وقفات حول وباء كورونا وشهود التجمعات ومنعها أو تنظيمها
1 شعبان 1441
سليمان الماجد

الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده.... أما بعد

1. قال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد".
وقد جعل الله تعالى بعض قدرته في أصغر خلقه، وهو الفايروس متناهي الصغر؛ حتى قام معه العالم ولم يقعد، وخسر ذلك العالم بسببه ترليونات كثيرة من الدولارات، وبات مهددا بانهيارات اقتصادية موجعة لو استمر.
وقد أودع الله في الفيروسات ما أودع في الإنسان من تجدد اكتساب المناعة، وتغيير نفسه بإذن الله ليُحمى من الهلاك، ولتبقى الحقيقة الخالدة: "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" كما مكن الله الإنسان بأنواع الأمصال ما يكافحها ليبقى التوازن بإذن الله.

2. أن الله جلّ في علاه جعل في مثل هذه النوازل عبرة لجميع الخلق ومزدجرا لكل الناس؛ ليعودوا إليه، قال تعالى: "ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون" وقال تعالى عند ذكر مصارع الأمم السابقة: "فكلاً أخذنا بذنبه".

3. أن سنة الله الإلهية في الأخذ بالذنوب ماضية إلى قيام الساعة، ومن أنكر ذلك أمما أو أفرادا فهم على خطر عظيم.
وقد قال الله تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ".
ففي هذه الآية ذكر ابن كثير في "التفسير" أن المعقبات: (.. حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات) ولا يبعد أن يكون من جملة هذا جهاز المناعة، وما يتضمنه من كائنات عجيبة، ونظام محكم دقيق في الدفاع عن الجسم من شر العاديات؛ مما يضر الإنسان أو يتلفه، ثم ذكر تعالى في الآية نفاذ أمره حتى مع هذه المعقبات الحارسة فقال: "وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" وقال بين ذكر المعقبات وذكر فشل الحرس الخفي في حفظ الإنسان: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" فكأنه أرشد إل خطر ترك التغيير إلى الأصلح في الدين والدنيا، وأنه سبب لتسلط الأوبئة الفتاكة، وفشل الإنسان في دفع كثير منا.

4. لا يجوز أن نقول عن واقعة المصيبة المعينة التي حصلت لفرد أو لأمة: إنها عذاب؛ لأنها قد تكون كذلك، أو لأجل تذكير الخلق، أو لكفارة الذنوب، أو لرفعة الدرجات، أو للتمحيص، أو أنها بعض سننه الكونية لحكمة عظيمة لا نعلمها.
فمن ذا يقول جازما: إن الله أراد بالمصيبة هذه المقاصد كلها أو بعضها؟ فإن دعوى ذلك إنما هي رجم بالغيب، وافتيات على الله، وتقدم بين يديه.
ولكن نعلم يقينا أن الله يغفر الذنب ويأخذ بالذنب حتى في الدنيا، ونرجو للمحسن نوعا، ونخاف على المسيء نوعا أيضا، وبهذا يحصل مقصد القرآن من الزجر والردع والتذكير، وندع المعيَّن من الأمم والأفراد لرب العباد.

5. أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن الإيمان؛ فيعلم المؤمن أن مجمل أي وباء أنه من أقدار الله؛ لحكمة يعلمها، ومن أصابه شيء منها ؛ فعليه ما يلي:
- أن لا يجزع، ولا يسخط؛ بل يرضى بقضاء الله وقدره.
- أن يعلم أن البشر، ومنهم الحكومات، وأجهزتها الصحية، وحذاق أطبائها لا تغني عن قدر الله النافذ شيئا، وإنما هم أسباب مشروعة فقط، وهذا ينفع في عدم إعطاء البشر فوق مقامهم وقدرهم:
ففي الحديث الصحيح: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".
وهذه النظرة المعتدلة إلى نفع البشر تحفظ توازن المسلم النفسي والعاطفي؛ لأنه كلما زادت ثقته في فيهم أكثر مما يستحقونه شرعا وواقعا= أدى ذلك إلى الجزع الشديد والإحباط العظيم؛ إذا رآهم عاجزين عن نفعه أو دفع ضره.
وقد جاء في الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان".
فالإيمان بالقضاء والقدر مُذْهب للقلق والحزن، ولعل استهلال الحديث بذكر فضل قوة المؤمن له علاقة بالإيمان بالقدر.
وهذا نافعة في المصيبة العامة والخاصة.

6. أن الإيمان بالقضاء والقدر لا ينافي اتخاذ الأسباب، ومن هذه الأسباب ما هو واجب متحتم، ومن ذلك:
- وجوب السعي إلى علاج الأمراض المعدية وغيرها؛ إذا غلب على الظن ضررها على المصاب أو غيره.

- وجوب اتخاذ الإجراءات للوقاية من العدوى سواء كان ذلك من الشخص المصاب أو من غيره، ووجوبها كذلك على الحكومات والجهات الصحية فيها، وقد كان هذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.

- وجوب الالتزام بما يصدر من توجيه الحكومات والأجهزة الصحية فيها؛ لحماية الناس، وللسيطرة على تفشي الوباء بعون الله تعالى.

- صدق اللجء إلى الله بالدعاء؛ فهو عبادة وخضوع وتحقيق مطلوب.

- استعمال الرقية الشرعية والأذكار الواردة؛ تحصينا قبْليا، وعلاجا بعديا.

7. أنه متى ثبت بكلام أهل الخبرة في الأوبئة والمتفشيات عظم خطر الوباء في نفسه على الناس، أو في سرعة انتشاره بما يؤدي إلى تعطيل مقاصد عظمى؛ كحفظ الأنفس وما دونها مما يسبب ضررا كبيرا على الأنفس والاقتصاد فيجوز أن تمنع الجهات المختصة من التجمعات بالقدر الذي يكفي لتحقيق حماية تلك المقاصد الكلية.
ومن استدل على عدم جواز ذلك في منع صلوات الجُمَع والجماعات بأن ذلك لم يكن في الأمة طيلة التاريخ الإسلامي فهو استدلال في غير محله؛ لوجوه منها:
- أن قد ورد في الشريعة وسائل للحجر والعزل والتباعد: وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصح".
وقوله في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه".
وفي هذا النصوص دليل على اعتبار تأثير العدوى بإذن الله، ومقصودها هو منع انتشار المرض، فهي علة تلك الأحكام التي تضمنتها تلك الأحاديث، وهي علة ظاهره، ومناط الحكم فيها دفع الضرر، وهذه العلة متحققة -بحسب قول الخبراء المعاصرين- في كل التجمعات.
ولو قيل: إن ما ورد في تلك الأحاديث إنما هو في أشخاص علموا إصابتهم؛ وأنه لا يصح في حال من لم يعلم بوجود مصابين فالجواب أن تحقق الضرر على المجموع من التجمعات هو كالعلم به في الأفراد؛ بل حاجة العموم أولى من الأفراد؛ فالخبير يقول: وجود تجمعات جزئية لشعب يقدر بالملايين سوف ينتج –بغالب الظن مع عدم التوقي- إصابات ووفيات كثيرة تصل إلى المئات كما حدث لدول كثيرة؛ فهنا تحقق المحذور الشرعي الذي قُصد في الأحاديث، لكنه مع العموم.

- أن التوقي من الأمراض المهلكة هو من باب معقول المعنى؛ لا من قبيل التعبد المحض، الذي يُوقف فيه عند الوارد؛ سواء كان فعلا أو تركا؛ فعليه لا يستدل في المعقولات بمطلق الترك إلا بشروط منها: قيام المقتضي وانتفاء المانع، وأن يكون الموضع محل تعبد لا تعقل وكل هذه الشروط غير متحققة كما بينته آنفا.

- أن هذا من باب تعارض المصالح والمفاسد؛ فتنطبق عليه قواعد الموازنة بين هذين الجانبين، فهنا يجوز ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
قال عزالدين بن عبد السلام فى "قواعد الأحكام" (129/1) : (وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة [وذكر فروعا فقهية ثم قال:]، وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد؛ فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا مقصوداً)أهـ.

- أن هذا من باب التعارض بين حق الله تعالى المحض وهو الصلاة جماعة، وبين حقوق الناس المحضة عامة أو خاصة، ومن المعلوم أن "حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق الناس مبنية على المشاحة" وأن "حقوق الناس مقدمة على حقوق الله" فعليه إذا تحقق للخبراء في أي بلد وجود خطر محدق من التجمعات كان العمل بقولهم متعينا في أي تجمع يؤدي إلى ذلك الخطر.

- أن التوقي من تلك الأوبئة هو من باب الوسائل التي لا حكم لها في نفسها، وإنما لها حكم مقصدها؛ فيجب أن يتخذ فيها الأنجع في دفع المفسدة وجلب المصلحة؛ سواء وردت تلك الوسيلة أو لم ترد، وسواء كانت تلك الوسيلة فعلا لأمر أو تركا لآخر ، أو منعا للناس من أمر ثالث، ولا يلزم فيه الأخذ بما ورد عنهم فعلا أو تركا.
وهذا هو نهج العلماء في باب الوسائل، ولهذا قال الشاطبي رحمه الله في وسائل تبليغ الدين: "..والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة، لأنه من قبيل معقول المعنى، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى".
فإذا كان هذا في تبليغ القرآن الذي هو أساس التعبدات فلا يجب علينا أن نبحث في وسائله عن طريقة سابقة؛ وإنما نعتبر الأنجع خبرة وتجربة= فبالأولى أن لا نبحث عن تلك الطريقة في المصالح العقلية المحضة وهي هنا التوقي من الوباء الذي يُبنى على قول الخبراء؛ لا على الاستدلالات المرسلة.
وهذا النهج ليس إزراء بالسابقين قطعا، وإنما لأن الخبرة الطبية قد تغيرت تغيرا جذريا جدا حيث إن العلاقات السببية في المتفشيات والأوبئة قد باتت غالبا في محل القطع واليقين؛ فيما كانت في السابق إلى وقت ليس بالبعيد يُبنى كثير منها على الأوهام، حتى كانوا يعتقدون أن الأوبئة هي من فساد يقع في نفس في الهواء، حكى ذلك ابن خلدون في "المقدمة" (ص 376) وذلك على علو كعبه في الاجتماعيات، ووفور ثقافته، ولا يضره ذلك؛ لأن هذا هو المتاح عندهم؛ فيما يرى علماء الأوبئة أن مجرد كون الفيروس ينتقل في الفضاء العام بوساطة الهواء هو محل شك وبحث؛ فضلا أن يكون الهواء نفسه هو سبب الوباء، وعندهم أن الغالب الأعظم إنما هو من المماسة والمقاربة.
ثم لو سلمنا أن هذا موضع تعبد ولا نسلم= فإن المقتضي عند العلماء السابقين لمنع جميع التجمعات لم يكن موجودا؛ بسبب عدم معرفتهم بظن غالب بآلية انتقال العدوى، وإذا كانوا يعتقدون أن غير الجذام يكون من فساد ذات الهواء، وأن العدوى إنما جاءت عن طريقه؛ فمن المؤكد أن يسمحوا بالتجمعات والمماسة والمخالطة؛ لأنهم يرون أن تلك التجمعات في الأمراض التي لا يظهر سببها كما يظهر في الجذام= ليست سببا للعدوى، ومنه يُفهم عدم انقطاعهم عن تلك التجمعات.
فبناء عليه: إذا لم يكن المقتضي عندهم قائما، وكذلك المانع ليس متحققا؛ فحينئذ يبطل الاستدلال بهذا الترك الذي تواردوا عليه؛ لو صحت حكاية ذلك عنهم؛ فيما ترى أن المقتضي اليوم موجودا والمانع منتفيا.
فعليه يكون استجلاب هذا الترك من أولئك العلماء خطأ ًظاهرا؛ لأن هذا مبناه على الخبرة دون غيرها؛ ولأنها مناط الحكم ومرتكزه، وهذا ما لم يتوافر لهم في خبرة أطبائهم ذلك الوقت.
وقد نعى العلماء المحققون على المستدلين بفتاوى العلماء الصريحة فضلا عن مجرد الترك إذا كانت تلك الفتاوى السابقة قد بُنيت على "مناط متغير"؛ فقد قال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (1/191) : (..تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف= اعْتَبِره، ومهما سقط= أسْقِطه، ولا تَـجْمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل اقليمك يستفتيك لا تُجْرهِ على عُرْف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك؛ فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)أهـ.
ومن المعلوم أن الخبرة هي قرينة العرف في أحكام كثيرة كبرى سُطِّرت في أكثر أبواب الفقه، ترتب على الخبرة فيها أحكام قضائية خطيرة جدا في المعاملات والأسرة والجنايات؛ فنقول هنا مع تعديل كلام القرافي: (فمهما تجدد في "الخبرة" فيما سبيله الخبرة اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك).
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/470) تأييدا لهذا المعنى: (..ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتابٍ من كُتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم)أهـ.
هذا وإن ونظائر ذلك في الفقه الذي مرده الخبرة كثير، وهي في مجال الطب والصحة ما قال به جمع غفير جدا من العلماء القدامى قبل اكتشافات الطب الحديث، وهو عدم وجوب التداوي مطلقا، وذلك حين كان التداوي آنذاك أشبه بالشك منه إلى غلبة الظن، وهذا مع إجماعهم على أن عصب الجرح النازف من وريد أو شريان أنه واجب يأثم تاركه.
أما في الأزمنة المتأخرة فقد صار أكثر الطب الحديث بابه القطع، أو الظن الغالب؛ فهنا مع تغير حال الطب إلى ذلك اليقين أو ما يقاربه فالمصير إلى أن يقال بوجوب غالب أعمال التداوي حكمٌ لا شك فيه ؛ لأن المناط هو "القطع بحصول الضرر أو غلبة الظن بسبب ترك التداوي"، والعلماء السابقون لم يهملوا هذا المناط؛ فأوجبوا عصب الجرح النازف من الوريد لأجل معنى اليقين بحصول دفع الضرر، ولم يوجبوا أكثر أبواب الطب لكونها بين شك ووهم في تحقيق المطلوب، ولأنهم رأوا أن الأحكام التكليفية لا تُقام على الشك فضلا عن الوهم.
ولكن الإشكال هنا هو استدعاء الفتوى بعدم وجوب التداوي مطلقا، والتي كان أصحابها لا يجدون فيها الخبرة الطبية والتجربة المعاصرة؛ أي أن يُستجلب هذا الرأي إلى الوقت الحاضر في القول بكراهة أكثر أعمال التداوي، أو عدم وجوبها، وهنا ينطبق على المستدل الذي يكره التداوي فيما سبيله القطع وغلبة الظن كما قال ابن القيم آنفا: إن (..هذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم).
ونحو ذلك العمل بالقيافة قديما، وهي قول القائف الذي يسمى عندنا "المري" (والقيافة هي معرفة النسب بين اثنين) وذلك باعتبارها واردة، وترك ما هو أكثر دقة بأضعاف مضاعفة وهو الحمض النووي؛ فإن الفقهاء اليوم يقولون: يُترك الوارد هنا لأن مناطه الخبرة، لأجل أنه قد جدَّت خبرةٌ أدق منها.

 

8. وقع لي حوار مع بعض أهل العلم، وكان ينقل عن بعض أهل بلده الذي منعت فيه دولتهم جميع التجمعات بما فيها المساجد أن بعضهم يسأل عن جواز التجمع في بعض الأماكن لإقامة الجمع والجماعات، وهذا خطأ ظاهر من أولئك المنفردين؛ بل فيه قدر من الانحراف والتمرد وقطع سلك النظام العام؛ لأن غاية المسألة أن تكون اجتهادية محضة، وهنا فإن قرار الحاكم يرفع الخلاف في مسائل النظام العام الاجتهادية لا في مسائل التعبد الخاصة بشخص واحد بعينه فإنه لا يرفع الخلاف.
ولكن الصحيح أن مسألة سد ذرائع الأوبئة بالوصف المذكور آنفا هي من مسائل النظام العام، بل إنها تتسم في كثير من أحوال عنفوانها بما يشبه القطع في حصول الضرر في التجمعات العامة؛ مما يجعل ترك المستدل اجتهاده لرأي الحاكم واجبا محتما لا خيرة فيه.
قال أبو العباس ابن تيمية في "جامع المسائل" (ص274) : (ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر إمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة= يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض)أهـ.
ونظير ذلك تصحيح صلاة المأموم في مسائل الاجتهاد حتى لو أتى الإمام بما يعتقد به ذلك المأموم بطلان صلاة إمامه، وما ذلك إلا رعاية لمعنى الألفة والاجتماع؛ فإذا كان هذا في مسائل العبادات المحضة التي هي بين المرء وربه فما الظن بمسائل المصالح والمفاسد؛ فإن الدولة أملكُ بمجموع الناس منهم على أنفسهم مجتمعين، ولهذا أبيح تعزير من خالف تعليمات الجهات المختصة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريرا في يوم الاثنين 21-7-1441هـ