حين وقفت اليونان على رجل واحدة!

كثيراً ما يتندر أبناء عصرنا على أبناء العصور السابقة لإيمانهم بدعوى أن الكثير من الأمور الغرائبية كانت تسود بينهم، لكن انقلاب الموازين في أيامنا هذه لا يزال يذكرنا أن أيامنا تشكل استمرارا لزمان الغرائب والعجائب.

فعندما ترى أن خبر قذف السفارة الأميركية في أثينا بقذيفة من مخلفات الحرب الباردة لم ينتج عنه غير كسر زجاج واحد في واجهة السفارة المصونة، مقدم على خبر مقتل عشرات الأشخاص في العراق أو الصومال، تدرك أن الإنسانية بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لمبادئها ومعاييرها...

يوم الجمعة الماضي كان يوما غير عادي لكل اليونان، وقفت فيه البلد كلها على رجل واحدة: رئيس الوزراء ووزراؤه، أجهزة الأمن، الصحافة، المحللون السياسيون، الفضوليون والثرثارون، أصحاب النظريات التآمرية، خبراء المتفجرات، إلى آخر اللائحة التي لا تنتهي.

المكالمات ابتدأت منذ الصباح الباكر، إذاعات ومحطات فضائية تتلمس الأخبار و تحاول فهم ما جرى، وما أبعاد الحادث، ومن المتهم بالقيام به، وهل هناك من أثر لشرق أوسطيين أو عرب؟ وهل صرح السفير الأميركي بشيء ما؟ وهل هناك مضايقات للعرب والمسلمين في البلد؟

المحطات المحلية غيرت مسار برامجها المعتاد وأعلنت الطوارئ واستدعت من تعرف ولا تعرف من المعلقين، واشتد التنافس على أكثرهم ثرثرة وأوسعهم خيالا، وأغربهم تحليلا.

عندما ذهبت إلى مكان الحادث لنقل مباشر مع إحدى القنوات الناطقة بالعربية، كنت أنتظر أن يتم النقل من استديو شركة البث، لكن "ضخامة الحدث" ألهمت الفنيين والتقنيين هناك أن يتم البث من الرصيف المقابل للسفارة بحيث يرى المشاهد مكان "الضربة الآثمة" ويأخذ نكهة بسيطة عن ضخامة الجريمة وأبعادها ومستقبل البلد بعدها.

ولأن الوقت كان لا يزال مبكرا للبدء بالبث، فضلت أن أقوم بإلقاء نظرة على الخسائر التي منيت بها "السفارة العظمى"، ودون مبالغة احتجت-مثل كثير من الزملاء- إلى مساعدة المصور ليدلني على زجاج صغير مكسور بفعل صوت القنبلة التي أصابت السقف دون أن تخدش شيئا ذا قيمة في المبنى.

ويبدو أن مطلق القذيفة كان يريد أن يصيب شعار السفارة المتصدر للمنظر، ليوصل رسالة تحد وغضب لأصحابها، لكنه بسبب العجلة أو التوتر أو نقص الخبرة لم يصب الشعار الذي يبلغ طولا وعرضا حجم غرفة صغيرة.

عندما رأيت نتائج الهجوم المتهالك أدركت قيمة التعليقات التي أطلقها معلقون محليون وإقليميون حول الخبرات والتدريبات التي اكتسبها "الإرهابيون المحليون"، وحول ارتباط الهجوم بقضايا العراق وغيرها، واستفادة المهاجمين من الإرهاب العالمي إلى آخر التعليقات والتحليلات التي لا تستحق حتى وصفها بالتافهة.


ومع أن المهاجمين اتصلوا أكثر من مرة بجهات إعلامية محلية وأعلنوا فيها مسؤولية جماعة محلية يسارية عن الهجوم، فقد أبى الكثير من الضيوف الثقال إلا أن يجولوا بخيالهم شرقا وغربا، وأن يحلقوا في التاريخ والجغرافيا، وأن يستدعوا جميع نظريات المؤامرة للوصول إلى علاقة الهجوم بشيء ما يسمى الإرهاب الدولي، مما يعني أن البلد لا بد أن تتخذ المزيد من الإجراءات الأمنية وأن تنفق المزيد من المليارات على السياسات الدفاعية.

اليونان دفعت أموالا أكثر من طائلة خلال فترة الألعاب الأولمبية وذلك لصالح النواحي والخطط الأمنية، وكان ذلك بتحريض من الخبراء الأمنيين-خاصة الأميركيين- الذين صوروا أن البلد في عين الإرهاب العالمي وأن الرياضيين في خطر حقيقي، وأن الدورة مهددة بالإلغاء في حال عدم شراء أجهزة ومعدات أمنية.

هذه الحملات النفسية والتي كان معظمها من افتعال شركات بيع الأجهزة الأمنية أثمرت تماما، حيث دفعت جيوب دافعي الضرائب اليونانيين ثمنا باهظا لأجهزة تصوير ومراقبة لم ترقب أي تحرك مريب، بينما كان الكثير من رجال الأمن المرافقين للرياضيين الأجانب يقضون أوقاتهم في التسوق وتذوق الأطعمة والأشربة المحلية.


منظر الزجاج المكسور الذي جاء خبرا أول في معظم القنوات الدولية، فضلا عن المحلية، يشعرك بكثير من الأسى والحسرة، فقد غطى هذا الزجاج المحظوظ على أخبار الكثير من الأرواح البريئة التي أزهقت ظلما وعدوانا في نفس اليوم، ثم استكمالا لمسلسل الظلم لم تجد من يتكلم عن وفاتها في وسيلة إعلامية، لأن الإعلام المبجل كان مشغولا تماما بأخبار وتطورات الزجاج المصون.

ولولا أن كل عربي وشرق أوسطي سيكون أول متهم في مثل هذه المسائل لنصحنا المظلومين والمنكوبين وفاقدي الحرية بأن يهرولوا ويعرضوا مظالمهم ونكباتهم ومصائبهم قرب الزجاج المنكوب، عسى أن تحظى بصورة خاطفة من مصور ساهٍ، فقد يسمع بها الرأي العالمي ويرثي لها.

طبعا الأمر يجب أن يتم قبل أن يصلح مسؤولو الصيانة الزجاج الشهير.