التعليم المدني والاغتراب

[email protected]
لا يخفى على أحد دور التعليم في صياغة العقول وتكوين الشخصيات، فالعقل وعاء يتم ملؤه بما يفرغ فيه، فإن كان حسناً استقام ونفع، وإن كان غير ذلك اعوج وأضر.

والأمة الإسلامية ابتليت بعد احتكاكها بالغرب العلماني واستعماره لدويلاتها، بأصناف من التعليم المدني الوضعي النظري الذي لا يسعى لعمارة الأرض ولا يطبب معمريها، بل يتدخل في مراد الشارع وتنظيمه لشئون عباده، تلك الصنوف الوضعية التي نجحت بوسائل أصحابها التدميرية، في خداع البعض ليسحبوا بساطهم من تحت الشريعة الإسلامية والتي كانت تنفرد بتكوين وتوجيه التعليم داخل الأمة الإسلامية، فما كان من معطيات تنظم أحوال العباد والبلاد من سياسة ومعاملات، تجد الشريعة بعلمائها لها مستنبطين ومعلمين، وما كان من علوم تعمر الأرض وتطبب الخلق نجد أيضاً الشريعة تضبط تطبيقها وتدريسها بموازين شرعية وضعها الشارع لصلاح الكون واستقامته.

وحال شباب الأمة بعد هذا البلاء التعليمي المدني محزن لسلف الأمة وخلفها الربانيين، فحال معظمهم يسير على عكس مراد الشارع في العلم والذي حددته الشريعة " بأن العلم هو ما كان له ثمرة تكليفيه" فالعلم والعمل وجهان لعملة واحدة ذات ثمرة دنيوية وأخروية.

ومن هنا حدثت الغربة التغيبية لشباب المسلمين الملوث وعاؤهم بهذا السقم، فلا التعليم المدني المضاد للتعليم الشرعي حقق الثمرة الدنيوية، ومن ثم فقد الشباب السعادة الدنيوية والطمأنينة النفسية، ولا هم تحصنوا بالمنهج الشرعي الذي يحقق الفوز الأخروي، ويخشى على السائر في عكس مساره إن لم يتداركه الله برحمته أن يخسر ويهلك.
والغربة التي صنعها التعليم المدني عند شباب المسلمين لها مظاهر مأساوية عديدة، سيحاول هذا المقال تلمس بعضها للوقوف على أطراف البلاء الذي تمر به الأمة الإسلامية.

مظاهر الغربة التي صنعها التعليم المدني عند شباب المسلمين
1- ضعف العقيدة الإسلامية عند المتعلمين
لأن التعليم المدني علماني في أساسه، والعلمانية تلفظ كل ما هو ديني، وبالتالي فإن التعليم المدني لم يكتفي بتدريس ما هو مناهض للإسلام، بل جاء على حساب تقليص الجرعات العقدية التي يجب غرزها في براعم المسلمين في الصغر، لتشكل مكونهم العقدي الموجه لتحركاتهم الحياتية في الكبر، الأمر الذي خرج أجيالاً تعاني من ضعف في المناعة العقدية، لا يوالي الشريعة وأهلها، ولا يبرأ من الفساد وأهله.

2-ضعف الحس العقدي نحو الشعائر الإسلامية
أحدث التعليم المدني لدى بعض شباب المسلمين ضعفاً نحو الشعائر الإسلامية، وذلك لأن غالبية القائمين على هذا الصنف من التعليم لا يكبرون ولا يعظمون شعائر الله، فلا المدرس يقف عن الشرح عند سماع الآذان، ولا حلقات الدروس ترفع أثناء الصلوات لتأديتها في حينها، ولا الشعائر الإسلامية لها ذلك الزخم والتكبير المطلوب داخل مدارس التعليم المدني.

3-تسرب المفاهيم الإلحادية والعلمانية التي تؤثر على التوحيد عند الشباب
التوحيد صافي لا يقبل بشراكة أحد، والتعليم المدني خلخل هذه القاعدة وغرز في وجدان بعض شباب المسلمين الشبهات الإلحادية من أفكار ماركسية، ونظريات فاسدة وضعها مفسدون يشككون في الذات الإلهية، ويكفرون ويستخفون بالضوابط الدينية، ويتجاوزون حدودهم البشرية بالبحث في أمور سمعية، نهينا عن طرق أبوابها والاستعاذة من وساوسها الشيطانية.

4- مخالفة المعلوم من الدين بالضرورة
لما كان التعليم المدني العلماني مخالفاً في معظمه للمعلوم من الدين بالضرورة، وذلك لمناطحته البينة للتنظيمات الشرعية للحياة الإنسانية، وولوجه على حساب الشريعة الإسلامية، فقد وقع بعض الشباب دون أن يدروا في هذا الفخ العلماني؛ وذلك بالإيمان بمبادئ وأفكار ونظريات تخالف المعلوم من الدين بالضرورة، بل ويسعون إلى تطبيقها في حياتهم اليومية لتصدق المخالفة عملياً ولا تقف عند حد الإيمان النظري، لتتعقد قيود المخالفة ويصعب الترك لله على النفوس.

5-ضعف الضوابط الشرعية في المعاملات الحياتية
المعاملة الحسنة في الإسلام تحتاج إلى رياضة وتدريب، والإسلام يوفر تلك الرياضة عند صياغته للموجهات التربوية، ولكنها مفقودة في التعليم المدني، فهو خال من تلك النزعة التربوية الشرعية، فيشب الشباب وهم مفتقدون للضوابط الشرعية في المعاملات، إلا من القليل المستقى من خارج دائرة المنظومة التعليمية، لتكون المعاملات الحياتية بعد ذلك مبتورة وسائرة على غير مراد الشارع.

6- اختزال الدين في العبادات دون المعاملات
التعليم المدني يسير وفق مقولة " ما لقيصر لقيصر وما لله لله" فهو يختزل الدين وفق نظرة كنسية لا تُخرج العبادات عن أماكن العبادة، فنتج عن ذلك جيل من الشباب المسلم المغيب مزدوج الشخصية، والمعتقد بأن الإسلام لا يخرج عن كونه شعائر تعبدية فقط مكانها المسجد، فإذا خرج من المسجد استخدم الموجهات المدنية العلمانية التي تدعي تنظيمها لشئون حياته.

7- ضعف التحري عند الشاب المسلم
تحري الحلال والحرام نعمة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، والتربية الشرعية وتشكيل العقول وفقها تلعب دوراً كبيراً في تنمية هذا التحري في الوجدان، إلا أن التعليم المدني لا يوفر هذا الأمر عند شباب المسلمين بل على العكس فإننا نجده يدفع الشباب لضده، فمكونات التعليم المدني تهيئ الشباب لتولي وظائف مدنية ثبوت حرمة عوائدها قطعية، فإن تولاها الشاب المغيب أكل حراماً ومحقت البركة من حياته، وعم الضنك والبلاء محيطه، ولم يستوف شروط النصر والتمكين فيطيل أمد الذل والهوان.

8- ذوبان مصطلح الأجنبي وانعكاسات الاختلاط
العلماء يقولون " كثرة الإمساس تميت الإحساس" والتعليم المدني سمح بمناخ اختلاطي سافر ذاب فيه اصطلاح الأجنبي، فتبلدت الحمية ومات الحس الشرعي الضابط للعلاقة بالأجنبية عند كثير من شباب المسلمين، بل تخطى الأمر ذلك بالوقوع في مخالفات وممارسات انحلالية، ما كان لهم أن يأتون بها لولا هذا المناخ الفاسد الذي صنعه التعليم المدني.

9- المادية على حساب الروحية
التعليم المدني ينمي عند الشباب الجوانب المادية وفي ذات الوقت هو لا يعير أي أهمية للجوانب الروحية، فخرج للمجتمع أجيال مبتورة غرائزية كل تفكيرها مادي استهلاكي، لديها ضعف بّين في اليقين بالرزق وأنه أمر محسوم إذا حسن التوكل على الله، وحسن التوكل على الله لا يتأتي إلا إذا كانت الجوانب الروحية عالية راقية، والمعادلة هنا مفقودة، فيحدث القلق وتنتشر الأمراض النفسية والعضوية، الناتجة عن تلك الحلقة الصراعية المادية.



10- التعليم المدني ووأد الطاقات الإبداعية
يلمس المتابع للواقع الإسلامي انتشار الكليات النظرية ذات المناهج الفلسفية والعلمانية ممحوقة البركة الربانية، وكيف أنها تمتص مئات الألوف من شباب المسلمين دون اكتشاف أو توظيف لملكاتهم وطاقاتهم الإبداعية والإنتاجية، فينتج عن ذلك قطاعاً عريضاً من الشباب المشتت المعطل، الذي لم يحصل العلوم الشرعية المحصنة والمؤمنة لمسيرته، ولم يتعلم العلوم النافعة التي تعمر وتنمي مجتمعه وتستوعب طاقاته ويعود نفعها عليه وعلى مجتمعه ونهضة أمته.

إن محصلة التعليم المدني العلماني منذ أن زاحم الشريعة الإسلامية وقفز فوقها وغيبها خريجوه، بحاجة إلى وقفة تقيمية من كل الأطراف، ابتداءً من رب الأسرة انتهاء بولاة الأمور مروراً بعلماء الأمة الربانيين، وقفة يعدل فيها المسار وفق إرادة الله سبحانه وتعالى لتعود البركة الممحوقة ويعم الرخاء المرفوع، وتزول غربة الشباب القائمة، ويستعيد المسلمون مجدهم الحضاري وتمكينهم الدنيوي الذي حصلوه يوم أن كان العلم يسير وفق مراد الشارع لا هوى الناظر.