أسس السياسة الشرعية (12) قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم .

هذه القاعدة تجمع أصلين :

الأول : الأصل في المنافع الإباحة .

والمراد به : أنّ المنافع (1) التي لم يرد بشأنها دليل من الشارع ؛ فالقـاعدة في حكمها : الإباحة ؛ حتّى يثبت خلافها الذي هو المنع.

قال إمام الحرمين الجويني : " فما لم يُعلَم فيه تحريم يجري على حكم الحِلِّ ؛ والسبب فيه أنَّه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غير مستند إلى دليل ؛ فإذا انتفى دليل التحريم ثَمَّ ، استحال الحكم به " (2) .

وقال : " من الأصول التي آل إليها مجامع الكلام أنَّه إذا لم يُسْتَيْقَن حجرٌ أو حظرٌ من الشارع في شيءٍ ؛ فلا يثبت فيه تحريم في خلو الزمان " (3) .

وقال أبو العباس ابن تيمية : " وأمَّا العادات فهي ما اعتاده النَّاس في دنياهم مما يحتاجون إليه ؛ والأصل فيها عدم الحظر ؛ فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى … والعادات الأصل فيها العفو ؛ فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه وإلا لدخلنا في قول الله تعالى : {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا} … " (4) .

حجية الاستدلال بهذا الأصل :

استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :

1- قول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [ المائدة :4] قالوا : إذ ليس المراد بالطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً ، وذلك يقتضي حلّ المنافع بأسرها (5) .

2- وقوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [سورة البقرة : 29] ؛ حيث إنَّ الله عز وجل ذكر ذلك في معرض الامتنان ، ولا يمتن إلا بالجائز ، واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة (6) .

3- وقوله سبحانه : } قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام : 145] ؛ حيث جعل الله عز وجل الأصل الإباحة ، والتحريمَ مستثنى منه (7) .
وتأمل استدلال أبي العباس ابن تيمية رحمه الله بآية يونس في النقل عنه أعلاه ، فما ألطفه من استدلال !

4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ )) (8) ؛ حيث ربط صلى الله عليه وسلم التحريم بالمسألة ، ومقتضاه أنَّه كان مباحاً قبل ذلك (9).

5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( مَا أَحَلَّ اللهُ في كِتَابِهِ فَهو حَلالٌ ، وَ مَا حَرَّمَ فهو حرَامٌ ، وَ ما سَكَتَ عنهُ فهو عَفْوٌ ، فَاقبَلُوا من اللهِ عافِيَتَه ، فَإنَّ اللهَ لم يكنْ لِيَنْسى شَيْئاً )) وتلى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] (10) ؛ إذ هو صريح في العفو عمَّا سُكِتَ عنه ، و المعفو عنه هو ما لا حرج في فعله ، وما لا حرج في فعله هو المباح ، وهو محمول على المنافع لا على غيرها ؛ لأنَّ المضار ورد بِشأنها ما يدلُّ على تحريمها مطلقاً ، كما سيأتي في الاستدلال للشطر الثاني من هذه الطريق (11) .

والثاني : الأصل في المضارّ التحريم .

وقد يعبر بـ( ـالمنع ) أو ( الحظر ) بدل ( التحريم ) .

والمراد به : أنَّ ما لم يرد بشأنه دليل من الشارع من المضار فالقاعدة في حكمه ، التحريم (12) ؛ حتى يثبت خلافه .

قال القرافي : " الأصل في المنافع : الإذن ، وفي المضار المنع ، بأدلة السمع " (13) .

وقال الإسنوي : " وأمَّا بعد الشرع ؛ فمقتضى الأدلة الشرعية أن الأصل في المنافع الإباحة … وفي المضار – أي مؤلمات القلوب – هو التحريم " (14) .

حجية الاستدلال بهذا الأصل :

استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :

1- جميـع الآيـات التي دلَّت على تحريـم الضـرر ومنعـه ؛ من مثل قـول الله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة :233] ، وقوله سبحانه : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [البقرة:231] ، وقوله تعالى : {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة :282] ، وقوله سبحانه : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } [النساء : 12] ، وقوله تعالى : {وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } [الطلاق :6] ، وقوله تعالى : } وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف : 56] ؛ فهي وإن كانت في قضايا جزئية إلا أنَّ استقراءها يدل على قصد الشارع تحريم كلَّ أنواع الضرر ، ويفيد ذلك أصلاً كلياً يُرجع إليه في كلِّ ما كان من هذا القبيل (15) .

2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ضَرَرَ و لا ضِرَار )) (16) ؛ فإنَّه دالٌّ على نفي الضرر مطلقاً ؛ لأنَّه جاء نكرةً في سياق النفي ، والنَّكرة في سياق النفي تعم (17) ؛ قال الزرقاني : " فيه تحريم جميع أنواع الضرر إلا بدليل " (18) .

وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن سنة الخلفاء الراشدين ، وهي ختام محور أسس السياسة الشرعية وأهم طرق استنباطها التي ينبغي بيانها وتقريبها لمن رام تمييز السياسة الشرعية عن غيرها من السياسات .

----------------------
(1) وقد يعبر عنها بـ " العادات " ؛ لتكون في مقابل العبادات ، إذ الأصل فيها التوقيف .
(2) غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 490 ، وينظر : 502 .
(3) المصدر السابق : 509-510 .
(4) القواعد النورانية الفقهية : 176 ، ط1-1416 ، طبعة دار الفتح : الشارقة .
(5) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 ؛ و رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 396
(6) الإمام في بيان أدلّة الأحكام ، لابن عبد السلام : 86 ، 173 ؛ والمصدرين السابقين .
(7) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 .
(8) رواه البخاري : ك/ الاعتصـام بالكتـاب والسنَّة ، ب/ ما يُكره من كثرة السُّؤال ، ومن تكلُّف ما لا يعنيه وقولـه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة :101] ، ح(7289) ؛ ورواه مسلم : ك/ الفضائل ، ب/ توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار السؤال عمَّا لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك ، ح(2358) واللفظ له .
(9) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411-412 ؛ ورفـع الحـرج في الشريعـة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 399.
(10) رواه البزار - كما في - كشف الأستار عن زوائد البزار ، لنور الدين الهيثمي : 1/78، ح(123) و 3/58 ، ح(2231) ، ط2-1404، ت/حبيب الرحمن الأعظمي ، مؤسسة الرسالة : بيروت – ؛ والحاكم : 2/375 ؛ والدار قطني في السنن [ مع التعليق المغني ] : 2/137، ط- فالكون ، حديث أكادمي : لاهور ؛ والبيهقي في السنن الكبرى : 10/12 ؛ وغيرهم .
(11) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 398 ، وقد استَدَلَّ بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّه قال : (( الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَـتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّـا عَفَـا عَنْهُ )) وهـذا حديث فيه مقال ، ويغني عنه الحديث المذكور هنا بمعناه ؛ وينظر : العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي ، منيب بن محمود شاكر : 112 .
(12) ينظر : إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/409 ؛ و المصدر السابق : 393-394 .
(13) الذخيرة : 1/151 .
(14) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول : 487 .
(15) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 406 .
(16) رواه ابن ماجه : ك/ الأحكام ، ب/ من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره ، ح(2340) ؛ وغيره .
درجته : صححه الحاكم ، ولم يتعقبه الذهبي (المستدرك : 2/58) ؛ وقال ابن الصلاح : " هذا الحديث أسنده الدار قطني من وجوه ، و مجموعها يقوِّي الحديث ويُحَسِّنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به " . ذكره عنه ابن رجب ، في : جامع العلوم والحكم : 2/211 ؛ وقال النووي : " له طرق يقوي بعضها بعضا " . الأربعين النووية [مع جامع العلوم والحكم ] : 2/207 ؛ وقال العلائي : " للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به " . ذكره عنه المناوي ، في : فيض القدير :6/432 ، دار الفكر : بيروت ؛ وأكد ابن رجب قول النووي السابق (جامع العلوم والحكم :2/210) ؛ ومن المعاصرين قال الشيخ أحمد شاكر : " وخلاصة القول أنا نرى أنَّ حديث أبي سعيد ، حديث صحيح ، والروايات الأخرى شواهد له ، تقوي القول بصحته ، والله أعلم " . تحقيقه لكتاب : الخراج ، ليحيى بن آدم (ت/203) : 95 [ آخر الحاشية (3) من ص : 93] ، ط2، تحقيق وشرح وفهرسة / أحمد محمد شاكر ، مكتبة دار التراث : القاهرة ؛ وصححه الألباني في أكثر من موضع من كتبه ( إرواء الغليل : 3/408) ح(896) .
(17) ينظر : التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ، للإسنوي : 487 .
(18) شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4/32 .