهذه المغايرة تدل على أن الأمر هنا في الدنيا، ومن ناحية أخيرة: فعند قيام الساعة تتزلزل الجبال وتتطاير، ومثل هذا لا يقال له صنع ولا يوصف بالإتقان، قالوا: فكل هذه النواحي تدل على أن الآية تتكلم عن حركة الجبال في الدنيا وفي ذلك إشارة ضمنية إلى حركات الأرض المختلفة التي تمر كما يمر السحاب.

 

فهذه هي أقوى استدلالاتهم على أن الآية تتكلم عن حركة الجبال في الدنيا فيكون في ذلك إشارة ضمنية الى حركات الأرض، وهذه كما ترى كلها استدلالات بعيدة واتباع للمتشابه وتقديمه على المحكم بغير دليل ولا برهان وإنزال للآية والحديث في غير مواضعهما!! وهي كما قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، وكذلك أن من أنواع البيان التي تضمّنها القرآن الاستدلال على المعنى، بكونه هو الغالب في القرءان، لأن غلبته فيه تدلّ على عدم خروجه من معنى الآية، وإليك البرهان: 

أما قولهم: الجبال تنسف في الدنيا وتتناثر قبل يوم القيامة وأن الناس يحشرون على أرض بيضاء مستوية لا جبال فيها، قلت: فهذا لقلة علمهم أن الأحوال يوم القيامة تتغير من شيء إلى آخر، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عند سؤال السائل: قول الله تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً [النبأ:20]، وفي آية النمل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] كيف التوفيق بينهما؟ الجواب: وردت نصوص في اليوم الآخر مختلفة في هذا وفي غيره، حتى في بني آدم ورد أنهم يحشرون زرقاً يعني: المجرمين منهم، وورد: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] كل هذا لا تعارض بينها، لأن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة فتتغير الأحوال وتتنقل وتختلف، وإذا كنا نرى أن الجو يختلف في الدنيا بين عشية وضحاها، وبين يوم وآخر، وبين أسبوع وأسبوع، وبين شهر وشهر، وبين السنة أولها وآخرها، فإن الجبال والأحوال يوم القيامة تتغير من شيء إلى آخر، ولذلك نقول: كل النصوص في يوم القيامة التي ظاهرها التعارض ليس فيها تعارض، بل تحمل على تغيير الأحوال، يعني: يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ". نقلاً من لقاء الباب المفتوح، فحركة الجبال ونسفها وزوالها ثم حشر الناس على أرض بيضاء مستوية يحدث ذلك كله يوم القيامة في أحوال مختلفة وذلك يظهر جلياً لمن تتبع آيات القرآن التي جاءت في ذكر مشاهد يوم القيامة وتدبرمعانيها، لا أن الجبال تتحرك وتنسف قبل يوم القيامة ثم يحشر الناس، والدليل على ذلك الآية من سورة الكهف: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [الطور:9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل:88]، وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة:5] وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه:105-107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المها د، وتبقى الأرض {قَاعًا صَفْصَفًا } أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه {وَلا أَمْتًا } أي: لا وادي ولا جَبَل، ولهذا قال تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية، قال مجاهد وقتادة: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً }] لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة، قال قتاد ة: لا بناءَ ولا شَجَر، وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } أي: وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة:50، 49]، وقال: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود:103]. انتهى من التفسير. فالآية واضحة جلية محكمة من غير لبس - ولا حاجة لاستعمال اشارات ضمنية - في أن تسيير الجبال وحشر الناس على أرض بيضاء مستوية يكون يوم القيامة، لا أن تسيير الجبال يكون في الدنيا قبل القيامة، وحشر الناس على أرض بيضاء مستوية يكون يوم القيامة وبذلك تجتمع الآيات والأحاديث وتُحمل أقوال العلماء فسقط استدلالهم الأول أن حركة الجبال تكون في الدنيا قبل يوم القيامة.

 

وأما قولهم: إن الآخرة ليس فيها ظن وحسبان إنما تظهر فيها الحقائق على أتم الصور وأكمل الوجوه، قلت: فقولهم هذا كذلك يدل على قلة علمهم وعدم إحاطتهم بآيات القرآن، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وأما زعم هذا الرجل القائل بذلك بأن يوم القيامة تكون الأمور حقائق وهنا يقول: {وترى الجبال تحسبها} فلا حسبان في الآخرة، فهذا غلط أيضاً لأنه إذا كان الله أثبت هذا فيجب أن نؤمن به ولا نحرفه بعقولنا، ثم إن الله يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:2). فإذا قلنا إن زلزلة الساعة هي قيامها، فقد بيَّن الله أن الناس يراهم الرائي فيظنهم سكارى وما هم بسكارى، وعلى كل حال فإن الواجب علينا جميعاً أن نجري الآيات على ظاهرها وأن نعرف السياق لأنه يعين المعنى، فكم من جملة في سياق يكون لها معنى ولو كانت في غير هذا السياق، لكان لها معنى آخر، ولكنها في هذا السياق يكون لها المعنى المناسب لهذا السياق. انتهى من تفسير الشيخ لسورة الكهف، فالمتتبع لآيات القرآن يجد أن الله تعالى يذكر الظن في موضع اليقين في مواضع كثيرة من القرآن كما في قوله تعالى عن المؤمنين: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) البقرة، قال ابن كثير رحمه الله: فأما قوله: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال ابن جرير رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سُدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه. انتهى من التفسير، وكذلك في قوله تعالى عن الكافرين في يوم القيامة: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) الكهف، قال ابن كثير: أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها. انتهى من التفسير، فهذا الظن من المجرمين يكون يوم القيامة في أرض المحشر قبل دخولهم جهنم ويكون بمعنى تحقق الوقوع وليس بمعنى الظن والحسبان كما زعموا!! فسقط استدلالهم الثاني أن حركة الجبال تكون في الدنيا قبل يوم القيامة.

 

وأما قولهم: اختلاف الصيغة عن سابقاتها في التعبير، فهناك قال تعالى: (ويوم يُنفخ في الصور) بالبناء للمجهول، وهنا وردت العبارة بلفظ الخطاب: (وترى الجبال) بالبناء للمعلوم.....الى آخر قولهم، قلت: فهذا القول كذلك يدل على قلة فهمهم لكتاب الله الذي أمرنا بتدبر آياته، فهذه الآيات في عرضها لأحوال القيامة هي في عرضها هذا تشبه الآيات من سورة الزمر حيث يقول تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لأ يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) الزمر،
فهذه الآيات ابتدأها الله تعالى بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) بالبناء للمجهول، ثم قال تعالى بعد ذلك:(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) بالبناء للمعلوم، فهل يقولون أن رؤية الملائكة تكون في الدنيا كما قالوا عن حركة الجبال في آية النمل لأنها جاءت بالبناء للمعلوم.... الى آخر كلامهم؟! أم يعودون الى رشدهم فيقولون كقولنا أن آية النمل تتكلم عن حركة الجبال في يوم القيامة وأنها لاتتكلم عن حركة الجبال ولا دوران الأرض!! وأن هذا من أسلوب القرآن في عرضه لمشاهد يوم القيامة كأنها رأي عين كما يظهر ذلك جلياً لمن يتدبر القرآن، فسقط استدلالهم الثالث أن حركة الجبال تكون في الدنيا قبل يوم القيامة.

 

أما قولهم: عند قيام الساعة تتزلزل الجبال وتتطاير، ومثل هذا لا يقال له صنع ولا يوصف بالإتقان!! قلت: قولهم هذا يدل على أنهم أصابتهم لوثة التشبيه!! فإذا كان فعل الله كفعل المخلوقين – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً – حدث ما يقولون من أن مثل هذا لا يقال له صنع ولا يوصف بالإتقان، فعقيدتنا في الله كعقيدة سلفنا الصالح في أنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، فالله تعالى كما أتقن وأكمل وأحسن بداية الخلق كذلك يتقن ويكمل ويحسن نهاية الخلق ويعيده كما بدأه كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الانبياء، فما يحدث من تكوير للشمس وانكدار للنجوم ونسف للجبال وغيرها لا يحدث ذلك عن فوضى وعبث - تعالى الله عن ذلك - بل يحدث ذلك كله عن حكمة واقتدار تجعل المسلم يتفكر في هذه الآيات ويتعظ، قال ابن كثير: وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي: يفعل ذلك بقدرته العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق، وأودع فيه من الحكمة ما أودع. انتهى من التفسير. فلا شيء من فعل الله يوصف بالعبث بل فعله تعالى بمقتضى العلم والحكمة والأتقان والكمال، وإذا كانوا هم لا يرون من زوال الجبال يوم القيامة من حكمة أو إتقان فإنما دخل عليهم الشيطان من قبل قصور فهمهم ونقص علمهم لا أن ذلك مدلول القرآن كما قيل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

 

وهذه هي أقوى استدلالاتهم على أن آية النمل فيها دليل على دوران الأرض وأما بقية استدلالاتهم الأخرى فيستطيع ردها ودحضها كل من له عقل باصر كقولهم مثلاً: ختم الله الآية بقوله: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88). أي عالم بما تفعلونه الآن في الدنيا، والآخرة ليس فيها فعل، فكيف يخاطبهم وهم في أرض المحشر بهذا القول وهم لا يستطيعون أن يأتوا بفعل!! قلت: يخاطبهم كما قال ابن كثير في تفسيره ليعلمهم أنه عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه ولا يظلمهم، وهذا الخطاب يعظ القارئ في الدنيا أنه سيجازى على فعله في الآخرة، ويعتقد السامع يوم القيامة أنه لا يُظلم، ثم هذه الخاتمة هي نفس خاتمة الآيات من سورة الزمر، حيث بعد أن قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ (68) قال بعد ذلك: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) فهل يرد كلامهم السابق هنا كما أوردوه على أية النمل؟! أم يعودوا إلى رشدهم ويقولوا كما قال أهل التفسير من السلف إنه يخاطبهم ليعلمهم أنه عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه.

 

والآن نأتي إلى الفرض الجدلي وهو: هب أن الآية تتكلم كما قالوا: عن حركة الجبال في الدنيا وفي ذلك إشارة ضمنية إلى حركات الأرض المختلفة التي تمر كما يمر السحاب، فمن أين نفهم ونستدل من حركة الجبال على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس؟! فالآية على هذا الفرض الجدلي يمكن أن نستدل به على حركة الأرض فقط لا على دورانها حول نفسها وحول الشمس كما تقول النظرية.

 

فالخلاصة: دُحضت بفضل الله تعالى كل استدلالاتهم في أن آية سورة النمل: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}. تتكلم عن حركة الجبال في الدنيا وفي ذلك إشارة ضمنية إلى حركات الأرض المختلفة التي تمر كما يمر السحاب، وإذ قد سقطت استدلالاتهم، كان معنى الآية كما ذهب إليه السلف: أن الآية تتكلم عن حركة الجبال يوم القيامة، فلا دليل لهم من القرآن يثبت دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس.