وقفات مع قانون منع التدخين في الأماكن العامة!

بدأ تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن العامة في المملكة المتحدة بداية من 1/07/2007م، ولعلي قبل الدخول في صلب الموضوع أن أشير إلى المقصود بالأماكن العامة. فالمقصود بها هنا ليس المطارات أو الدوائر الحكومية ولا الشركات الخاصة، فهذه الأماكن منع فيها التدخين منذ زمن، بل لقد رأيت بعيني من يخرج منها ليدخن في البرد القارص أو الممطر لكي لا يخرق القانون، وكنت أقول بنفسي – متندراً- مساكين هؤلاء لا يملكون الشجاعة كما يملكها بعض الناس عندنا ممن يدخن في الأماكن العامة و فوق رأسه لافته "يمنع التدخين قطعيا" !!!

هذه المرة المقصود بالأماكن العامة في بريطانيا - حسب المحللين الذين تطرقوا لهذا القانون - هي جميع تلك الأماكن المغلقة التي يرتادها عامة الناس كالمطاعم والمقاهي وحتى تلك التي يشربون فيها الخمور أو الكحول أو ما يسمونها بلغتهم "البارات"!!
نعم قد تعجب أيها القارئ الكريم من ذلك ولكن عندما ترى حرص أولئك القوم – في الغالب الأعم- على كل ما هو من مصلحة الفرد وصحته وما يبذلونه من جهد كبير لذلك؛ سينقطع عجبك وتعلم أنهم أناس عمليون، جدّيون، يشرّعون القوانين لتطبيقها لا لمجرد التشريع فقط!!

فهاهم اليوم لما أدركوا خطورة التدخين السلبي (Passive Smoking) - وهو الدخان الذي ينبعث من المدخن و يستنشقه الشخص غير المدخن- وأن بعض الأبحاث الطبية تثبت أن ضرره أشد من التدخين نفسه؛ أقدموا على منع ذلك في الأماكن العامة. بل سمعت بعضهم في أحد البرامج الحوارية في التلفزيون البريطاني يناقشون إمكانية منع التدخين أمام الأطفال حتى لو كان المدخن في منزله الخاص حماية لأطفاله، ولكن يستدرك أحدهم فيقول: أن هذا الأمر صعب تطبيقه والمفترض في الآباء أنهم أباء واعون مدركون بمدى خطورة التدخين على صحتهم وعلى صحة أطفالهم؛ لذا فيجب عليهم أن يمتنعوا عن ذلك بأنفسهم.

ولعله بمناسبة هذا القانون أن يأذن لي القارئ الكريم أن أقف وإياه على عدة وقفات:
الوقفة الأولى: أن الدولة هي المسئولة في المقام الأول عن كل ما يسهم في تحقيق أمن الفرد بكل ما تعنيه كلمة "أمن". فحماية الفرد في الضرورات الخمس الدين والنفس والعرض والعقل والمال هي في المقام الأول مسئولية الدولة لـ"أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، والناس ليسوا كمّل لا يقترفون الأخطاء، ولأن بعضهم تطغى عنده "المصلحة الخاصة" على "المصلحة العامة" مما يسبب الضرر بالآخرين. ولا يتصور أبداً في ظل الولاية الشرعية وجود من يأخذ الحق بيده دون اللجوء إلى السلطة، ولو كان ذلك لعمت الفوضى وما أمن الناس على ضروراتهم الخمس عندئذٍ. لذا فيجب على الدولة القيام بتوفير الأمن للأفراد بالمعنى الشامل والكامل لكلمة "الأمن" وتشريع القوانين الجادة والصارمة في ذلك، ويجب على العلماء والعقلاء أيضاً بالوقوف مع الدولة بالكتابة والمناداة والتذكير بكل ما يسهم في تحقيق "الأمن" تحقيقاً لمبدأ النصح للأمة ولولي أمرها ولعامة المسلمين.

الوقفة الثانية: جاء هذا القانون ليقرر مبدأ "المصلحة العامة" وتقديمه على "المصلحة الخاصة" والتي – أي المصلحة العامة - هي مبدأ أصيل من مبادئ التشريع الإسلامي منذ مئات السنين وطالما نُقِدت من بعض المناصرين للمبدأ الغربي المنادي لـ"الحرية الشخصية" من العلمانيين وغيرهم ممن يتكلمون بلغتنا. ولو أن هذا القانون أعلن تطبيقه الفعلي في بلادنا قبلهم لوجدنا من هؤلاء القوم من ينبري لنقده وبيان عيوبه وصعوبة تطبيقه، وأظن أني لو حلفت على ذلك لم أكن حانثاً. ولكنها الهزيمة النفسية التي تنظر لكل ما هو فكرة غربية أنها الصواب والطريق المنجي لتخلف الأمة حتى ولو خالف ذلك معتقدات الأمة وقِيمها طالما أنه ستختم عليها "الكليشة" المعروفة "بما يتوافق مع العقيدة الإسلامية"، حيث يأتي من لا يُعرف عنه علم شرعي ولا دراية بمصالحها المعتبرة فيقرر ما يريد مما يخالف الشريعة الإسلامية ثم يختم قوله "بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية". وهؤلاء يذكروني بمن يضع على معلبات الأسماك والمأكولات البحرية عبارة "ذبح على الطريقة الإسلامية"!!

الوقفة الثالثة: لقد أُعلن هذا القانون الجديد قبل ما يقارب السنة من تطبيقه، وكان هناك من الحملات التوعوية ( لإقناع من لم يقتنع) بفائدة هذا القانون الكبيرة، وأرقام اتصال خصصت للاستشارات والاستفسارات عن ذلك، بل وكان هناك أيضاً البرامج الطبية للإقلاع عن التدخين والتي قد تكون مجانية أحياناً طوال هذه السنة وخاصة في الأشهر الأخيرة التي سبقت بداية تطبيق هذا القانون.
فهلا استفدنا من طريقة التوعية مع التشريع؟ فهي طريقة بحق تستحق الأخذ بها عند تشريع أو تفعيل قانون ما، والتوعية ليست شعارات تقال أو تردد هنا وهناك، بل إنها كل ما يسهم في زيادة الوعي الثقافي بأهمية أمر ما عن طريق البرامج الحوارية أو الدعائية أو الصحية وغيرها باستخدام الوسائل المتاحة.

الوقفة الرابعة: أني أأسف جداًً والله بأن أكتب هذا المقال عن دولة لا تؤمن بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:(لا ضرر ولا ضرر) ولكنه تطبقه على أرض الواقع، وكم كنت أتمنى أن أكتب مقالاً مشيداً بقانون جديد في المملكة يقضي بتفعيل القانون الموجود المانع من التدخين في الأماكن العامة. وكنت أتساءل ألسنا نحن أولى منهم بهذا القانون حماية لصحة الأفراد وأخذ الحق لهم من أؤلئك المدخنين الأنانيين الذين لا يرون إلا رغباتهم الشخصية فقط ولا يراعون صحة ولا شعور الآخرين؟!
وكم كان يحزنني والله عندما أسأل من بعض الناس وقد يكونوا غير مسلمين أصلاً كيف يكون التدخين مسموحاً به في المملكة وهي قبلة المسلمين ما دام أنه محرم شرعاً؟! بل على الأقل أين القوانين الصارمة التي تمنع التدخين في الأماكن العامة للحد من هذه الظاهرة السيئة والمزعجة للآخرين؟!

الوقفة الخامسة: إلى أخي المدخن –عافاه الله منه- إذا لم تقتنع أو لم تحن الفرصة للإقلاع عن التدخين فإن إخوانك غير المدخنين لهم الحق في استنشاق الهواء النقي فلا تحرمهم إياه، واعلم أن امتناعك عن التدخين في الأماكن العامة وأمام غير المدخنين لدليل على حسن خلقك وأدبك، وإن لم تفعل فاعلم أن ذلك داخل في عموم النهي عن إلحاق الضرر بالآخرين وستأثم مرتين، مرة عندما تُلحق الضرر بنفسك والثانية عندما تلحق الضرر بغيرك.

الوقفة السادسة: أنه في الوقت الذي نشكوا من التدخين في الأماكن العامة وما يسببه من أذى نفسي وصحي لغير المدخنين عن طريق التدخين السلبي ،إلا أن هناك ما هو أخطر من التدخين السلبي، لأننا قد نستطيع أن نتجنب المدخن وتنتهي عندها المشكلة. ولكن عندما يكون الضرر مما يصعب تجنبه كتلوث الهواء فستكون المشكلة أكبر وأعقد. وأوضح مثال على ذلك مصنع اليمامة للأسمنت بالرياض وما يسببه من ضرر وأذى كبيرين للناس. و والله إني أتعجب إلى متى السكوت عن هذا المصنع وعن مخلفاته الملوثة للبيئة والواضحة للعيان والتي لا تحتاج إلى بحوث ولا إلى دراسات، بل إن نظرة إلى سماء الرياض وما فيها من تلوث ، ونظرة أخرى إلى الجبال المحيطة بالمصنع وكيف تغير لونها من التلوث؛ لتكفيك كدليل بيّن على أثر التلوث الظاهر للعيان فقط من هذا المصنع.
كم يكفي من قتيل أو مصاب بالالتهاب الرئوي أو بالحساسية الصدرية بسبب هذا المصنع حتى يكون دافعاً لأصحاب القرار بنقل المصنع لمكان آخر. ألا يعلم صاحب القرار سواء من مجلس إدارة الشركة أو من المسئولين أنهم آثمون لما يلحقونه من ضرر على الناس بعدم نقل هذا المصنع؟! بل إن الطامة الكبرى عندما تعلم أيها القارئ الكريم أن المصنع لتوه انتهى من توسعة كبيرة لزيادة الطاقة الإنتاجية له وبالتالي كنتيجة طبيعية لزيادة التلوث!!

وكنت قد قرأت بعض الكتابات والمقالات في الصحف والتي يناشد فيها أصحابها المسئولين بنقل هذا المصنع، وكانت الردود تأتي غير مقنعة فقد كانت – حسب علمي - تتركز في ثلاثة أمور:
الأول: أنهم يقولون أنه لا يمكن نقله لوجود المواد الخام التي يحتاجها المصنع قريبة منه وعند نقله سيخسر المصنع هذه الميزة.
الثاني: أنهم يقولون أن عملية النقل تكلف الكثير!!
الثالث: أنهم يقولون بأن المشكلة قد حلت بوضع صفايات (فلترات) تمنع من إخراج التلوث.
ولا أظنه يخفى على القارئ الكريم أنه هذه الردود منطلقة من تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وإلا فأيهما أهم وأولى؟!
تحقيق المصلحة العامة وذلك بنقل هذا المصنع حماية لصحة الأفراد وحياتهم بل وما تحققها - أي المصلحة العامة - أيضاً من تقليل التكاليف المادية والجهود المبذولة من قبل الدولة متمثلة بوزارة الصحة والبلديات وغيرهما لمعالجة هذا الخلل البيئي؟
أو تحقيق المصلحة الخاصة بمراعاة التكاليف المادية التي سيبذلها ملاك المصنع عند نقله والتي يقتصر ضررها إن كان هناك ضرر على فئة خاصة؟!

أما بالنسبة للرد الثالث فهو قد يكون حل مؤقت وليس دائم، لأنه من المعلوم أنه هذه الصفايات تقلل من التلوث ولا تمنعه بالكلية، ثم إن عملية مراقبة المصنع في مدى إلتزامه بوضع هذه الصفايات وصيانتها أمر شاق ومكلف على الجهة المسئولة من الدولة بمراقبة ذلك، وقد رأيت بنفسي مرات عديدة أدخنة المصنع تخرج في الفترة المسائية، وكنت أتسأل هل هذه الأدخنة تخرج بالصدفة في هذا الوقت أم أنها طريقة للتهرب من عين الرقيب؟!!

الوقفة السابعة: على الرغم من أن هذا التشريع الجديد هو مخالف للقاعدة العريضة التي قام عليها القانون الغربي وهي "الحرية الشخصية"،والتي ملأ بها العالم ضجيجاً منادياً لمبدأ قانون "الحرية الفردية" وتطبيقه في المجال الاجتماعي والاقتصادي وغيرها من المجالات، فعلى رغم هذا كله، إلا أنهم اليوم يقررون تقييد هذه الحرية عندما تعدت هذه الحرية صاحبها فضرت الآخرين. جاء هذا التشريع عندما أدرك عقلائهم أن "المصلحة العامة" هنا أولى من "مصلحة الفرد" حتى وإن خالفت رغباته الشخصية وحريته الفردية، و لسان حالهم يقول: "المصلحة العامة" أولى من " المصلحة الخاصة".

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، أنه إذا كانت بريطانيا قد احتاجت إلى سنوات عديدة لكي تدرك أنه يجب عليها منع التدخين في الأماكن العامة ومحاربته حماية للأفراد غير المدخنين والذي تقتضيه "المصلحة العامة" وإن صادمت بذلك وحاربت قانون "الحرية الفردية"، فكم تحتاج بريطانيا من سنوات ومعها الغرب كله لإدراك خطورة "الحرية الشخصية" في القضايا الأخلاقية والتي لا شك أنها أخطر من التدخين؟
هل يتطلب ذلك ملايين وملايين اللقطاء؟ أم أمراض جديدة غير الإيدز والهربس والسيلان؟ أم المزيد من الانهيار الأخلاقي والتفكك الأسري؟ أم المزيد من الجرائم الأخلاقية؟

وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يصلح أمورنا وشأننا كله،ويوفق المسئولين لذلك، وأن يعيننا نحن أيضاً على التعاون والنصح لولي الأمر ولكل من أوكل له أمر من أمور العامة حيث (الدين النصيحة) وبالله التوفيق.