الذبح على الطريقة الفرنسية!

الحيوان بطبعه مسخر للإنسان, ولهذا كان هذا الجنس محلاً لانتفاع الآدمي بالذبح أو غيره من وسائل الانتفاع المباحة, واللافت للنظر هذه الأيام أن الحيوان لم يعد هو المستهدف بالذبح, بل أصبح الإنسان البريء هو الآخر مستهدفاً أيضاً, لا بل أضحى الذبح بغير سكين للقيم الأخلاقية, وللمبادئ الإنسانية! والتي غدت شعارات جوفاء مجردة من معانيها, لاسيما في فم من بح صوته برفع هذه الشعارات, وبالتلويح بهذه اللافتات, وممن لا يزال يدعي المحافظة على تلك القيم, ولا يستحي من هذه الدعوى, وهو يركلها يومياً برجله, ويطؤها بقدمه, بل ويجعلها هدفاً لأسلحته, فيدكها بصواريخه, ويفنيها بطائراته وراجماته, حتى أصبحت تلك المعاني الإنسانية الجميلة أثراً بعد عين, ولعلكم عرفتم الآن من هو الذابح والمذبوح, ومن هو الجلاد والضحية, ولذا لا أرى حاجة للقول: بأن الجلاد هو أمريكا, والضحية هي الحرية والمعاني الإنسانية...!

فهاهم ضحايا الحرية المزعومة في العراق يتساقطون يوماً بعد يوم, بل ساعة إثر ساعة, حتى غدا عددهم حسب آخر إحصائية (655000 قتيلا عراقيا!!) ناهيك عن الأعداد المهولة من الجرحى, والأرامل, والأيتام, فضلاً عن تخريب البيوت والممتلكات, وتدمير البنى الفوقية والتحتية.

وإذا كان ذبح الحيوان عندنا على الطريقة الإسلامية, فإن أمريكا اليوم قد ذبحت الحرية في العراق على الطريقة الفرنسية!! نعم على الطريقة الفرنسية؛ حيث كانت فرنسا الأمس كأمريكا اليوم, كانت دولة عظمى أو كادت, وظلت ترفع شعار الحرية وما شابهها من الشعارات البراقة؛ وذلك لتدس أنفها في شؤون الآخرين, فتسرق الخيرات, وتنهب المقدرات, حتى إذا انقضت على فريستها, وتمكنت منها عبر معاهدة (سايكس بيكو) سيئة الصيت, نسيت أو تناست تلك القيم, وأدارت ظهرها لتلك المبادئ والمثل, بل وقامت- وهي دولة ذات أصول كتابية- بذبحها إلى غير القبلة, ودون أن تذكر اسم الله عليها.

ولندع الحديث للشيخ علي الطنطاوي الذي عاش زمن الاحتلال الفرنسي لسوريا قبل ثمانين سنة, ليبين لنا شكل الحرية الذي بشرت به فرنسا في تلك الحقبة, يقول _رحمه الله_ في ذكرياته (1/212): "وكان الفرنسيون أصحاب الثورة الكبرى التي يدّعون أنها قامت لنشر العدالة, والمساواة, والحرية... فرنسا أم الحرية ذبحت الحرية في الشام, أقامت القلاع على جبل قاسيون في دمشق, وعلى جبل المزة, لا لرد العدو عنها, بل لرد أهلها عن استرداد حريتهم ممن عدا عليها, والذي عدا عليها أمها.. أم الحرية فرنسا!...حاربت البيوت, فهدمت الجدران, ودكت الأركان, وأزالت العمران...لقد أساءت فرنسا يومئذ إلى تاريخها, ولطخت الصفحات البيض من أدب أدبائها بالطين"أهـ.

هكذا ذبحت فرنسا الحرية في دمشق, وفي موقعة ميسلون الشهيرة وغيرها, فسفكت الدماء, وأفسدت الممتلكات, وهاهو التاريخ يعيد نفسه, حيث تعيد أمريكا الكرة, فتذبح الحرية بنفس السكين, وبذات الطريقة, حتى بلغ القتلى العراقيون أكثر من نصف مليون قتيل!
فما هي الحرية التي تريدها أمريكا للعراقيين, والتي طالما كانت تبشر بها؟ أهي الدماء البريئة التي سفكتها حتى ملأت الأزقة والسكك, أم هي الحرب الطائفية التي أشعلت فتيلها وأوقدت نارها حتى أتت على الأخضر واليابس, أم هي الخوف والرعب الذي ملأ النفوس مذ وطأت أقدام المستعمر أرض العراق؟

بئست الحرية هذه التي أتت بالدمار وخراب الديار, وعزاؤنا في هذا المحتل الأمريكي أن جنوده يشاطرون العراقيين في كعكة الحرية هذه, وأنه سيأتي اليوم الذي يعود فيه المحتل أدراجه, وينكمش ويتضاءل, كما عادت فرنسا إلى سابق عهدها, وكما عادت بريطانيا العظمى إلى سابق عهدها, والتي- كما قال الطنطاوي - لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها في القارات الخمس, فانكمشت وتضاءلت, ورجعت إلى حقيقتها, وانزوت في جزيرتها, فلم تعد تطلع عليها الشمس إلا أياماً معدودة طوال العام!!